صدمة عنيفة تلقتها عائلة “عبير” ابنة الـ22 ربيعاً، بعد أن اكتشف ذووها أنّها تعرضت للاغتصاب من مجهولين، فبدت عليهِم علامات البؤس والذهول والغضب، والندم ايضا لعدم اعتنائهم الكافي بابنتهم التي تعاني من إعاقة ذهنية، ما أدى إلى وقوعها فريسةً لستة رجال استغلوا عدم إدراكها لما يجري معها، حيث كانوا يستدرجونها إلى منزل مهجور ليتم الاعتداء عليها بدون أن تدرك معنى الذي يحدث لها.
ما حدث مع عبير، التي نشرت “الغد” خبرا عن جريمة اغتصابها في مطلع شهر نيسان (ابريل) الماضي، يُعيد إلى الأذهان الجدل حول ظاهرة استئصال أرحام ذوات الإعاقة الذهنية، حيث تباينت الآراء حول مدى إنسانية هذا الإجراء بحق هؤلاء الفتيات.
هناك من يؤيد استئصال أرحام ذوات الاعاقة الذهنية، ومنهم بعض ذوي الفتيات لأنها “تزيح عنهم التعب والإرهاق، وتحمي الفتيات من تبعات التعرض للاغتصاب، لاسيما أنهن لن يتزوجن”، ولكن أهالي آخرين، يرفضون إجراء مثل هذه العملية لبناتهم، ويؤكدون أنها عملية “غير إنسانية” ولها تأثيرات سلبية ومضاعفات شديدة على الفتيات، ويدعون إلى الاهتمام ورعاية الأشخاص ذوي الاعاقة بدلا من التسبب لهم بمشاكل صحية واجتماعية.
إزالة الأرحام: تمييز ضد الفتيات ذوات الإعاقة الذهنية
وتؤيد الرأي المعارض لاستئصال الرحم، منظّمات حقوقية وإنسانية؛ ترى أن هذه العملية لها أبعاد شرعية تحرمها، وحقوقية تتعلق بعدم أحقية الأهالي في اتخاذ القرار عن بناتهم، وصحية تتعلق بمخاطر ومضاعفات جانبية خاصة بعمليات استئصال الأرحام.
وتشير هذه المنظمات إلى الاتفاقية الأممية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي صادق عليها الأردن، حيث أكدت المادة السادسة فيها أن “النساء والفتيات ذوات الإعاقة يتعرضن لأشكال متعددة من التمييز، وأنها ستتخذ التدابير اللازمة لضمان تمتعهن كاملاً وعلى قدم المساواة بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية”.
هذا الإجحاف بحق ذوات الإعاقة؛ أدّى قبل ثلاثة أعوامٍ إلى ظهور حملةٍ تهدف إلى خلق الوعي تجاه تلك الفتيات عند كل من؛ الأهالي والأطباء والقانونيين.
الحملة التي قادها مجموعة من الناشطين في مجال حقوق الإنسان، نجحت بإحداث تغييرٍ ولو جزئيّ في فكر شريحة واسعة من المستهدفين، من خلال جلسات شملتهم لرفع الوعي، حيثُ تقول الناشطة في حقوق الإنسان د.منال التهتموني “في بداية حملتنا؛ فوجئنا بحجم القبول الذي كان لمثل هذه العمليات، سواء من الأهل أو من الأطباء”.
وتضيف أن الحملة استطاعت بعد فترة من رفع الوعي بخطورة هذا الفعل، وبحجم الإجرام الذي يُرتكب بحق ذوات الإعاقة حين تُمارس عليهن هكذا عمليات، فأصبح الأطباء يتخوّفون من إجرائها، بل إنهم باتوا ينظرون لهذه القضية بشكلٍ أوسع وأشمل.
