كثير منّا يتذكّر لا شكّ تلك الصّور المتحرّكة التي قدّمت بالعربية تحت عنوان: السنافر والتي تقدّم حياة كائنات زرقاء صغيرة في قرية السّنافر. ومن أجمل ما كان يميّز تلك السلسلة أنّ لكل سنفور ميزة فمن سنفور مازح إلى سنفور فلاّح إلى سنفور مفكّر إلى سنفور كسول إلخ... وكنت من المدمنين على مشاهدة السّنافر وأعترف أنّ الطّفلة فيّ ما زالت تغافلني في ظل المشاغل العديدة لتشاهد حلقة أو أكثر من هذه السلسلة. وليس غرضي أن أحكي لكم عشقي للصور المتحرّكة ولا عن الاستغلال الإشهاري لهذه السلسلة أو تلك. ولكنّي أريد استعارة اسم أحد السّنافر تمثيلا لحال تتكاثر في بلادي. وأعني بكلامي "سنفور غضبان" ولمن لا يعرفه ف"سنفور غضبان" واحد من أفراد السنافر لا يعجبه شيء أو كما كانت تقول جدّتي رحمها الله: لا يعجبه عجب ولا الصيام في رجب. وهو يكرّر في كل سياق ومقام إنه يكره: يكره الطعام ويكره المزاح ويكره العمل...حتى يصل به الأمر في إحدى الحلقات إلى أن يقول: أكره الكره. والحقّ أنّي دائما أتذكّر "سنفور غضبان" ما أن أتواصل مع بعض النّاس تجدهم ينقدون كلّ شيء صباح مساء ويوم الأحد مع الاعتذار للعزيز الصغيّر أولاد أحمد. تجد هؤلاء ينقدون السّاسة والشعوب وينقدون الرياضيين وينقدون الفنانين وينقدون برامج التلفزيون وينقدون الكتّاب والمؤلّفين. وليس بين شفتيهم أو على طرف أقلامهم إلاّ: أكره...أكره..أكره...
إنّ هؤلاء ينسون (ولعلّهم يتناسون) أنّ النّقد يفيد في الأصل فحص الموضوع ودراسته لبيان أوجه الحسن وأوجه العيب فيه. وبهذا المعنى تكون قراءتهم للأشياء قراءة مبتورة لأنّه إذا كان بديهيا أنّه ما من عمل بشري إلا وهو ناقص ضرورة فإنّ مصادرة أخرى هي صنو الأولى ومفادها أنّه لا يمكن الحديث عن نقص إلا إذا كان هناك مُنجز. فالنّاقص هو ناقص من تصوّر ما للكامل، ووجوده يعني أنّ هناك شيئا مّا قد تمّ وإلاّ لما كان لكلّ من الكامل والنّاقص معنى.
أن يكون كلّ شيء سلبيا في موقع من المواقع أمر لا يُتصوّر منطقا إذن. ولذلك علينا أن نبحث بعيدا عن المنطق في الدّوافع التي تحدو بالبعض إلى تقزيم كلّ محاولة إضافة مهما اختلفت المجالات وتعدّدت وتنوّعت.
وهذه الدّوافع لا تخرج في رأيي عن اثنين. الدافع الأوّل نفسيّ وهو شأن كل الدّوافع النفسية لا واع ومفاده أنّ الشخص الذي ينفي كل إنجاز وفعل للآخرين إنّما يضع نفسه في موضع من يحكم على الآخر، وهذا الموضع من منظور الذّات "المريضة" يجعل الإنسان يحسّ بالتفوّق على الآخر وإن يكن تفوّقا خياليا. ومن المبتذلات النّفسية أنّ كلّ سعي إلى إثبات التفوّق إلى حدّ تصديقه إنّما هو وجه من وجوه تغطية شعور بالنّقص دفين. أمّا الدّافع الثّاني لغضّ الطّرف عمّا أُنجز والاقتصار على ما لم يُنجز فقد يكون سوء النيّة، وهو بذلك خلافا للدّافع الأوّل واع قد يكون مردّه السّعي إلى إلحاق ضرر بالآخر إمّا لأغراض شخصية أو لتحالفات جماعية.
وسواء كان لما أريد أن أسمّيه ب"فيروس" سنفور غضبان أصل في السّبب الأوّل أو في السّبب الثّاني فالسببان يجتمعان في الكلمة المتواترة لدى "سنفور غضبان" وهي كلمة: أكره". إنّ الإنسان لا يمكن أن لا يعجبه أيّ شيء إلا إذا كان يكره نفسه (وهذا مضمون الدافع الأول) أو إذا كان يكره الآخرين (وهذا مضمون الدّافع الثاني).
إذا تعلّم المرء الخروج من الأنا الضّيقة بعقدها ومشاكلها وأهدافها الصّغيرة وإذا حاول أن ينظر إلى العالم لا نظرة موضوعية لأن الموضوعية وهم، وإنّما نظرة بنّاءة تعي بحدود ما هو موجود وتستشرف الأحسن، وبعبارة أخرى إذا تعلّم المرء كيف يحبّ بالمعنى الفلسفي العميق للكلمة فإنّه سيتذكّر أنّ نشدان الأفضل لا يكون إلاّ بتثمين الكائن، فلا أحد يبني من عدم، ولا أحد يأتي بما عجزت عنه الأوائل وإنّما العمل البشري لبنات يتراكب بعضها على بعض.
