السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أقدم بين يديكم سلسلة أبحاث "الأبعاد الثلاثة للعلاقة الزوجية" لحجة الإسلام والمسلمين سماحة الأستاذ بناهيان.
الأبعاد الثلاثة للعلاقة الزوجية
البعد العرفاني
لايمكننا الكلام عن العلاقة الزوجية بشفافية ووضوح
أود أولا وقبل الدخول في الكلام عن العلاقات بين الرجل والمرأة؛ سواء أكانت في إطار الزواج أم في إطار اختيار الزوج أم في إطار أي علاقة يمكن تصورها مثل العلاقة بين الأب وابنته وبين الأخ وأخته أو العلاقة بين الأم و ابنها وباقي العلاقات التي يمكن أن تحصل بين باقي المحارم وكذلك في إطار العلاقات الاجتماعية بين الرجل و المرأة.... أود استرعاء انتباهكم إلى موضوع مهم؛ إلى موضوع منسي ومغفول عنه بطبيعة الحال.
ليس بإمكاني أن أخوض في هذا الموضوع وأتحدث فيه كما أتحدث في غيره من المواضيع، بيد أني أحب أن أجلب انتباهكم لتنظروا من هذه الزاوية إلى موضوع العلاقة بين الرجل والمرأة.
نحن نأمل ونرجو الله تعالى أن يأتي اليوم الذي تتعامل فيه مجتمعاتنا الإسلامية باستيعاب أكثر مما هي عليه الآن مع موضوع الزواج والعلاقات بين الرجل والمرأة. فعندها يتسنّى لنا الكلام عن هذا الموضوع بشفافيّة ووضوح أكثر.
ليس السبب في عدم إمكان الكلام بشفافية بشأن العلاقات بين الرجل والمرأة داخل الأسرة، هو المسائل الدينية والأحكام الشرعية والحرمات الموجودة في البين. فقد يُتصور بأن الدين هو الذي يقف حجر عثرة أمام الكلام الصريح عن هذا الموضوع؛ أو أنّ عادات مجتمعنا وتقاليده التي تتعامل مع هذا الموضوع بنوع من الحياء والعفاف هي التي تمنعنا من ذلك. بيد أنه لا الدين ولا عادات المجتمع وتقاليده ليست هي المانع أمام هذا البحث الذي نرغب في تقديمه لكم الآن كتقرير ودراسة عن المعارف الدينية بشأن العلاقات بين الرجل والمرأة، ونشعر بعدم إمكان الخوض فيه بشكل شفاف لا غبار عليه. بل إن كثيرا من الموانع قد أتتنا من الثقافة الغربية التي تغلغلت في أوساطنا ولا زالت بعض وسائلنا الإعلامية تسوّق لها. ولا يلتفت إلى أن هذه الثقافة كم لها من دور سلبي في التعتيم على الكثير من الحقائق المرتبطة بالعلاقة بين الرجل والمرأة.
إن الثقافة الغربية المعاصرة قد ألجمت الألسن وصمّت الفكر وأعمت البصر. فلا نعد نرى كثيرا من الألطاف الإلهية التي أودعها الله في هذه العلاقات. فقد عكّروا الأجواء إلى حد ّ لم نعد ننظر لهذه العلاقة المتبادلة بين المرأة والرجل إلا بنظرة سيئة لا يمكن التقرّب منها.
تعتبر هذه العلاقة في الثقافة الإسلامية علاقة رفيعة الجانب ووديعة وفي نفس الوقت تحمل كثيرا من القدسية والروحانية. بيد أن الغرب عملوا على أن نتعامل معها كأمر غير محترم. عملوا على كمّ أفواهنا عن الكلام عن هذا الموضوع.
لماذا حصل هذا الأمر؟ السبب هو عدم النظر إلى مسألة العلاقة بين المرأة و الرجل من هذه الزاوية التي نود تقديمها لكم في هذه المقدمة. فنحن لا نريد هنا إلا بيان هذه الزاوية ونترك البحث.