بدورها، بينت الناشطة الحقوقية إنعام العشا أنّ الحملة أظهرت أن السبب الأول الذي كان يدعو الأهالي إلى إجراء عملية استئصال الرحم لفتياتهم من ذوات الإعاقة؛ هو الخوف عليهن من تبعات التعرض لاعتداء جنسي.
وتتساءل العشا “الذكور من ذوي الإعاقة معرضون للاعتداءات الجنسية كذلك، إذاً؛ لمَ لا يتم التعامل معهم بالأسلوب ذاته؟ أم أنّهم يُستثنَون كون جسدهم لا يجلب العار كجسد الفتيات!”
وتبيّن رئيسة لجنة المرأة ذات الإعاقة في المجلس الأعلى لشؤون الأشخاص المعوقين مها السّعودي؛ أنّ الفتاة ذات الإعاقة تُعاني من نوعَيْن من التمييز، الأول كونها أنثى، والثاني كونها ذات إعاقة.
وتشير السعودي، إلى أن التمييز ضد الفتاة يكون بالمرتبة الأولى من الأسرة، التي تُميّز الذكر في المنزل، بالرغم، من أن الفتاة قد تتفوق عليه بأمور عدة.
الرعاية والاهتمام.. بدلا من الاستئصال
فيما يرى مستشار الطب الشرعي د.هاني جهشان؛ أن السماح باستئصال رحم الطفلة ذات الإعاقة سيكون مقدمة لاستئصال أرحام المريضات نفسياً أو لتعقيم كل من؛ الأطفال الذكور المعاقين عند وصولهم سن البلوغ، والمرضى النفسيين، وربما الذين يعانون من اضطرابات بالشخصية، بل إنّ ذلك قد يكون مقدمة لإباحة الإجهاض والقتل الرحيم.
ترفض “أم ليان” إجراء هذه العملية لابنتها ليان (15 عاماً) التي تعاني من إعاقة حركية وعقلية، مرجعة رفضها إلى الآثار السلبية التي ستلحق بالفتاة بعد هذه العملية.
وأعربت عن استيائها من الأهالي الذين يُعرضون بناتهم إلى هكذا عمليات من أجل الحصول على راحة البال، أو لـ”منع جسد بناتهم من جلب العار”.
وبينت والدة ليان أهمية تكاتف جميع أفراد العائلة لرعاية طفلتهم ذات الإعاقة، ولحمايتها، ولدمجها بالمجتمع، مؤكدة أنها تبذل في المنزل جهداً مضاعفاً مع ابنتها، حرصاً على إعطائها جميع حقوقها بدون تقصير، وأنّها تعمل على إدماجها في المجتمع بكل السبل المتاحة.
توافقها بذلك “أم راما” التي تعاني ابنتها راما كذلك من إعاقة عقلية وجسدية، وعمرها 12 عاماً، مُلقيتان اللّوم على الأطباء الذين يرحبون بإجراء هذه العمليات.
ولا تتوانى أم راما عن إقحام ابنتها بكل نشاط مجتمعي يتناسب وقدراتها، وتقول حول ذلك “منذ إدراكي لما تعانيه ابنتي، قررتُ الاستمرار بعلاجها، والاعتناء بها، كي تتخطى إعاقتها، وأنا فخورة بالنتيجة التي وصلت بها حتى الآن، وأطمح لمزيدٍ من التحسن”.
لجأت والدة راما إلى عدد كبيرٍ من المحاضرات التوعوية بخصوص رعاية الفتيات ذوات الإعاقة، الأمر الذي جعلها تُطور من معاملتها مع ابنتها، وبهذا الشأن توجه نصيحة إلى كل عائلة تضم ابناً من ذوي الإعاقة، بأن توسع مداركها بكيفية رعاية هذه الشريحة من الأطفال من خلال متابعة الندوات والدورات التي تُعقد من أجلهم.
وتتفق كل من الوالدتين بأنّ الحل لحماية الفتيات من ذوات الاعاقة الذهنية من أي إساءة لا يكون باستئصال أرحامهن، وإنّما بالعناية والرعاية الدائمتين لهن، وأن اللجوء إلى استئصال الرحم يكون بداية الإهمال بحقهن.
