تطالعنا البحوث بين الفينة والأخرى، بما يثير قلقنا إزاء ما يوجد من معادن في عدد من المنتجات التي نستهلكها يوميا، كالرصاص والنحاس والألمنيوم؛ فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا مقالا ونشرته فوربس أثار مخاوف جديدة عن مخاطر هذه المعادن في أحمر الشفاه مثلا.
كما سبقت الإشارة من خلال بحث آخر، إلى وجود علاقة تربط بين النحاس والإصابة بمرض الزهايمر، مما يزيد من مشاعر القلق، لاسيما أن النحاس يتوافر في عدد كبير من المواد المستهلكة، بما فيها مياه الشرب. إذا لهذه المخاوف دواع حقيقية؟ وكما هي الحال دائما مع البحوث المتعلقة بوجود روابط معينة بين الأشياء، فإن الجواب يكون بنعم ولا في آن واحد. لنبدأ أولا بالنظر في مبررات الإجابة (لا): إن البحث الذي نتحدث عنه يلمح إلى اكتشاف روابط- وليس علاقات سببية- بين استهلاك نسب متفاوتة من المعادن، وحدوث ضرر على صحتنا.
كما أن المعايير التي تضعها الهيئات الصحية المختصة، تسمح بإضافة مقادير محددة من المعادن في الأطعمة والمنتجات الأخرى، ويتم ذلك بناء على بحوث تفيد بأن وجود هذا المعدن أو ذاك بكميات بسيطة آمن ولا يشكل خطرا صحيا.
وهذا ينطبق أيضا على المعادن التي نعلم قطعا أنها تسمم الخلايا البشرية، مثل: الزرنيخ المعدني. لذلك، إن كنا نتحدث عن نسبة المعادن المستهلكة ضمن المستوى الطبيعي، فليس هناك من دافع قوي للشعور بالقلق. أما مبررات الإجابة (نعم): فالمسألة لا تتعلق بمتوسط المعادن المستهلكة، وإنما بمقدار النحاس والرصاص والألمنيوم والكروم والكادميوم… إلخ، الذي يتراكم في أجسادنا مع مرور الوقت. إن الدراسة الأخيرة التي أظهرت رابطا بين النحاس ومرض الزهايمر، لا تفيد بأن وجود النحاس بكثرة في مياه الشرب يسبب المشكلات- بل تشير إلى أن ترسب المعدن في الدماغ يتلف الحاجز بينه وبين الدم مع مرور الأيام، مما يؤدي بدوره إلى تكدس سمي للبروتين (أميلويد بيتا) الذي يلعب دورا رئيسا في الإصابة بالزهايمر.
وينطبق الأمر ذاته على كمية الرصاص الموجودة في أحمر الشفاه (وهو واحد من معادن كثيرة أخرى تدخل في صناعته)؛ ففي حين أن مقدار المعدن الذي يحتويه أحمر الشفاه لدى استعماله لمرة واحدة يوميا لا يدعو للقلق، فنحن لسنا على يقين أن ما يترسب منه في جسم الإنسان آمن تماما. من ناحية أخرى، نعلم جميعنا أن وجود الرصاص في أدمغة الأطفال يشكل خطرا كبيرا على نموها؛ فالدم الذي يحتوي ولو على قدر ضئيل من الرصاص عند الأطفال، يمكن أن يؤدي إلى حدوث عواقب وخيمة، مثل: انخفاض معدل الذكاء. وبالرغم من أن الدراسة لا توضح بصورة قاطعة مخاطر تنامي نسبة الرصاص على أدمغة البالغين، إلا أن احتواء الجسم البشري على كميات كبيرة منه يسبب التسمم قطعا. ويكمن القلق المتعلق بأحمر الشفاه، في استخدامه من قبل السيدات لمرات عديدة يوميا. وإذا افترضنا أن المرأة تضعه بمعدل 12 مرة في اليوم الواحد، فهذا يعني أن كميات كبيرة منه ستستخدم خلال العام الواحد إجمالا، وكميات أكبر على مدى الأعوام اللاحقة. ومع أننا عاجزون حتى الآن عن تحديد مقدار الرصاص الذي يمتصه الجسم بمرور الوقت، إلا أننا واثقون من أنه يتراكم فيه لا محالة.
لا شك أن البحوث ستستمر لإيجاد الأجوبة على هذه التساؤلات، لكن ينبغي في غضون ذلك أن ينتشر الوعي بالمخاطر المحتملة، وأن يبدأ الناس بأخذ الحيطة والحذر. فتجنب التعرض المفرط للخطر عن طريق استعمال فلتر للمياه، أو التقليل من وضع أحمر الشفاه ليس بالإجراء الصعب، بل لعله يكون مهما للغاية في الحفاظ على صحتنا على المدى البعيد.