كل المؤشرات وليس نصفها كانت توحي مؤخرا بأن حلقات نافذة في دوائر القرار الأردنية خططت للضغط جيدا على خصمها رئيس الوزراء السابق عون الخصاونة حتى يصل إلى مستوى الإستقالة.
لكن سياق الأحداث كما حصلت في أسبوع إستقالة الخصاونة الذي لا زال حديثا مفضلا للناس في البلاد يدلل على أن مسألة يتيمه لم يخطط لها الراغبون بالتخلص من (صداع الولاية العامة) الذي أنتجه الخصاونة وهي حصريا نقطة التلاقي بين الرغبة في (إقصاء) الخصاونة وإزاحته وبين سعيه الشخصي لإستثمار الموقف والإنسحاب قبل الإطاحة به.
لذلك شكل الضغط العنيف على الرجل نهاية الأسبوع الماضي فرصة نادره له لكي ينسحب في التوقيت الذي يناسبه هو وليس بقية المسئولين المنشغلين بالتحريض ضده.
المعنى أن طبيعة الإستفزازات التي تعرض لها الخصاونة وهو في زيارة رسمية لتركيا نجحت في تنفيذ مهمتها لكنها وفقا لما ثبت لاحقا لم تنجح في توقع (ردة فعل عاصفة) بمستوى إستقالة علنية من خارج البلاد قررها الخصاونة بهدوء ونعومة بعدما إستيقظ من نومه لكي يكتب إستقالته في مقر الضيافة التركي ويرسلها فجرا إلى عمان وهو قرار يعني بأن الأطراف التي تنشطت ضد الخصاونة وعلاقته المميزة بالقصر الملكي نجحت في إستراتيجيتها لكن الأخير سمح عمليا بهذا النجاح وفجر إستقالة دراماتيكية أربكت النظام السياسي برمته ودفعته للتبكير بخيارات لم تكن جاهزة يتضح اليوم أن بعض تفاصيلها سلقت سلقا وفقا للتركيبة التي تضمنتها الوزارة الجديدة برئاسة الدكتور فايز الطراونة ووفقا لمساحات المحاصصة التي تكشف بأن الحكومة شكلت على عجل وبدون دراسة متأنية.
السؤال إذا يبقى عالقا في سماء الواقع السياسي الأردني: لماذا فعلها القاضي الدولي الخصاونة ورسم حدودا مختلفة للعبة تداول السلطة عندما إستقال بقرار نهائي وحاسم ولا رجعة عنه وبطريقة دراماتيكية ؟..السؤال بصيغة أخرى: لماذا سمح الخصاونة رجل القانون المثقف والهاديء جدا للأخرين بإيصاله إلى دائرة (رد الفعل)؟.. أحد المقربين جدا من الرجل يتوقع بأن خطوة الإستقالة يحتج فيها الخصاونة ضمنيا لصديقه الملك عبدلله الثاني على الأسلوب الذي تعامل به مع حكومته بعض رجال الدولة ورموزها لكنها في الوقت نفسه خطوة يقول فيها الخصاونة ضمنيا: حسنا أردتم الضغط علي حتى أطلب الإنسحاب..ها انا أنسحب فورا وبدون طلب .
يعني ذلك أن الخصاونة رغب بتفويت الفرصة على المتحرشين بوزارته في أروقة وغرف الحكم والقرار من الراغبين بإستقالة الرجل بطريقة تقليدية فقرر المغادرة بطريقة غير تقليدية مما يؤشر حسب سياسي مطلع جدا على أن لحظة تفجير الأزمة مع رئيس الوزراء بإستدعاء أبرز وزيرين عيد الدحيات ومحمد الرعود والضغط عليهما لتوقيع وثيقة ملكية بغيابه .. هذه اللحظة توافقت مع قناعة الخصاونة أصلا بأنه يريد الإنسحاب والأهم لا يخطط للعودة فما فعله الرجل هو سلوك رئيس حكومة لا يخطط إطلاقا للعودة إلى الحكم حسب النشط السياسي محمد الحديد.
بعض كبار الساسة عندما سألوا الخصاونة عن التجربة أفاد بأن (الرئاسة) كانت زوجة أجبر عليها بعد مفاوضات لمدة شهر وسبق أن رفض الإرتباط بها عدة مرات ..بعدما إقترن بها إكتشف في المخدع أنها زوجه قبيحة وتنتج يوميا أطنانا من القلق والتوتر والنكد فقرر الطلاق وبلا رجعة وتركها لعشرات الذين ينافسونه من أجل ودها.
ويعبر الرجل عن ذلك عندما يرفض التعليق على ما وصفه بالقرف الإعلامي الذي صاحب ضجيج إستقالته.
لكن الظروف والملابسات تؤكد اليوم بأن الخصاونة ضمر الإنسحاب والمغادرة أصلا عندما شاهد ميلا منهجيا لإرهاق حكومته ووزرائه عبر النواب بالأسئلة والإستجوابات وطرح الثقة بمبرر وبدون مبرر.
تلك لحظة قدر مطبخ الخصاونة أنها مؤشر قوي على (حراك نشط) ضد حكومته في كواليس الإدارة والدولة وعندها بدأ يفكر بالإستقالة فعلا ولكن بطريقة هادئة عبر الإعتذار والإنسحاب وليس كما حصل عبر إسطنبول أما حيثيات إستدعاء الوزيرين الرعود والدحيات فقد فاجئت الخصاونة ودفعته فقط للتعجيل بإستقالته بعدما تيقن المقربون منه بأن المطلوب مضايقة حكومته أكثر وإسقاطها لاحقا.