لا يجوز تغيير حياة أي طفل
بهدف راحة المجتمع
من جانبه، يؤكد الدكتور جهشان أنّ الجدل الدائر بخصوص استئصال أرحام ذوات الإعاقة، يضع تحت الضوء مواضيع أخلاقية عديدة وعلامات استفهام حول كيفية تعامل مجتمعنا مع ذوي الإعاقات بمختلف أنواعها.
ويوضح أن هناك غيابا لاحترام إنسانية المعوقين، لأنه لا يجوز إجراء أي تدخل طبي لأي إنسان إلا بوجود دواع طبية واضحة متفق عليها تحترم الإنسان وإن كان معاقاً.
ويضيف جهشان “إنّ تعريض طفل لعملية جراحية كبرى بدون داع طبي واضح، كاستئصال الرحم لطفلة ذات إعاقة، وما قد يرافق هذه العملية من أخطار كامنة، لا يمكن اعتباره هدفاً لتحقيق مصلحة الطفل الفضلى. كما أنّ ما يرافق عملية استئصال الرحم من ألمٍ شديد للطفل أمر غير مبرر، ولا ينطبق على دواعي إجراء العمليات الجراحية وغير قائم على الدليل العلمي في الأدبيات الطبية، وإجراء ذلك لإزالة التوتر والكرب عن والدَيْ الطفلة ذات الإعاقة لا يصنف أنه من الدواعي الطبية بأي شكل من الأشكال”.
ويؤكد أنه لا يجوز تغيير حياة أي طفل بهدف راحة المجتمع، بل على العكس يُتوقع من المجتمع التأقلم مع احتياجات كافة الأطفال، بمن فيهم ذوي الإعاقة، وشملهم بالرعاية والدعم.
وحول وجود ما يبرر فعلة الأهل، تبيّن التهتموني؛ أنّهم يتعاطفون مع الأهل ومع العبء المُلقى على كاهلهم لأبعد الحدود، لكن هذا لا يعني اضطهاد الطفل أو الطفلة من ذوي الإعاقة. وتشير إلى أن البديل يكون ببرامج رعاية شاملة موجّهة لهذه الفئة ولذويها، أي استراتيجية متكاملة لحماية ذوي الإعاقة، ودمجهم بكل جوانب الحياة، وهذا برأيها لا يتم إلاّ بتكاتف عدّة جهود، من أطيافٍ مختلفة.
العمليات مستمرة.. ولا تعديل على قانون العقوبات
وبحسب ناشطين إنسانيين، فإنّ هذه العمليات مستمرة إلى الآن، بالرغم من ذلك لا يوجد حراك قانوني لتعديل نصوص في قانون العقوبات أو إجراء إضافات عليه، ما يشكل أمراً غايةً في الخطورة.
في هذا السياق، تؤكد الناشطة العشا وجود فجوة قانونية تؤدي إلى الحيلولة دون ردع المتورطين في هذه الجريمة البشعة، حيثُ يوجب القانون موافقة صاحب الشأن على إجراء العملية، وبحال الفتيات ذوات الإعاقة الذهنية ؛ فوليّ الأمر هو صاحب الشّأن، وهو المتسبب بالضرر كذلك، موضحة ضرورة تعديل القانون بحيث يحمي الفتيات ويحفظ حقهن.
بدورها، تقول الناشطة السعودي؛ إنّهُ لا يمكن الوصول إلى قانون يجرم استئصال أرحام الفتيات ذوات الإعاقة، إلاّ بإصدار إفتاءٍ رسميٍ من دائرة الإفتاء يعزز أي تعديل على قانون العقوبات لتحريم وتجريم استئصال الأرحام للفتيات ذوات الإعاقة، فتتمنى لو يوجد بالقريب العاجل؛ رأي ديني موثق ونص قانوني صارم، علّهُما يردعان ويوقفان هذه العمليات.
