يبدو وزير الداخلية الأردني الجديد الجنرال المتقاعد والمرجع القانوني غالب الزعبي رجلا جادا عندما يتعلق الأمر بالقانون ومستوى الإلتزام به، الأمر الذي يدفع كثيرين للتفاؤل في إمكانية أن يسعى الوزير الزعبي وهو يجلس في ثالث أهم كرسي عمليا ودستوريا في البلاد لتحقيق حلم الأردنيين ولو مرة واحدة في رؤية وزير داخلية دستوري بإمتياز.
ووزير الداخلية الدستوري هو حصريا المسؤول الذي تخضع له الأجهزة الأمنية بموجب أحكام القانون والدستور والرجل الذي لا يعمل تحت إمرته موظفون بيروقراطيون قادرون دوما على التشبيك والتنكيل والتبكيش والظهور دوما بمظهر أقوى من وزيرهم كما حصل في عدة حالات مرصودة جيدا.
وعندما نتحدث عن حلم وجود وزير داخلية دستوري نقصد تماما مشهدا إفتقده الأردنيون منذ عقود في رؤية وزير داخلية حقيقي يعي ما يحصل حوله ولا يحمل تصورات أو اجندات مسبقة وصاحب قرار لا يستطيع أحد تجاهله حتى المؤسسات المهمة في البلاد وموظف كبير وصارم يدرك مسبقا بان مهمته الأساسية ليس إستقبال المخاتير بين الحين والاخر ولا الإستسلام لتقارير مغرضة يرسلها حكام إداريون هنا وهناك بل التدقيق في التفاصيل وإنفاذ القانون كما هو بدون محاباة أو لف أو دوران.
..هذه مواصفات إفتقدناها فعلا في الماضي فقد تقلد هذا الموقع وزراء ضعاف تجاوزهم موظفون تحت إمرتهم يوميا أو سيطرت عليهم مؤسسات يفترض أنها تحت إمرتهم وينبغي إخضاعها كذراع تنفيذية للمستوى السياسي الذي يمثله وزير الداخلية الذي يحكم الملك عبره في الواقع الدستوري والذي يعتبر توقيعه شرطا أساسيا لإنفاذ أي إرادة ملكية في أي وقت أو لتنفيذ حكم الإعدام في أي مواطن.
عايشت شخصيا أنماطا متنوعة من وزراء الداخلية .. أحدهم زرته لكي أتوسط لتأشيرة تخص زميلا فلسطينيا يحمل وثيقة عراقية ويريد العبور لعمان لمدة أسبوع لأغراض الفحص والعلاج ووافق الوزير ومنحه تأشيرة الدخول وزودني شخصيا بكتاب رسمي يسمح بعبور الزميل الصحافي على كفالتي الشخصية وحاولت لأكثر من ثلاث مرات {إنفاذ} أمر الوزير المختص دون جدوى فقد أصر ضابط أمن الحدود المعني على تجاهل أمر الوزير الخطي الموثق وطلب من زميل له تدخل في الأمر أن أعيد مذكرة الوزير حتى {يبلها ويشرب ميتها}.. في الواقع لم يكن معالي الوزير آنذاك من الذين يخشون البلل أصلا فهو غريق تماما في المنصب ويشعر بالفضل لاخرين في النظام.
وفي حالة مماثلة مع وزير آخر للداخلية رفض قراره بإدخال ضيف إعلامي يحمل وثيقة سورية على الحدود زمجر معاليه وغضب وهدد وتوعد وأجرى أمامي إتصالات هاتفية بجهات يفترض أنها مرجعية فإكتشفت لاحقا أنه يتصل بأحد موظفيه البسطاء في جناح الوزير وبعدها علمت بأن معالي الوزير طلب موعدا مع مدير أمني وعاتبه لان المسؤولين في الحدود يتجاهلون كتب الوزارة الرسمية لدواعي وإعتبارات يقولون أنها {أمنية}.. قبل ذلك توقعت من حجم الزمجرة والغضب أن يقيل الوزير فورا المسؤول الأمني فإكتشف بأن الوزير لا يستطيع إقالة أحد أما قصة الدستور وأحكامه فيمكن تدبيرها.