صحيح أنّ المرء الّذي لا يرى إلا صورته في المرآة وذاك الّذي يرضى عن نفسه الرّضا التّام ممضيا عمره في التغني بالإنجازات والمكتسبات إنّما هو مرء جدير بالإشفاق باعتباره لا ينفتح على وجوه النّقص مصدر شوق إلى التحسين. على أنّه يجب أن لا ننسى أيضا أنّ المرء الّذي يحجب عنه سواد المقت والحقد رؤية بعض من نور الشمس يتسلّل وراء الشقوق هو أيضا جدير بالإشفاق. فهل يمكن أن نتّخذ بين الموقفين سبيلا؟
:bdesh:إنّ هؤلاء ينسون (ولعلّهم يتناسون) أنّ النّقد يفيد في الأصل فحص الموضوع ودراسته لبيان أوجه الحسن وأوجه العيب فيه. وبهذا المعنى تكون قراءتهم للأشياء قراءة مبتورة لأنّه إذا كان بديهيا أنّه ما من عمل بشري إلا وهو ناقص ضرورة فإنّ مصادرة أخرى هي صنو الأولى ومفادها أنّه لا يمكن الحديث عن نقص إلا إذا كان هناك مُنجز. فالنّاقص هو ناقص من تصوّر ما للكامل، ووجوده يعني أنّ هناك شيئا مّا قد تمّ وإلاّ لما كان لكلّ من الكامل والنّاقص معنى.
أن يكون كلّ شيء سلبيا في موقع من المواقع أمر لا يُتصوّر منطقا إذن. ولذلك علينا أن نبحث بعيدا عن المنطق في الدّوافع التي تحدو بالبعض إلى تقزيم كلّ محاولة إضافة مهما اختلفت المجالات وتعدّدت وتنوّعت.
وهذه الدّوافع لا تخرج في رأيي عن اثنين. الدافع الأوّل نفسيّ وهو شأن كل الدّوافع النفسية لا واع ومفاده أنّ الشخص الذي ينفي كل إنجاز وفعل للآخرين إنّما يضع نفسه في موضع من يحكم على الآخر، وهذا الموضع من منظور الذّات "المريضة" يجعل الإنسان يحسّ بالتفوّق على الآخر وإن يكن تفوّقا خياليا. ومن المبتذلات النّفسية أنّ كلّ سعي إلى إثبات التفوّق إلى حدّ تصديقه إنّما هو وجه من وجوه تغطية شعور بالنّقص دفين. أمّا الدّافع الثّاني لغضّ الطّرف عمّا أُنجز والاقتصار على ما لم يُنجز فقد يكون سوء النيّة، وهو بذلك خلافا للدّافع الأوّل واع قد يكون مردّه السّعي إلى إلحاق ضرر بالآخر إمّا لأغراض شخصية أو لتحالفات جماعية.
وسواء كان لما أريد أن أسمّيه ب"فيروس" سنفور غضبان أصل في السّبب الأوّل أو في السّبب الثّاني فالسببان يجتمعان في الكلمة المتواترة لدى "سنفور غضبان" وهي كلمة: أكره". إنّ الإنسان لا يمكن أن لا يعجبه أيّ شيء إلا إذا كان يكره نفسه (وهذا مضمون الدافع الأول) أو إذا كان يكره الآخرين (وهذا مضمون الدّافع الثاني).
إذا تعلّم المرء الخروج من الأنا الضّيقة بعقدها ومشاكلها وأهدافها الصّغيرة وإذا حاول أن ينظر إلى العالم لا نظرة موضوعية لأن الموضوعية وهم، وإنّما نظرة بنّاءة تعي بحدود ما هو موجود وتستشرف الأحسن، وبعبارة أخرى إذا تعلّم المرء كيف يحبّ بالمعنى الفلسفي العميق للكلمة فإنّه سيتذكّر أنّ نشدان الأفضل لا يكون إلاّ بتثمين الكائن، فلا أحد يبني من عدم، ولا أحد يأتي بما عجزت عنه الأوائل وإنّما العمل البشري لبنات يتراكب بعضها على بعض.
صحيح أنّ المرء الّذي لا يرى إلا صورته في المرآة وذاك الّذي يرضى عن نفسه الرّضا التّام ممضيا عمره في التغني بالإنجازات والمكتسبات إنّما هو مرء جدير بالإشفاق باعتباره لا ينفتح على وجوه النّقص مصدر شوق إلى التحسين. على أنّه يجب أن لا ننسى أيضا أنّ المرء الّذي يحجب عنه سواد المقت والحقد رؤية بعض من نور الشمس يتسلّل وراء الشقوق هو أيضا جدير بالإشفاق. فهل يمكن أن نتّخذ بين الموقفين سبيلا؟