اعتبر المستشرق البريطاني الرائد ادوارد ويليام لين Edward William Lane في كتابه عن العادات المصرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر أن الدين هو مصدر هذه التقاليد والعادات والممارسات والأصول, متجاهلاً النظام العام والعائلة وحتى الطبقة الاجتماعية والظروف الخاصة. يؤكد أن “العرب هم شعب شديد الاعتقاد بالخرافات وليس بينهم من هم أكثر اعتقاداً بالخرافات من شعب مصر. وإن الكثير من خرافاتهم تشكل جزءاً من دينهم”. وقد تكرر مثل هذا التشديد على اعتبار أن الدين هو المصدر أو الأهم للقيم والثقافة العامة متجاهلاً علاقة الخرافات بحالات التخلف والعجز والجهل.
ويتبسط هنري حبيب عيروط في وصف الثقافة السائدة بين الفلاحين المصريين, فيؤكد بكثير من الإجحاف وعدم الموضوعية والدقة أو حتى التحفظ بأن الفلاح المصري “لا يتخذ المبادرة بنفسه أبداً, بل ينتظر عاجزاً, الحل فقط من الطبقات المسيطرة عليه”, وبأن فكرة الأمة الوطنية غريبة على الفلاح”, وبأنه “يحفظ ويردد, ولا يخلق أو يبدع. ثم أن التحسينات والاختراعات التي ادخلت إلى الزراعة والصحة والسكن فرضت عليه من الخارج. ونتيجة لقوى القبول والاستسلام والتكرار والتحمل, توقف ذكاؤه وتبلد… وأصبح ما يعرفه خيراً مما لا يعرفه”, وبأنه “لا يفكر أبعد من الحاضر المباشر فهو مكبل إلى اللحظة.. وليس لأي زمن أو مكان…” وبأن “غياب الشخصية والمبادرة يفسر بدوره انعدام حساسية الإبداع الفني بين الفلاحين”, وبأنه رغم “أن ذاكرتهم ممتازة, إلا أن فهمهم بطيء” وبأن الفلاحين لا يثقون ببعضهم البعض عادة, وحتى داخل العائلة ذاتها “إنهم لا يثقون بسيدهم حتى ولو عاملهم جيداً” وأن “الفلاح ينقصه الاحساس بالعدل والصراحة والثقة والحماسة… بسبب أن أحداً لم يعلمه هذه السجايا أو يشجعه عليها”.
تحليل رفائيل بطي
وبين الذين اسرفوا في تبسيط الواقع الثقافي العربي حتى التجني عالم الانثروبولوجيا العربي العراقي رافائيل بطي الذي أكد لنا في كتابه (العقل العربي) الذي يرى بأن العربي ” يستبدل الأعمال بالكلمات, وبأنه يجاهد ليثأر لشرفه وليس لتصحيح الخطأ وإزالة الظلم”, وأن “واحدا من أهم الفروقات بين الثقافة العربية والثقافة الغربية هو أن الأولى يغلب فيها الشعور بالعار على الشعور بالذنب”, فالدافع وراء سلوك العربي “سلوكاً شريفاً ليس الشعور بالذنب بل الشعور بالعار”, وأن الغرب فقد تدينه حتى أن الدين “لم يعد ينظم حياته في والواقع.. وخسر وظيفته المعيارية” على عكس العالم العربي حيث “سيطر الإسلام على الحياة حتى أنها كلها أصبحت خاضعة لوصايته. الدين (الإسلامي) ليس جانباً واحداً من الحياة (العربية), بل المركز الذي يشع كل شيء آخر منه. كل العادات والتقاليد دينية.. والدين كان ولا يزال للغالبية التقليدية في البلدان العربية – القوة المعيارية المركزية في الحياة.
ما لم يدركه بطي وغيره, وإذا كانوا قد أدركوه فقد تجاهلوه حقاً, أن الأمثال العامة تقال في مناسبات محددة للتدليل على فكرة أو ظاهرة وفي سبيل البلاغة والاقتضاب, وهي عادة جمل تقترح مسلكاً ما في بعض الحالات أو تصدر حكماً عابراً أو نصف حقيقة ما, أو تسخر من سلوك أو شخص معين “أو تقدم ملاحظة حول الطبيعة والفصول, أو تعبر عن وجهة نظر تجاه مسائل الحياة اليومية العملية, أو “كليشيهات” تردد في بعض المناسبات. أو قواعد سلوكية أو إرشادات عامة”. وبسبب اتصالها الوثيق بالمناسبات تقال في بعض الظروف, وقد تفسر تفسيرات مختلفة, وقد يكون لها مدلولات متنوعة, وقد تتناقض مع أمثلة أخرى.
وفي سبيل التمثيل نقول ان هناك أمثلة عديدة تتصل بالعائلة والقرابة, وهي تعكس التعقيد والتناقض في حياة العائلة والجماعة. بعض هذه الأمثلة يشدد على القرابة:
- “أنا واخي ع ابن عمي, وأنا وابن عمي ع الغريب.
- اللي فيه نقطة من دمك ما بيخلى من همك.
- ما بيحمل همك إلا الليّ من دمك.
- من ترك عشيرته بيعرى أو يذل.
- أهلك ولو رموك بالمهلك”.
قد نستنتج عدة أمور من هذه الأمثال, إنما كي تكون استنتاجاتنا دقيقة لا بد من معرفة المناسبات التي تقال فيها ومتى. كذلك كي تكون هذه الاستنتاجات دقيقة لا بد من مقابلتها مع أمثلة شبه متناقضة معها ومنها:
- “الأقارب عقارب.