العلاقة بين المرأة والرجل، علاقة معنوية وعرفانية
لو نظرنا إلى العلاقة بين الرجل والمرأة بنظرة عرفانية لألفيناها علاقة رقيقة جدّا وتحمل بين طيّاتها كلاما كثيرا، وقد تناول العرفاء في الأدب القديم جزء كبيرا منه، بيد أنهم لم يتناولوا كلّ جوانبه. فجمال المرأة بالأدب العرفاني بالنسبة للرجل يدفعه دائما إلى ذكر الله تعالى وقد أحسنوا في ذلك. فما نرى في الإستعارات العرفانية من استخدام بعض التشبيهات كزلف الحبيب أو أهدابه أو عينيه الناعسة أو خال خدّه أو دلاله وغنجه و... فهذه كلها لها معانٍ عرفانية، لا أنهم مجبرون على ملئ أدبهم بأمثال هذه الكلمات. فهي إذن علاقة ثنائية الأطراف. فلو حسنت علاقة الإنسان بربّه ستضفي هذه العلاقة على علاقته بالجنس الآخر صبغة إلهية وسينظر إليها بنظرة إلهية أيضا، فهذه العلاقة مما تساعد المرء على تعزيز علاقته بربّه لو نظر إليها بنظرة جيدة.
لا بأس أن نصعّد من مستوى صراحة الكلام ومصداقيته ولا نسترسل في الحديث بغموض. ففي دلال المرأة ورقّتها تتجلّى بعض أسماء الله الجماليّة. كما وتتجلى في المقابل بعض الصفات الجلالية في قدرة الرجل وصلابته وبعض صفاته الآخرى. وبعبارة أخرى باستطاعة المرأة والرجل أن يكونا آية من آيات الله تعالى. وتصبح علاقتهما وسيلة لرقيّهما وتكاملهما.
أما الكلام عن أقسام وأنواع العلاقات بين المرأة والرجل في العرفان فكثير جدّا، سواء أكان عن العلاقات في المجتمع أو بين المحارم ومن ضمنها علاقة المرأة والرجل داخل البيت الواحد التي هي حصيلة الزواج، بيد أنه لم يُتناول وللأسف البحث عن هذا الموضوع بشكل كامل.
لماذا قال النبي الأكرم (ص): إني أحب النساء؟ فلو تكلم شاب اليوم بهذا الكلام - وبالطبع بالمعنى العرفاني للكلمة- سيتّهم بشئ آخر. وهذا ممّا يدلّ على أن مجتمعاتنا لم تنظر إلى البعد العرفاني لهذه العلاقة. نأمل من الله أن يأتي زمان تستطيع به مجتمعاتنا أن تتخلى عن كثير من التحرّجات السخيفة، ويمكنها الكلام عندئذ عن هذه العلاقة بحرّية.
فلم يفعل الله سبحانه وتعالى في هذا الكون لهذا الإنسان فعلا، ولم يخلق شيئا إلا وله صلة بقرب الإنسان بربه سبحانه وتعالى. فجعل الله كل شيء وسيلة للتقرب إليه بشرط أن ننظر إليه بنظرة التقرب.
أصبحت المرأة في الثقافة الغربية رمزا للشيطان
إن الثقافة الغربية المعاصرة - وبسبب تغلغلها في مجتمعاتنا الإسلامية - وقفت حجر عثرة أمام طرح هذه المسائل والتكلم بها بهذه الطريقة بالتحديد. فقد وصل بنا الأمر إلى أن تدخل الثقافة اليهودية والمسيحية المحرّفة إلى الأمم الإسلامية، وللأسف نجد في بعض الأحيان مظاهر هذه الثقافات وانعكاساتها حتى في وسائل الإعلام الإسلامية. فعلى سبيل المثال إن أرادوا تمثيل دور الشيطان يأتوا بمرأة لأداء دوره. إن هذه الظاهرة من الأمور الدخيلة على ثقافتنا الإسلامية، وقد راجت في الثقافة المسيحية في عصور القرون الوسطى. في تلك الثقافة كان الشيطان يُجَسّد بصورة مرأة. فلماذا نطوي نحن نفس الطريق الذي رسموه لنا سابقا؟
إن هذه النظرة للمرأة لم تكن إلا حصيلة التأثر بالثقافة المحرّفة التي بموجبها لو أراد الرجل أن يكون صالحا، عليه أولا أن يبتعد عن المرأة، وكذلك لو أرادت المرأة أن تكون صالحة عليها أن تبتعد عن الرجل ولا ترتبط به. فهذه الثقافة اليوم هي الغالبة مع الأسف، وقد تمخضت من هذه الثقافة هذه الرؤية وهي: إن العلاقة بين المرأة والرجل أولا وفي ذاتها سيئة ثم بعد ذلك ندخل إلى الإسلام لنرى ماذا أعطى من طرق وتعاليم في سبيل تحسين هذه العلاقة وتجويزها. مع أن هذه الرؤية لم تكن منذ الأساس رؤية إسلامية. من قال بأن العلاقة بين المرأة و الرجل هي سيئة في ذاتها إبتداءً؟
