هزاع المجالي: الشهيد الحي
هزاع البراري - إنه أبن الثورة بلا منازع ، فلقد أنتبذت به أمه بلدة ماعين البلقاوية قادمة من الكرك ، ليعلن صرخة مولده بين أخواله (الونديين) سنة 1917م، بعد أن تركه والده بركات جنينا في بطن أمه ، والتحق بجيش الثورة العربية الكبرى بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، الذي دخل العقبة في مرحلة حاسمة من تاريخ الأمة العربية، فكان قدر هزاع المجالي أن ولد في لحظة نضالية أدخلته في خضم مرحلة التغيير ، فكان ما قام به لاحقا استكمالا لحقبة التأسيس النضالي الحديث التي شارك بها والده سابقا، وقد شاء القدر أن تترعرع طفولته في ربوع ماعين بين مضارب أخواله، بعد انفصال والديه عن بعضهم البعض ، فنشأ بعيدا عن أعمامه في الكرك، ربما هذا منح شخصيته فيما بعد الجدية والأعتماد على النفس ، والنظرة السابرة للأمور ، وهي صفات برزت في شخصيته كسمات أساسية.
تلقى هزاع تعليما جيدا في صباه على يد جده لأمه الذي كان شيخا لعشيرة الونديين ، فحفظه القرآن الكريم والمعلقات السبع، بالإضافة إلى التاريخ والجغرافيا وبعض مبادىء العلوم الأخرى، غير أن قسوة الحياة والأقدار المحتومة ، لم تترك حياة هزاع المجالي على وتيرتها ، فما كاد يبلغ العاشرة حتى فقد جدته التى تكفلت برعايته ، وبعد ذلك بفترة قصيرة توفي خاله الذي تولى رعايته بعد جدته ، في تلك اللحظة المؤلمة في طفولة هزاع ، لملم حاجياته وقفل عائدا إلى الكرك، وبرعاية والده هذه المرة، ولحبه للعلم ألتحق بمدرسة الكرك، وهنا سرعان ما تكشفت عقليته القيادية والوطنية في فترة مبكرة من عمره ، فلقد قاد فرقة الكشافة في المدرسة ، ودفعها للقيام بعدة رحلات استكشافية في المنطقة ، لتتضح للمتفحص توجهات هذا الفتى ، وما صبغ حياته العملية من إجازات كبيرة .
بعد مدرسة الكرك التحق بمدرسة السلط، من أجل أكمال دراسته الثانوية ، وهذا ما حدث ، وكان طالبا جريئا ، تعلم القدرة على الخطابة من أستاذه حسن البرقاوي ، أما الأستاذ محمود ابو غنيمة فقد حبب فيه حب العلم وتقدير دوره في تقدم أية أمة، أضطر هزاع للأنقطاع عن تلقي العلم رغم حبه الشديد له ، لكنه تمكن بعد ذلك بخمس سنوات من الالتحاق بمعهد الحقوق في الجامعة السورية ، ومعه مجموعة من الشباب الأردني المتميز ، أمثال ضيف الله الحمود ، جريس حدادين ، سلمان القضاة وغيرهم . التصق هزاع بالسياسة منذ نعومة أظفاره ، حيث ذكر في مذكراته قائلا: (كان يلازمني احساس قوي بأني سأصبح يوما ما رجل دولة وذا شأن في سياسة بلادي ، ولقد انست في نفسي مثل هذا الأحساس منذ الصغر) فكشف عن هذا الميل باشتراكه في أول مظاهرة ضد وعد بلفور وهو في الصف الخامس ، ومرورا بالمظاهرات التي قامت بها مجموعة ضمت بالأضافة لهزاع وصفي التل ، نعيم التل، نايف الخطيب، وآخرين ، وقد أطلقوا عليها أسم (جمعية الحرية الحمراء)، ولم يكن لهذه الجمعية هدف سياسي ، سوى بث الحماسة في نفوس الطلبة في القضايا الوطنية والقومية ، وعندما التحق بالجامعة السورية ، ساهم في التظاهرات المطالبة بجلاء الفرنسيين من سوريا ولبنان،ولقد أنهى دراسته من الجامعة السورية سنة1946م، وبادر عند عودته إلى الأردن بإفتتاح مكتب للمحاماة في مدينة الكرك ، وحقق بذلك نجاحا كبيرا ، أنفتح بحكم عمله على الأوساط الاجتماعية والحكومية ، وكان له موقف معارض من إستعارة الموظفين من الخارج ، خاصة مع بدء تكون طبقة من الشباب الأردني المتعلم ، وقد قام الملك عبدالله الأول بعد ذلك بتعيينه موظفا في تشريفات القصر عام 1947م ، لم يتكيف هزاع مع الوظيفة الجديدة بسرعة وهو القادم من وسط قبلي عشائري ، ليس فيه حب للتصنع أو التنافس الوظيفي ، وقد أعجب به الملك وأخذ يقربه حتى صار أحد مرافقيه .