وزير ثالث كان أكثر طرافة فقد طلبني لكي نتعاون معا في تحسين صورة الأردن التي شوهتها تقاريري الصحافية بسبب التركيز على {سحب الجنسيات} ملمحا لان أوامر عليا صدرت بالتعاون معي ووضع تعليمات سحب الجنسية في {الثلاجة} وتجميدها قائلا بأنه بادر فعلا بإجراءات سريعة وسيسعى لتطمين الأردنيين من أصل فلسطيني في دول الخليج.. بعد أيام فقط من هذا الحماس ذاب الرجل بالإجراءات البيروقراطية واكتشف بان علاقته بسحب الجنسيات لا تتعدى كونه الرجل السياسي الذي يوقع باسم المستوى السياسي والدولة على قرارات سحب جنسيات لا يقرأها ولا يدقق بها ولا يعرف عنها شيئا.
الرجل الأخير كادت جنسيتي شخصيا أن تسقط في عهده الميمون بعدما سمع الجميع بمستوى التواصل بيني وبينه لإنصاف المواطنين أولا ولتحسين صورة الدولة الأردنية في الخارج ثانيا لكن هذا التواصل لم ينته لشيء محدد فبعد أسابيع قليلة من الوزارة تبين بأن الوزير {آخر من يعلم} وبدأ الرجل موسم الخصومات في الحوارات الجانبية بيني وبينه فتحولت الثلاجة التي ستوضع فيها قرارات سحب الجنسية إلى {براد صغير} وبدلا من مفردة{ تجميد} إستخدم الرجل كلمة {تقليل سحب الجنسيات} وحدثني عن لجنة وظيفتها تصويب الاوضاع لم تصوب في الواقع ولا قرارا واحدا طوال عهد هذا الوزير.
الأطرف كان خبرا نشرته صحيفة العرب اليوم في الأيام الأخيرة لعهد وزير الداخلية السابق الجنرال محمد الرعود ويقول الخبر بان لجنة تصويب الأوضاع التي تدرس إسترحامات مواطنين سحبت جنسياتهم ظلما وبهتانا وخارج القانون إستقبلت 3183 طلبا وعادت الجنسية فعلا إلى 83 مواطنا .. تخيلوا النسبة والتناسب عادت جنسية 83 شخصيا من 3183 شخصا سحبت منهم بإنتهاك قانوني وذلك بعد ستة أشهر متتالية من حديث رئيس الوزراء شخصيا عن عدم تصديقه لفكرة أن ينام الأردني مواطنا فيستيقظ بلا جنسية.
رغم ذلك خرج بعض شبيحة اليسار والوطنية لإتهام الحكومة بتجنيس مئات الالاف من الفلسطينيين والأمر برمته يتعلق بإعادة جنسية سرقت أصلا زورا وظلما لـ 83 شخصا من أصل أكثر من ثلاثة ألاف وصلوا اللجنة وإشتكوا لها بعيدا عن عشرات الالاف من الذين لم يسمعوا بوجود لجنة تصويت أصلا أو لا يثقون بعملها أو تنقصهم الجرأة للتعامل مع الموضوع.
واليوم تقول الحكومة الحالية بأن الحكومة السابقة التي لا تستطيع النوم بسبب سحب الجنسيات وضعت في الدرج لخمسة أشهر قرارا للجان التصويت يخص 173 جنسية يبنغي أن تعاد لأصحابها، وإذا كانت المعلومة دقيقة فالسبب سيكون سعي وزير الداخلية الأسبق لتجنب إتهامات التجنيس السياسي.
