إتخذت الإدارة الأميركية مرتين قرار الحرب خلال العقد المنصرم، وتراجعت بعد ذلك مرتين في إتخاذ قرار الحرب أو المشاركة فيها، ففي عام 2001، تم إتخاذ قرار الحرب على افغانستان بدون تردد، وسارع البنتاجون الى إرسال قواتهم البرية والجوية وقاصفاتها لاحتلال افغانستان، ومثل هذا القرار تم إتخاذه من قبل الادارة الأميركية في إحتلالها العراق عام 2003، ولم يلمس المراقبون أي نوع من التردد في الإقدام على خوض هاتين الحربين، بل كان هناك إصرار لخوض الحربين وإحتلال البلدين.
المرتان التي تراجع فيهما القرار الاميركي بقوة في قضية خوض الحروب، كانت الأولى قبل سنتين تقريبا، عندما جرى الحديث عن الحاجة الى عمليات عسكرية أميركية ضد طالبان في قندهار ومدن أفغانية اخرى، ولم يأخذ الرد طويلا، وجاء بنفس سرعة إتخاذ قرار الحرب قبل عشر سنوات، فقد أجابت هلاري كلينتون وزيرة الخارجية الاميركية فورا، وقالت بالنص ( لن نكرر تجربة الفلوجة)، وحسمت النقاش دون الرجوع الى المستشارين والخبراء العسكريين وقيادات البنتاجون، والمرة الثانية التي إتخذت فيها الادارة الاميركية قرارا بعدم الدخول في حرب، جاء في رد الولايات المتحدة على قرار الناتو في التدخل بليبيا، فقد ردت الادارة الاميركية فورا بالقول إنهم أي اميركا، لن يرسلوا جنودهم للمشاركة في الحرب بليبيا.
هذا التحول في إتخاذ قرارات الحرب لم يأت من فراغ، كما أنه يمثل انتقالة كبيرة في السياسة الخارجية الاميركية، ومن الواضح أن قساوة الدروس التي تلقتها الولايات المتحدة في كل من أفغانستان والعراق، قد وجدت حضورا قويا في المؤسسات الأميركية المعنية بالسياسة الخارجية الاميركية، وهو إعتراف واضح ودقيق بفشل السياسة القديمة التي اتبعتها الادارة الاميركية منذ ثمانينيات القرن الماضي، واستندت فيها الى انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، وهو القوة التي وقفت في وجه القوة الاميركية، ووجدت الادارة الاميركية في إخراج القوات العراقية من الكويت مطلع عام 1991، مناسبة للغرور السياسي، وبدون شك إن تداعيات مثل هذا الغرور تجد مكانها وتحولاتها في الميدان العسكري، وتزامن هذا الغرور مع دخول البشرية في عصر العولمة، التي اعتقدت الادارة الاميركية، أنها أي العولمة قد أصبحت الأداة الأكبر بيد أميركا، وأن جميع الدول والمؤسسات، لن تجد في العولمة ما تجده الولايات المتحدة، سواء في تسويق الهوية الاميركية، وفي ممارسة التثبيط للشعوب والامم من خلال الانتشار الاعلامي وإمكانية الوصول الى أبعد قرية في العالم، ومخاطبة الناس بلغة تزخر بملامح الغرور الاميركي، الذي سجل أعلى درجاته في تسعينيات القرن الماضي، واعتقد أصحاب القرار الاميركي، أن الانطلاقة الأوسع والأكبر للمشروع الاميركي الكوني سيكون في القرن الحادي والعشرين، وقالوا إن هذا القرن سيكون أميركيا بامتياز.
من هذه القناعة جاءت سرعة اتخاذ القرار العسكري الاميركي في خوض حربين في كل من العراق وافغانستان، لكن الواضح أن الادارة الاميركية قد أدركت أنها قد سقطت في مستنقع خطير قادها الى أعماقه السحيقة غرورها، وما أخطر أن تصاب دولة بغرور سياسي من هذا النوع، وأسست الإدارة الأميركية على نقاط قوة تبين لاحقا أنه التأسيس الخاطيء، ما قاد الى كوارث مخيفة، وهذا يتضح من خلال رفض الادارة الأميركية تكرار تجربة الفلوجة التي قاتل فيها العراقيون بشراسة ضد القوات الأميركية في معركة الفلوجة الاولى في أبريل عام 2004،الأمر الذي دفع أصحاب القرار الاميركي الى شن حرب إبادة ضد هذه المدينة الصغيرة، مستخدمين الأسلحة الفتاكة المحرمة دوليا وفي مقدمتها الفسفور الابيض، ولم تكن الدروس من الفوجة فقط، فقد انتفضت مدن العراق بوجه الاحتلال الاميركي، وأرغمت الادارة الاميركية الى إتخاذ قرار الفرار من العراق، وفي افغانستان تتعرض قوات الغزو هناك الى هجمات واسعة وشرسة، وتتكبد القوات الاميركية والدولية معها الخسائر الفادحة، ولم يقتصر الامر على الخسائر البشرية، فقد فتك العراقيون والافغان بالاقتصاد الاميركي، الذي تحول من اقتصاد قوي ومزدهر الى اقتصاد مهتريء وفي غاية الضعف، وهذا ما أكدته الأزمة المالية والاقتصادية في أميركا منذ عام 2009.
واذا ترددت أميركا في تكرار تجربة العراق وافغانستان، فإنها أضاعت فرصة أن تكون زعيمة العالم في القرن الحادي والعشرين، ولتحقق لها ذلك لو لم تدخل هذه الحروب التي دمرتها وأصابتها بالشلل التام.