.. لم يكد يمر أسبوع بالتمام والكمال على أكاذيب عمر سليمان نائب الرئيس المصري المخلوع حول اتفاقية تصدير الغاز مع الكيان الصهيوني، والتي كان سليمان ـ ووفقا للوثائق المنشورة ـ مهندسها وعقلها المدبر، حتى فاجأتنا وسائل الإعلام (الغربية بالطبع) ببشرى هدم العمود الرئيسي لتلك الاتفاقية المشبوهة، والقذف بها إلى سلة قمامة النظام البائد، في انتظار استقبالها اللائق في مستودع نفايات التاريخ، وكم يحمل خاطر المرء من أسباب الشفقة على هذا المستودع، وليس أقلها اشمئزازه وتقززه مما سيحمله من نفايات العمالة للكيان الصهيوني الغاصب والفساد والتربح المالي في عصر مبارك.
لسنا في معرض الغوص في تفاصيل الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة المصرية بالغاء اتفاقية تصدير الغاز بشكل مفاجئ، فمراوحة التحليل بين المناورة السياسية والاشتراطات المالية لتلك الاتفاقية “الفضيحة” لن تضيف كثيرا لحقيقة أن بدايات النبت الشيطاني في البرك الآسنة كنهاياته في أقرب مقلب نفايات، وأن من يمتلك أسرار تحضير الجان واستحضار الاعيبها الجهنمية قادر على صرفها ودرء أذاها، وفي كل الأحوال تخرج مصر منتصرة بمكسب مرحلي تتزحزح بها خطوات نحو حدود الاستقامة صوب قبلة عروبتها، التي طالما حاول المخلوع مبارك ومن قبله السادات شيطنتها في المخيلة المصرية.
واليوم.. ومصر تنفض شيئا من غبار “التطبيع” الذي علق بثيابها، وجعل من تاريخها المشرف في خدمة عروبتها متحفا أو قل مقبرة لحروب وشهداء، لن تبارح حلق المرء مرارة ذكرياته الجامعية وحماسه في مقاومة التطبيع على صفحات مشروع تخرجه الصحفي، وما حدث من استضافه تليفزيون بلاده الرسمي ليتحدث عن طبيعة هذا المشروع، وحماسة الفتى المتناهية في حديثه المعاد لثقافة القتل في إسرائيل وأكاذيب التطبيع، ليفاجأه مقص الرقيب عقب إذاعة البرنامج بسحق كل ما يمت ولو بإشارة عابرة للتطبيع، حتى أضحت مطبات الكلام والتواءاته كحديث الأشباح، وبدا للمرء قناعة قاطعة بارتكابه جريمة نكراء.
وللتاريخ فإن مراجعة المرء لذاته تقتضي الاقرار بأن ترتيبات تصدير الغاز وبيزنس الكويز وسيناريو التوريث كانت تستحق بيئة اعلامية وثقافية ممالئة للعمالة والخيانة والتنكر لمعاني الوطنية والعروبة، ولم يكن مفرا من التعامل بمنهج اقصائي لكل صوت بكر ناطق بمشاعر جيرانه وأهله وعشيرته، واشاعة ما تسمى بـ(ثقافة السلام) والترويج لزيارات المطبعين إلى إسرائيل وافساح المجال واسعا لهرطقات “مخرفي” كوبنهاجن من قدامي الثوريين الذين تحولوا ـ وللأسف ـ إلى ثورة مضادة ونكبة على وطنهم وأمتهم، بل ولم ترفع يدها عن موضوعات الانشاء في الامتحانات العامة والتي كان الطلاب يجبرون فيها على الغزل في مفاتن سلام لم يروا من تجلياته سوى سفح الدماء العربية ونهب أرضها.
لكن يبدو أن زيف الأكاذيب ومعوج المنطق قد تبخر مع الغاز ومع عصر حسني مبارك، ولن يبعثه من شقوق التاريخ المحاولات المضنية لاستنساخ مبارك جديد على ضفاف النيل، فقد تساقطت أقنعة مبارك وسليمان وجنودهما وتهاوت حجج الزامرين بأكاذيب الضرورات الاستراتيجية الحاكمة مع الكيان، وباتت مصر أمام مواجهة حقيقية أمام نفسها يتحسب لها العدو قبل أن يقرأها أصحاب البيت، ومع نلمسه من تلكؤ النخبة الحاكمة في تصفية تركة العار وتأخيرها، إلا أن طريق السلامة يقتضي الأخذ بزمام (بيدي لا بيد عمرو)، لأنه لا تصالح مع حقبة تاجرت وقايضت على التاريخ والمكانة والدور المصري.
على ذلك، لن تمل الأقلام عن النفخ في وجه ما تبقى من أوثان التآمر، فبيزنس التطبيع لم يتوقف بعد ومشروعات الشتلات الصهيونية ما زالت تكوي أحشاء المصريين بسموم الكيان وتستثمر في أكبادهم بأخبث الأمراض وأشرسها، لكنه القول الفصل .. يكفينا النفخ.. والنفخ فقط.. لأن ما يشد عود تلك الأوثان هو الأوهام وستتهاوى قريبا.