دخل اضراب الاسرى العرب الفلسطينيين في سجون الاحتلال الاسرائيلي يومه العشرين بالقوة نفسها والعنفوان نفسه والحماس نفسه، وكأنه في يومه الاول، ولا يوجد اي مؤشر على ان اكثر من الفي مشروع شهيد بصدد التراجع عن هذا الاسلوب المشرف في المقاومة.
الاسرى خلف قضبان المعتقلات الاسرائيلية قرروا الشهادة او الكرامة، واذا كانوا لم ينالوا هذه الشهادة وهم يقاومون الاحتلال من الخارج، فانهم قرروا السعي اليها بشجاعة ورجولة وهم في الداخل وفي عقر زنازين الاحتلال ووسط جلاديه.
فاذا كانت السلطة الفلسطينية في رام الله لا تقاوم، والسلطة الفلسطينية في قطاع غزة آثرت التمسك بالهدنة، والانتفاضة الثالثة ما زالت في رحم الغيب، فان هؤلاء الرجال قرروا ان يتحركوا ويقاوموا الاحتلال بامعائهم الخاوية، لكي يلفتوا انظار العالم بأسره ليس الى معاناتهم، وما اثقلها، وانما الى معاناة شعبهم وهم الاسرى المكبلون بالاغلال.
المقاومة سلسلة من الحلقات المتصلة والمتكاملة، والشعب الفلسطيني اظهر عبقرية نادرة في استنباط انواع مختلفة منها، فعندما اغلقت حكومات عربية الحدود ولجمت الجيوش بعد هزيمة عام 1967 فجر مقاومته المسلحة واجتاز الحدود لتنفيذ عمليات في العمق الفلسطيني المحتل، وعندما اقامت السلطات الاسرائيلية الاسلاك الاليكترونية لمنع تسلل المقاومين لجأ الى الطائرات الشراعية، وبعد ذلك الصواريخ، وبين الاثنين كانت القنابل البشرية والعمليات الاستشهادية.
اليوم نحن امام أحد اذكى انواع المقاومة واكثرها حضارية في عيون الدول الغربية الداعم الرئيسي للاحتلال الاسرائيلي. فهذا الغرب الذي شيطن العمليات الاستشهادية، وصوّر صواريخ القسام البدائية على انها اكثر خطورة من صواريخ كروز العملاقة واستخدمها لتبرير العدوان على قطاع غزة واستشهاد 1400 انسان معظمهم من الاطفال، هذا الغرب لا يستطيع ان يقول شيئاً عن عمليات استشهادية من نوع ديمقراطي ناعم وحضاري بل متقدم جدا في حضاريته.
هذا النوع من العمل الاستشهادي لا يقتل احدا آخر غير صاحبه، ولكنه يقتل ما هو اهم، يقتل مفهوماً مغلوطاً لدى الرأي العام العالمي حول ديمقراطية اسرائيل والتزامها بحقوق الانسان، وبالشرعية الدولية وقوانينها.
انه واحد من ارقى انواع الجهاد ضد الظلم والعجرفة وسحق آدمية الانسان.. جهاد ضد الاعتقال الاداري وابقاء الناس سنوات خلف القضبان دون محاكمة.. جهاد ضد التعذيب النفسي والجسدي لخيرة شباب هذه الامة ومناضليها.
العالم باسره، وليس فقط العرب والمسلمون، يجب ان يتعاطف مع قضية هؤلاء الاسرى المشروعة، وان يقف الى جانبهم في وجه الاستكبار الاسرائيلي وهذا اضعف الايمان.
هؤلاء الاسرى باضرابهم المشروع وانتفاضة امعائهم نفضوا الغبار عن القضية الفلسطينية التي اكلها النسيان بسبب خمول اهلها، وفشل قيادة شعبها في تحقيق السلام الذي راهنت عليه وقدمت تنازلات كبيرة جدا من اجل انجازه، وانشغال امتها المبرر بثوراتها ضد انظمة ديكتاتورية قمعية طاغية.
ننحني لهؤلاء الاسرى، ولكل الارحام التي انجبتهم، شاكرين ومقدرين وعارفين بالجميل، فقد كانوا وما زالوا القدوة والرمز لكل معاني الشرف والمقاومة والكرامة.
لعل هذا الاضراب عن الطعام يكون المفجر لثورة الربيع الفلسطيني، بحيث تنتقل الشرارة من المعتقلات الى مختلف انحاء الوطن المحتل والشتات ايضاً.
عبدالباري عطوان – القدس العربي