قبل أربعة أسابيع، سيّر البحرانيون المنتفضون حشدا ممتدا بطول عدّة كيلومترات، يزدحم بمواطنين بحرانيين من كافة الأعمار، نساءً ورجالاً، في يوم جمعة، والجمعة منذ بدأت الانتفاضات في الأقطار العربيّة _ سميناها تيمنا واستبشارا: ثورات_ والحراكات..باتت يوم الذروة، ففيها الزخم العددي، والشعارات، والاشتباكات، والدم، والبطولة، والعناوين الصاخبة في الصحافة، والفضائيات..ومع ذلك كان التجاهل التام، والتعتيم الشامل على خروج مئات ألوف البحرانيين في جمعتهم تلك، كغيرها من جُمعهم، فمراسلو الفضائيات مشغولون بمهمات وجهوا إليها في أمكنة أُخرى، تخدم أهدافا لم تعد تخفى على المشاهد العربي الفطن القادر على التمييز، والذي يطرح أسئلة تحرج لا الفضائيات تلك، وإنما من يمولونها، ويتحكمون بها.
فقط حراك شعب البحرين، أو انتفاضته، لم تحظ بعناية الفضائيات( العربية)، وفضائيات الديمقراطيات الغربية، المعنية بحقوق الإنسان، والحريات، وحق التظاهر، وصناديق الاقتراع!.
في الجمعة التي أشرت إليها، دهشت من زخم الحشد الشعبي في بلد بالكاد يبلغ عدد سكانه ستمائة ألف مواطن، وهو ما لا يحدث في بلد عربي آخر من بلدان الانتفاضات، والحراكات، قياسا بعدد السكان!.
تنقّلت بالريموت بين الفضائيات العربية المشهورة جدا، آملاً أن أرى بثّا مباشرا لهذا الحراك البحريني..فلم أر شيئا عن البحرين، وشعبها، وكأن جُمعة البحرينيين ليست جمعة إسلامية!
فقط فضائية( المنار) كانت تنقل الحراك الشعبي البحريني، وهي بذلك لم تكن منحازة، ولكنها كانت منصفة، بينما الإدانة تتلبس من يتجاهلون شعبا ينتفض منذ قرابة سنة، وله تاريخ في الكفاح الشعبي، وحركته الثورية من أنشط الحركات في منطقة الخليج، وأعمقها وعيا، وأطولها نفسا، وعلى مدى عقود، وتجاهلها يقع في خانة التمييز الطائفي، والتشويه، والتحريض، وتبرير القمع في بلاد تحكم عائليا، حيث تمتلك العائلة الوطن مُلكية خاصة، وتحتكر الممتلكات والثروات وتنهبها وتتقاسمها بين أفرادها.
قبل أيام وصلتني رسالة على بريدي الإلكتروني، موقعة من: مركز البحرين لحقوق الإنسان، ومركز الخليج لحقوق الإنسان، بالتعاون مع مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان..تُعبّرعن القلق لتردي الحالة الصحية للمناضل الحقوقي البحريني عبد الهادي الخواجة، الذي حكمته محكمة عسكرية في حزيران 2011 بالسجن مدى الحياة، والذي بحسب تقرير طبي عن حالته الصحية فقد ’25 من وزنه، وباتت حياته في خطر.
المناضل الخواجة مضرب عن الطعام منذ أكثر من 60 يوما، وهو تعرّض للتعذيب الوحشي، ما أدى لكسر عظام فكه، وامتهان( جسده)، وبحسب الأطباء الذين زاروه فهو معرّض لأزمة قلبية، أو غيبوبة..وهو يحتاج للعلاج الفوري لإنقاذ حياته.
السلطات البحرينية رفضت طلب وزارة الخارجية الدنمركية بترحيله إلى الدنمارك التي يحمل جنسيتها إضافة لجنسية بلده البحرين، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل أوقفت ابنته الناشطة المعروفة زينب الخواجة، وأخضعتها للتحقيق المطوّل، لأنها شاركت في اعتصام أمام مستشفى السجن، مطالبة بالإفراج عن والدها!.
منذ قمعت الجماهير البحرينية في دوّار اللؤلؤة، تتواتر الأنباء الشحيحة عن الانتفاضة الشعبية البحرينية، دون أي تركيز إعلامي، بل بتجاهل مقصود، لأن جزيرة البحرين تقع في خاصرة السعودية، وهي كانت دائما أشبه ببؤرة ثورية قابلة للانتشار في محيطها الخليجي، ولا سيما السعودية التي تتأجج نار الغضب فيها تحت الرماد الذي بدأ بالتوهج وتطاير الشرر.
رغم القمع الوحشي في دوار اللؤلوة، الذي مارسته قوّات درع الجزيرة، لم تخمد نيران الانتفاضة الشعبية البحرينية، وهي بنظر أي منصف تبدو الأوضح، والأكثر جذبا شعبيا، والأبعد عن العنف، فهي سلمية رغم التنكيل اليومي، والسجون، ومحاولات تشويه توجهاتها، رغم وضوح وعدالة مطالبها، وشعاراتها، وأصالة وطنيتها، وبعدها عن المؤثرات الخارجية.