أحد القومجية من الذين شغلوا الوزارة أشبعني هوسا بفلسطين وبالوحدة الوطنية وبالحديث عن صلابة الجبهة الداخلية لان إسرائيل لا تميز في الواقع بين أردني وفلسطيني.. الرجل تبين وبالوثائق أنه أكثر وزير في تاريخ المملكة الأردنية الهاشمية قام بتوسيع تعليمات فك الإرتباط بحيث تسحب المزيد من الجنسيات ويساعده بان هذه التعليمات مرنة جدا تنمو كحبة الخيار ‘المهرمن’ التي توضع في الثلاجة بفعل فاعل مجهول وغامض.
قومجي آخر وعد الأردنيين بالحلق عشرات المرات فخرموا آذانهم ولم يحصل شيئا وحدثني شخصيا عن ضرورة معالجة قصة سحب الجنسيات والأرقام الوطنية بعيدا عن الإتهامات المعلبة وعندما كنا نطالبه بتطبيق المعايير الذي قررها ووقع عليها هو شخصيا أصر على مطالبتنا بعدم الإستعجال لان الموضوع حساس للغاية وكلمة حساس للغاية يرددها وزراء الداخلية بالعادة للدلالة على وجود قوى غامضة أهم وأكبر وأقوى منهم تقودهم.
وهذه العبارة الساحرة {الموضوع حساس ومعقد} هي الموازن الموضوعي في الأردن للتهرب فورا من المسؤولية والخضوع للقوى الخفية التي تدعم وراء الستارة سحب جنسيات المواطنين ونصيحتي لأي قارىء عربي : إذا سمعت هذه العبارة من أي مسؤول أردني فأعلم مسبقا بأن إستراتيجية إقلاق الأردنيين جميعا من شتى الأصول والمنابت فعالة لأغراض تكتيكية أمنية مغرقة بالبؤس.
.. شخصيا وأرجو أن لا يخيب ظني أحسب بأن الجنرال الزعبي مختلف تماما عن كل هؤلاء فالرجل لديه ماض مشرف وعائلة عريقة وتراث قانوني وسمعة إيجابية تماما وهذه عناصر يقاتل المرء للدفاع عنها لانها تستحق ورغم أني عموما لا أحمل أي أمل من أي نوع في الحكومة الجديدة التي تشكلت في بلادي ولا أثق بغالبية طاقمها إلا أن هذه المشاعر تصبح فورا أقل حدة عندما يتعلق الأمر بوجود شخصية قانونية محترمة وفذة وقادرة على إتخاذ قرار من طراز الجنرال الزعبي.
وليس سرا أن وزير الداخلية الأردني هو الأكثر أهمية في الشهرين المقبلين فبين يديه مهمات وملفات معقدة للغاية ولا يملك الكثير من الوقت وعليه إمتلاك مبادرات خلاقة وإبداعية للإنجاز السريع والكبير في وقت قصير وحيز ضيق للغاية محاط ببيئة معقدة تماما فوزير الداخلية هو رئيس المطبخ السياسي للحكومة وبين يديه ملفات عاجلة أهمها جدل الجنسيات وتطبيقات فك الإرتباط ذات العلاقة الجذرية بالملف الأبرز في سياق الإصلاح وهو قانون الإنتخاب وإجراء الإنتخابات ودوائرها إضافة بطبيعة الحال للإنفلاتات الأمنية.
لذلك فالباشا الزعبي في وضع لا يحسد عليه .. رغم ذلك يسمح سجل الرجل بأن نتوقع منه بصمة فارقة تعيد الهيبة عموما للوزارة الأهم وتعيد إنتاج المشهد بأن يخضع الأمني للسياسي ولو لمرة واحدة فبلادنا جربت كل الوصفات بإستثناء تجربة الوزير الدستوري ولو مرة واحدة ولو من باب منع الحسد أو التكتيك.
ما قاله الزعبي لي شخصيا: بالعقل والحوار والمبينطق سنطبق القانون ولن نمسك العصا في وجه الناس ..هذا جل ما نطمح ونحلم به فعلا.