في كل منا تراكمات وظروف حياتية علمتنا وشكلت أساساً لشخصياتنا التي نحن عليهاالآن. في صغري مثلاً أذكر أنني كنت لا أتردد في الموافقة على تأدية أية مهمة تطلب مني ضمن النطاق العائلي. في المدرسة أتذكر أيضاً أن المعلمات كنّ يخترنني لإحضار الطباشير والأوراق ومهمات أخرىيطلبنها في فترة الفرصة والسبب أنني لا أمانع عادة ولا أعترض وأؤدي الدور عن طيب خاطر. وقبل سنوات كثيرة عندما بدأت حياتي العملية قدمت مهمات وظيفيةبطيب خاطر أيضاً وبقناعة تامة بمبدأ المساعدة والمشاركة للزملاء خارج الوصف الوظيفي المطلوب.
كثير منا من يضع الناس أولاً قبل نفسه..لكن وقفة للتمييز بين مساعدة نبيلة تبادر بها للمحتاج لها حقاً وبين استمرائهاواستغلالها من قبل الآخرين تصبح ملحّة في سنوات النضج والاختمار،فحين تظن أن من اللطف صرف طاقاتك لأجل الغير فقط، وحين تظن أن الخلق الكريم في تقديم أكثر مما هو مطلوب منك يصدمك التطاولوالاتكالية لتنفجر كي تصبح أكثر حذراً وحزماً وهدوءا. وهذا أفضل بكثير.
هل تتذكر كم من كلمة «نعم» و «حاضر» قلتها مرغما أو خجلاً أورضخت لها ولا زالت أصداؤها تؤثر فيك وفي حياتك إلى الآن.
كم مرة أردت أن تقول كلمة»لا» لكنك لم تقلها. وكم مرة قلتها لكنها لم تُسمع ولم تجد لها أذناً صاغيةلأنك لست الطرف الأقوى. وكم مرة أغاظك ما يجري من حولك دون أن ترفع صوتك بهذه الكلمة الصغيرة: لا!.
لسنين طويلة، نظن أن مانتلقاه من محيطنا وما تلقمناه في مدارسنا وجامعاتنا سيكون كافياً لإجادة فنون الحياة، لكنك تكتشف متأخراً أن أولوياتك مرتبة بشكل خاطئ. لقد حملنا قناعتنا سنين طويلة ، فساعدنا بطواعية وتعاونا بطيب خاطر وبادرنا بتقديم الجهد والتعب بإخلاص دون أن ندري أننا أحياناً كنا نحرث في واد غير ذي زرع وندع الغير يحصد عرقنا.
لكن المواقف تتغير، ربما فجأة، ذلك بعد أن يكون حسن النية قد أنهكنا وأخذ من وقتنا الكثير. فكما المال السائب يعلم السرقة، تعلمك المبادرة تجاه من لا يستحقها والنية الحسنة بغير حذر كيف يسارع الآخر لاستغلال المواقف.ويبقى أن نتوقف بهدوء وحزم لنقول أقوى كلمة تضع حدا للمتمادي وتحفظ مياهنا الإقليمية من الاختراق وتغير المواقف لصالحنا دون أن تفقدنا احترام الغير. فالمساعدة فقط لمن يستحقها والمبادرة لمن يقدرها وحسن الخلق في التنازل للغير فقط لمن يُكبر هذا النبل فيك.
يمر شوط طويل قبل أن يصل بنا القطار لمحطة تصيّرنا أكثر نضجاً واكتمالاً، وأكثر استقلالية وحرية في الاختيار والحزم، وذلك لا يحدث إلا حين تلفحنا الحياة وتنضجنا بلهيب أيامها لنكون ما نحن عليه اليوم. مع ذلك نتمسك بالخير فينا وفي الناس ونؤمن بالمقولة السائدة: أعط الناس مايستحقون وما لا يستحقون يعطك الله ما تستحق وما لا تستحق. ودمتم بخير.