أصبح هزاع المجالي رئيسا لبلدية عمان وهو في عمر صغيرة، عام 1948م بترشيح من المغفور له الملك عبدالله الأول، في فترة شهدت زيادة كبيرة في عدد السكان ، أدت إلى تنامي الحاجة إلى الخدمات الأساسية من كهرباء وماء و خدمات صحية وتعليمية ، وما رافق ذلك من أهمية التخطيط لمستقبل المدينة في السنوات القدمة ، وترك خلال رئاسته للبلدية والتي لم تتجاوز السنتين ، أعمالا تؤكد مقدرته على الإدارة بشكل لافت ، منها توسيع شارع الملك فيصل وتفرعاته ، زراعة الأشجار على جوانب الطرق، وتحسين شبكة المياه وإدخال تحسينات على الخدمات الصحية والبيئة في عمان وغيرها الكثير ، غير أن حبه للعمل السياسي المبني على الثوابت الوطنية ، أهله لدخول الحياة السياسية بشكل حاسم ، عندما أصبح وزيرا لأول مرة حيث أوكلت له حقيبة الزراعة في حكومة سمير الرفاعي الثالثة ، في الرابع من كانون الأول 1950م ، وهو تأكيد على الوعي المبكر لدى هزاع الذي جعله يتقدم على الزمن التراتبي بخطوات متواترة وواثقة، وقد واجه في وزارته مشكلة الجفاف ، غير أن هزاع تحول إلى وزارة العدلية التي تتفق مع دراسته وتوجهاته وكان له ذلك سنة1951م .
كان المجالي من دعاة دولة المؤسسات، وسيادة القانون في ظل الدستور والنظم الشرعية، المستمدة من مؤسسة العرش، وقد كون هذه النظرة الواعية من خلال حياته السياسية التى بدأت مبكرا ، ومن خلال مساجلاته وحواراته السياسية مع نظرائه من الشباب المستنير، مضيفا إلى كل ذلك دراسته للحقوق في تلك الفترة المبكرة من عمر المملكة، وقد تكرست حياته السياسية بشكل أوضح عندما أنتخب نائبا في البرلمان عام 1951م، فكان دائما يتمسك بالقانون ويؤكد على دستورية أي قرار، ومهما كانت الجهة التي أصدرت هذا القرار، وكان المجالي منفتحا على الجمهور، ومن أصحاب الباب المفتوح و الاحتكاك المباشر مع الشعب.
لقد أنشأ ديوانا للمظالم عندما أصبح رئيسا للوزراء، وحدد يوما في كل أسبوع لأستقبال أصحاب الشكوى والمظالم من الموظفين وغيرهم ، أحب العمل الميداني ، وشملت جولاته مدن المملكة و قراها وبواديها ، وكان واقعيا في سياسته الخارجية، مقدما مصلحة الوطن غيرها من المصالح، مما أوجد له عددا من الخصوم السياسيين، خاصة أنه تسلم مهامه الكبرى في رئاسة الحكومة، في فترة حرجة خلال المد الناصري، وما رافقها من أحداث ومواقف، فلقد شكل حكومته الأولى خلال الفترة من 1955-1956م، وأيضا خلال الحكومة الثانية التي ألفهاعام 1959م والتي استمرت لمدة عام تقريبا.
تميز هزاع المجالي بمبادراته التي تنم عن فهم لأهمية الشخصية القيادية ، فكان أول رئيس للوزراء يقيم إحتفالا عاما بمناسبة عيد الإستقلال في آثار جرش، دعي لها رجال الدولة وزوجاتهم، ربما تكون هذه اللفتة قد جلبت الإنتباه لهذا المكان الساحر فيما بعد، وقدم كل الدعم للفنانين والمثقفين ، و بقي ابن البادية المحافظ على تقاليده العشائرية غير المنغلقة، متمسكا بالأفضل فقط. لقد عاش هزاع صريحا لا يداهن و غير متردد، واضح الوجه والسمات، لا يحب الألأعيب والدسائس ، ولم يسلم بسبب ذلك من المعاداة والمكائد التي واجهه بها خصومه في السياسة، لكنه بقي على مبدأه جريئا، يثق بشكل مفرط بالناس، مفترضا حسن النية دائما، وعدم إساة الظن، فهو صاحب قلب طيب عفوي محب للناس، فلم يهتم بكثرة الحرس حوله، ولم يتخذ ما يكفي من تدابير أمنية ، وكثيرا ما شوهد في سيارته يجوب شوارع عمان دون حراسة، لكن يد الغدر وأصحاب النفوس التي سكنتها الظلمة، فلقد نسجوا مؤامرتهم في الليل، وتمكنوا من زرع قنبلة موقوتة في درج مكتبه في رئاسة الوزراء، أدى أنفجارها صباح يوم الأثنين 29 /8 /1960م إلى إستشهاد هزاع المجالي ،وهو يعمل على حل قضايا المواطنين في مقر عمله ، وإستشهد معه عدد من المواطنين الأبرياء، وهكذا قدم لنا هزاع المجالي أنموذجا للمواطن المحب لوطنه وأرضه ، والمسؤول المتواضع الذي يقدم الوطن والمواطن على كل شيء، فبقى خالدا فينا جيلا بعد جيل.
.jpg "صورة Ġiяl 91 الشخصية")