- اقرب الناس إليك أعطفهم عليك.
- عداوة الأقارب أوجع من لسع العقارب.
- البغض بين القرايب والحسد بين الجيران.
- كل غريب للغريب نسيب.
- الجار قبل الدار.
- جارك القريب ولا خيك البعيد.
- اسأل عن الجار قبل الدار.
- اهلك اللي اشتروك (يعني الذين أنقذوك من المشاكل) ولا أهلك اللي باعوك (الذين تخلوا عنك)”.
إذا ما تأملنا المجموعة الأولى من الأمثال, قد نستنتج أن العربي يهتم فقط بعلاقات القربي الدموية ولا يهتم بالحيرة أو الناس الآخرين. ولكن إذا ما تأملنا المجموعة الثانية لا بد أن نتحفظ في استنتاجنا الأول, ونتوصل إلى أنه مغلوط في بعض الحالات. هل نستطيع أن نستنتج من المثل “ما بيحمل همك إلا اللي من دمك” أن العربي لا يثق أو يعتمد على غير أقاربائه في الملمات? طبعاً, لأن هذا العربي نفسه يقول لك في مناسبة ثانية “أهلي الحقيقيون الذين يساعدونني في الملمات وليس أهلي (من لحمي ودمي) الذين تخلوا عني”, و”أهلك اللي اشتروك ولا أهلك اللي باعوك”.
وكما يدرك العربي أن أقرباءه يحبونه ويلتزمون به في الملمات, يدرك أيضاً أن البغضاء, بين الأقارب قد تبلغ درجة قصوى فيردد: “الأقارب عقارب”, و”عداوة الأقارب أوجع من لسع العقارب”, و”البغض بين القريب والحسد بين الجيران”. ويدرك العربي أيضاً أهمية الجيرة بصرف النظر عن أي انتماء آخر فيقول: “الجار قبل الدار”, و”جارك القريب ولا خيك البعيد”, و”كل غريب للغريب نسيب”.
اعتبر الباحثون الذين اعتمدوا على الأمثال في وصف “العقل العربي” أن هذه الأمثال قواعد مطلقة فعمموا بناء عليها دون تحفظ ودون إشارة إلى الأمثال المتعارضة معها. وهذا خطأ كبير لان ما وجدناه بالنسبة للأمثال المتعلقة بالقرابة والجيرة يمكن أن نجده بالنسبة لموضوعات ومناسبات أخرى.
من جهة تقول الأمثال العربية “زيادة الخير خير”, ولكنها تقول من جهة أخرى “كل شيء زاد بالمعنى نقص”, “وكل شيء كثر رخص”, “وخير الأمور الوسط”, “والزايد خي الناقص”, و “من طلب الزيادة وقع في النقصان”, “ومن طلبه كله تركه كله”. كذلك يقول العربي “جنة بلا ناس ما بتنداس”, ولكنه يقول أيضاً “البعد عن الناس غنيمة” و”مصايب الناس من الناس”. ويقول “بنت العم ولو بارت” كما يقول في مناسبة أخرى “خذ من الزرايب (أي تزوج من الحيوانات) ولا تأخذ من القرايب”.
ورغم كل ما يقال حول نزعة المبالغة والتشديد على القيم المطلقة, نجد أن العربي يقول بكل وضوح “كل وقت وأعطيه حكمه”. وفي علاقته بالحاكم قد يقال لنا في مناسبة “عيب الرعية من الراعي”, ثم يقال لنا في مناسبة أخرى “كما أنتم يولى عليكم”. وفي تأمله حول تأثير العادة قد يشدد, “كل شيء عادة حتى العبادة”, ولكنه حين يتأمل بتأثير الوراثة قد يقول “الطبع سبق التطبع”. وقد ينصح الشخص شخصاً آخر “أعمل خير وكب بالبحر” أو “إعمل خير عند الله بتلاقي” أو “إن ضاع المعروف ما يضيع أجره” أو “إن ما بان عند البالق (الذي لا يعترف بالجميل) يبان عند الخالق”. وينصح العربي “ابعد عن الشر وغني له”, ولكنه يؤكد لنا في الوقت ذاته “الساكت في الحق مثل الناطق بالباطل”.
هذه بعض التنوعات المختلفة التي يجب أن تشجعنا على التحفظ في التعميم حول القيم على أساس الأمثال العامية. وربما يمكن القول للذين يعتمدون على النص ويتجاهلون السلوك اليومي, “إلى علمه في كتابه, غلطه أكثر من صوابه”.
بضوء هذه الحقائق, نصف الآن مفصّلاً بعض الاتجاهات القيمية مشددين على جوانب التنوع والتنافس. وفي رأينا أن بين أهم الاتجاهات القيمية السائدة في الثقافة العربية المعاصرة, والتي تعرفنا إلى مختلف جوانب الثقافة العربية الشعبية, ما يلي: القيم القدرية وقيم الإرادة الإنسانية الحرة, القيم السلفية والقيم المستقبلية, قيم الإبداع وقيم الإتباع, قيم العقل وقيم القلب, قيم المضمون وقيم الشكل, القيم التي تولد شعوراً بالذنب والقيم التي تولد شعوراً بالعار, قيم الانغلاق وقيم الانفتاح, القيم الجمعية والقيم الفردية, القيم العمودية والقيم الأفقية, قيم الطاعة والتمرد, قيم العدالة وقيم الإحسان والرحمة, الخ.