انتفاضة شعب البحرين لا سند لها، ولا دعم، ولا رعاة، ولا تشملها مبادئ حقوق الشعوب في التحرر من الاستبداد، وديمقراطية صناديق الاقتراع، والمساواة بين المواطنين..فقط : لأنها تقع قرب آبار النفط، وقواعد الاحتلال الأمريكي، وتهدد في حال انتصار شعبها هذه المصالح التي لا تقبل التسامح، فلا إنسانية، ولا إجماع دوليا، ولا رأي عاما، ولا لجان حقوق إنسان، ولا ارتجاف في صوت مدام كلينتون وهي تتحدث عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان..حتى لتكاد تبكي وتقد ثوبها حسرةً وتفجعا على ما يجري في سورية..فالبحرين حيث الأسطول الخامس الأمريكي شيء.. البحرين بجوار السعودية..وسورية بجوار ( إسرائيل) شيء آخر!
بعدما زرت البحرين قبل خمسة أعوام، مشاركا في ملتقى المؤتمر القومي العربي، كتبت مقالة نُشرت في القدس العربي، عن تلك الزيارة، أبديت فيها حزني لغياب الصديق المناضل عبد الرحن النعيمي عن استقبال الضيوف العرب الذين تجمعه بكثيرين منهم صداقة حميمة، والذي علمت أن سبب غيابه عن استقبالنا.. أنه ( ميّت) إكلينيكيا!
مجرّد جملتين في مقالتي تلك عن ذلك المناضل الكبير استفزّت بعض صحفيي نظام الحكم، الذين كما علمت جادلهم بالتي هي أحسن زميلنا الصحافي الكبير رشاد أبوداوود، وكان آنذاك رئيسا لتحرير صحيفة بحرانية، حتى أقنعهم بأن ( يلمّوا) الموضوع لأن الإشارة إلى النعيمي كانت لفتة وفاء من صديق عرف النعيمي في بيروت لسنوات، حين كان ذلك المناضل الكبير مضطرا للهجرة من القمع لسنوات، والعيش في كنف الثورة الفلسطينية، والحركة الوطنية اللبنانية، مع عدد من أبرز المناضلين البحرانيين..الذين عاد كثير منهم إلى بلده فيما بعد.
لم أسمع من النعيمي وغيره من رفاقه البحرانيين إلى أي طائفة ينتمون، فخطابهم كان دائما قوميا، وهمّهم الرئيس كان دوما تحقيق العدل والحرية والكرامة والمساواة لأبناء البحرين جميعا، وليس لفئة، أو لأبناء طائفة..فلعبة الطائفية التضليلية هي من اختصاص السلطات الجائرة، لأنها تحافظ بها على امتيازاتها في الحكم.
يوما ما سيتم إنصاف شعب البحرين، وآمل انه غير بعيد، وعندئذ سيدان كل من كان قادرا على تقديم العون لهذا الشعب العربي الأصيل، الذي تستفرد به أعتى الرجعيات العربية، والتي تفرض عليها الوصاية، وتقمعه فارضة حالة من التعتيم الإعلامي على انتفاضته الباسلة، ومستغلة( تطنيش) دعاة الديمقراطية، التي يغيب صوتها عندما تصل الأمور إلى تهديد نهب آبار النفط، وبقاء قواعد الاحتلال العسكري!.
إذا كان الغرب الإمبريالي يكيل بمكيالين، وأنظمة الرجعية والعداء للأمة تضرب بوحشية دفاعا عن فسادها، فلماذا يسكت الكتاب، والصحافيون، والمفكرون..على قمع شعب البحرين العربي،الذي أنجب مثقفين، ومفكرين، ومبدعين..من خيرة من أنجبت أمتنا، ومنهم من زج بهم في السجون لسنوات لأنهم قرنوا الكلمة بالموقف حبا بوطنهم وشعبهم؟!
البحرانيون شعب..وهم بشر..وهم عرب أقحاح..وهم بانتفاضتهم يواجهون قامعيهم بصدورهم، وقبضاتهم، ووضوح أهدافهم، ولأنهم يعرفون من يتآمر عليهم، ويخرّب بلدهم، فقد رفعوا في جمعتهم الأخيرة شعار: لا للاحتلال السعودي…
البحرين بلد صغير حجما، قليل عدد السكان، ولكن شعبه كبير الهمّة..وأمثال الدكتور عبد الهادي الخواجة يضحون بحياتهم لبلدهم، وشعبهم، وهم بالكلمة الشجاعة، والإضراب عن الطعام، والتصدي لقذائف الغاز والرصاص الحي، يقدمون صورة باهرة مشرّفة للمثقف العضوي الذي يقرن القول بالفعل.