فتوى دينية تحرم
استئصال الأرحام
بمراجعة دائرة الإفتاء العام تبيّن وجود فتوى صادرة قبل حوالي العامين؛ لا تُجيز استئصال عضو خلقه الله في الإنسان إلاّ في الحالات المرضية المستعصية، التي لا تتم إلاّ بذلك، واستثنت الفتوى من الحالات المستعصية؛ المرض العقلي وعدم السيطرة على التصرفات والسلوك، وأرجعت عدم الإجازة إلى التعدي على خلق الله، ولما قد يصاحب العملية من مخاطر صحية، وأوصت الأهل بالصبر واحتساب الأجر عند الله، وبالاستعانة بالمؤسسات الخيرية والاجتماعية المختصة بهذه الشؤون.
يصل عدد عمليات استئصال الرحم للفتيات ذوات الإعاقة إلى حوالي 65 عملية سنوياً، منها 10 تجري في مستشفى، البشير، بحسب السعودي.
وحول ذلك يقول مدير مستشفى البشير د.عصام شريدة، إنّهم لا يقومون في المستشفى بإجراء أيّ عمليّة استئصال رحم إلاّ لدواع طبيّة “عصبية أو نفسية أو عضوية، وبالاستناد على تقارير طبية لأخصّائيين في أيٍّ من هذه المجالات”، مؤكداً أنهم يستأصلون الرحم من غير التأثير على أنوثة الفتاة.
يوافقه في ذلك مدير إدارة المستشفيات في وزارة الصحة د.أحمد قطيطات، حيثُ يقول إن العمليات التي يتم إجراؤها في مستشفيات المملكة تخضع للحاجة الطبية، مؤكداً أنّهم يطبقون عند إجرائها القانون بحذافيره.
لكن الناشطة العشا تستبعد أن تكون الدواعي الطبية هي فقط التي تحكم عمل الأطباء، وتؤكد أن عدداً كبيراً من العمليات تجري إلى الآن تكون لدواعي اجتماعية، من أهمها الخوف من تبعات تعرض الفتاة لاعتداء جنسي، وكذلك لتخفيف الجهد المُلقى على الأهالي جراء الاعتناء بهذه الفتيات.
وتتساءل “هل من المعقول أننا قادرون على تدريب الحيوانات وتحسين تصرفاتهم، وعاجزون عن الاعتناء بأبنائنا من ذوي الإعاقة، وتعليمهم بعض التصرفات التي من شأنها أن تحسن من سلوكهم”؟
وتتفق كلٍّ من السعودي والتهتموني؛ على أنّ التمييز بحق ذوي الإعاقة لا يقتصر على الإناث فحسب، بل يمتد إلى الذكور، لكن بدرجات متفاوتة، حيثُ تقول التهتموني “حملتُنا التي قدناها لإنقاذ ذوات الإعاقة من استئصال أرحامهن، كانت بظاهرها من أجل هذا السبب، أمّا هي في حقيقة الأمر، بداية نهجٍ بدأناه للقضاء على أيّ انتهاكٍ يُمارَس ضد ذوي الإعاقة”.
وتروي التهتموني حكايةً سمعتها في إحدى جلساتها، ولا يزالُ وقعُها في نفسها كبيراً، فكان في الجلسة والدة لطفلٍ يعاني من إعاقة ذهنية، فبدأت الوالدة بسرد معاناتها مع ابنها، وكيف أنّ هذا الابن لا يترك قماشاً في المنزل بدون أن يمزقه بأسنانه، ليقترح عليها أحد الحضور، وهو طبيب أسنان، أن تزوره في اليوم التالي مع ابنها، كي يقتلع أسنانه فترتاح الوالدة! معلّقةً “هذا انتهاكٌ صارخٌ لحقوق ذوي الإعاقة، والمصيبة أنّ طبيباً اقترح ذلك”!