على أيّ حال، لاينظر أحد إلى الأبعاد العرفانية والمعنوية في هذه العلاقة، ولا يسأل أحد عن مدى ارتباط هذه العلاقة بتقربه ووصوله إلى الله عزّ وجل. فلم تُطرح هذه المسألة لأي أحد بهذا الشكل؛ أي عندما، يرتعش قلب الإنسان أثناء مواجهته للجنس الآخر، كيف يمكنه أن يحلّل هذا الشعور بالرؤية العرفانية؟ وأساسا لماذا أودع الله سبحانه هذه الرغبة في وجودنا؟ وهل عندما نشعر بهذه الرغبة نتحول إلى حيوانات؟ وهل هذه الرغبة بمعنى أننا صرنا من أصحاب النار؟ وهل كل ارتعاش قلب مدعاة لغضب الجبار؟
صحيحٌ ان حاجة شبابنا المعاصر في مجتمعاتنا الدينية إلى معرفة الأحكام الإسلامية في العلاقة بين المرأة والرجل أكثر من حاجتهم إلى معرفة أسرارها العرفانية،ولكن على أساس رأي الإمام الخميني (ره)، إن الاهتمام بالأحكام الشرعية بمعزل عن الاهتمام بأسرارها العرفانية، خيانة للدين. حيث يقول ما مضمونه: "من يعلّم الأحكام الشرعية للآخرين وينشرها بمعزل عن أسرارها العرفانية ومن غير أن تحصل له أيّ التفاتة إلى أبعادها العرفانية، فقد خان الدين."
من أراد تعليم الصلاة أو الحجاب أو غيرها من الأحكام الإسلامية الأخرى، ولم يبيّن أبعادها العرفاني فقد أعطى صورة مشوّهة للدين ومن ثمّ فإنه قد خان الدين.
فعندما تصبح الصلاة في المجتمع طقوسا جامدة وبمعزل عن بعدها العرفاني، وعندما يقام الحج بعيدا عن الالتفات إلى بعده العرفاني و... سيتحول الدين عندئذ إلى أمر بارد خشن.
وعندئذ لاينفع الدين إلا المتزمّتين المتظاهرين بالقداسة. ولا ينتفع بالدين إلاّ نفس هؤلاء المتزمّتين المتظاهرين بالقداسة والمتحجرون.
بالإضافة إلى أنه سوف لا يمكن فهم كثير من الأحكام الإسلامية التي تعنى بالعلاقة بين المرأة والرجل إلا بتشخيص أسرارها العرفانية. فلماذا مثلا يلزم على المرأة المطلقة الصبر مدة من الزمن حتى يمكنها الزواج مرة أخرى؟ فما صلة هذا الحكم برقة المرأة ولطافتها؟ وما صلته بوظيفة روح المرأة الرقيقة في المسائل العرفانية؟ ولماذا يُشترط إذن الأب في زواج البنت؟ وهناك الكثير من المسائل والتساؤلات الأخرى، التي لايمكن حلّها وتحليلها وفهمها إلا بتبيين أسرارها العرفانية.
ومن المسائل الأخرى في هذا العداد هي مسألة الحجاب. وأنا على اطمئنان بأن نساءنا لن يقدرن على التعاطي الحسن مع الحجاب ما لم يعالجن الموضوع من خلال الرؤية العرفانية؛ كما أنه ما لم يدرك الرجال قضية حجاب النظر عبر الرؤية العرفانية، لا يمكنهم الوقوف أمام التلهّي بالنظر إلى البنات.
إن مجتمعنا وللأسف لايملك الاستعداد على تقبل هذه الرؤى، لأن ثقافته لم تعُد ثقافة إسلامية، بل هي ثقافة ممزوجة من الثقافة المسيحية وثقافتنا التقليدية والثقافة الإسلامية، ولا سيّما فيما له الصلة بالعلاقات بين المرأة والرجل.
نحن الآن بصدد بيان البعد العرفاني للمسألة وأشرنا إلى ذلك وكان همّنا الأكبر هو التذكير بأن هذه المسألة من المسائل التي ووجهت بالغفلة في مجتمعاتنا الإسلامية. ونريد الآن تناول بعض آثار هذه الغفلة والتحقيق فيها.
يتبع إن شاء الله...