وليس سرا اليوم أن الخصاونة كان يستطيع حل الإشكال المتعلق بالخلاف مع مؤسسات شريكة بالقرار على تمديد أو تخفيض مدة دورة البرلمان فالحل على رأي أحد الوزراء الراحلين كان بسيطا ويتمثل في أن يتواصل رئيس الوزراء المستقيل ويتعهد بدورة إستثنائية قريبة جدا للبرلمان بدلا من تمديد ولاية الدورة العادية وعدم اللجوء لهذا الحل يثبت عمليا بأن الخصاونة كان يريد الإنسحاب من المشهد وخلق مساحة إستعصاء أمام عودته للحكم خصوصا وأن الحق الدستوري للملك بتمديد ولاية دورة عادية للبرلمان لم يستخدنم سابقا حسب الخبراء.
المسألة يمكن تلمسها من الحديث الهاتفي السريع والخاطف الذي دار بين القدس والعربي ورئيس الوزراء بالوكالة الدكتور عيد الدحيات الذي تسبب ما حصل معه في الديوان الملكي بإستقالة حكومة الخصاونة أصلا فالرجل إتصل بالقدس العربي مقدرا توازنها في عرض القصة والحدث وعندما سئل عن خيارات بديلة معتدلة كان يمكن أن تحتوي الأزمة ألمح إلى ان الموقف كان صعبا ومعقدا مشيرا لإن الأردن والنظام والعرش أهم كثيرا من الإعتبارات الشخصية سواء تعلق الأمر به شخصيا أو بغيره نافيا أن يكون لديه علم عن إحتمالات عودته للوزارة مع الرئيس فايز الطراونه.
وتليمحات الدحيات هنا تثبت بأن الرجل وضع في دائرة الخيار الصعب عندما طالبه أحد كبار المسئولين بلغة خشنة بتجاوز رئيسه المسافر خارج البلاد- نقصد الخصاونه- وتوقيع وثيقة دستورية بصفته رئيسا للوزراء بالوكالة قائلا: دكتور ببساطة شديدة عليك الإختيار ما بين رئيس الوزراء وجلالة الملك.
طبعا لا يمكن لرجل مخضرم وإبن للنظام مثل الدحيات أن يحتارعندما يوضع في خيار من هذا النوع فالمسألة محسومة خصوصا وانه إستعمل صلاحياته كرئيس بالوكالة للوزراء فيما كان قد سبقه وزير الداخلية في ذلك الوقت بالتوقيع المطلوب حتى بدون التشاور مع رئيس الوزراء المتواجد في تركيا وإن كان الدحيات قد فعلها بعدما طلب منه الخصاونة أن لا يفعل.
حتى الخصاونة في الواقع وفي مجالسه بعد الإستقالة يتفهم ما حصل مع دحيات ولا يلومه بقدر ما يلوم المسئولين الذين إختاروا طريقة (غريبة وإنفعالية وغير مسبوقة) لتطبيق إرادة القصر الملكي التي كان يمكن إنفاذها بعشرات الطرق البديلة حسب فهم المقربين من الخصاونة الذي لاحظ لاحقا بأن الدحيات والرعود تحديدا كانا وخلافا للتقاليد الإجتماعية ضمن فئة الوزراء الذين عملوا معه ولم يقوما بزيارة مجاملة له بعد الإستقالة خلافا لأخرين في الطاقم تواجدوا بجانب رئيسهم المستقيل تضامنا لثلاثة أيام في رسالة واضحة لجميع الأطراف.
ويبدو مطبخ الخصاونة محتارا ليس لإن طريقة إستدعاء الرعود والدحيات كانت غريبة ولكن لأن طرح السؤال بحد ذاته شكل عنصرا مستجدا في المشهد وغريبا فلا يجوز أصلا وضع أي سياسي او مسئول أو حتى مواطن في دائرة الإختيار بين القصر وأي شخص آخر حتى لو كان رئيسا للوزراء فالأجوبة معروفة ومحسومه والسؤال ينبغي أن لا يطرح أصلا ولا يجوز وطنيا ونظاميا أن يطرح لإن الأردنيين جميعا يريدون ويختارون مؤسسة القصر دوما وأبدا وبدون تردد أو تفكير كما يلمح الدحيات نفسه.
اللافت هنا أن الحيثيات تشير لإن وزير الداخلية الأسبق محمد الرعود وقع بعشرة أيام وثيقتان حول نفس الموضوع لكن بتنسيب متعاكس تماما الأولى كانت قبل سفر الخصاونة لتركيا وتتضمن قرارا بفض الدورة العادية للبرلمان ,والثانية بتمديد ولاية الدورة فجر يوم تفجر الموقف وإستقالة الحكومة برمتها وهوتناقض نادر يحصل لأول مرة في مؤسسة عريقة مفعمة بالتقاليد الدستورية تحكم الأردن فيما بدا واضحا أيضا اليوم بأن طريقة بعض المسئولين غير المحترفة وغير الدستورية حسب بعض الإجتهادات في (إنفاذ) الرغبة الملكية كانت سببا مباشرا للأزمة الحالية التي تعيشها البلاد وليس الرغبة الملكية نفسها.
القدس العربي