الطريق الدولي الذي يربط بين الأردن وسوريا قرب منطقة “جابر السرحان” الأردنية يكاد يخلو من السيارات، إلا القليل من الشاحنات وسيارات نقل الركاب. الاستراحات السياحية على الطريق “ما في حدا.. لا تندهي”، هي إما مغلقة وإما خالية.
فجأة تقع عيوننا، زميلي الصحافي عواد الخلايلة (مراسل “الشرق” القطرية) وأنا، على امرأتين وولد يقطعون الطريق. ساورنا الظن، أو الأمل، أن يكونوا سوريين. رجعنا إليهم، امرأة أربعينية تلتحف السواد، وفتاة عشرينية، أو أقل قليلا، وصبي لم يتجاوز الإثني عشر ربيعا (أو خريفا).
كانت المرأة تحادث سائق شاحنة على وشك الانطلاق. ما إن انتهت، حتى أقبلت نحونا: سألناها إن كانت من سوريا، أجابت بنعم. من أين: درعا. أين تسكنون؟ في قرية على مقربة.
لمحت بيدها ورقة نقد من فئة خمسة دنانير (سبعة دولارات) تصرها بشدة، توقعت أن يكون سائق الشاحنة نَـقَـدَها إياها. سألناها عن أهلها، فأجابت: زوجي بدرعا، وجئنا منذ 15 يوما، أنا وابنتي وولدي، ولا ندري عنه.
هربوا من نار الحرب إلى برد الصحراء
وقبل أن نكمل السؤال، بادرتنا بالقول: “نسكن غرفة أجرتها مئة دينار (140 دولارا)، ولا نملك شيئا”.
التقطت أنفاسها، واستعادت، بتردد: “والله لم نتعود يوما سؤال الناس، لكننا ويشهد الله مضطرون إلى مد أيدينا إلى أهل الخير… ما معكو شي تجبروا خاطر الولد؟”.
لجمني السؤال. لم أحر جوابا. سألني رفيقي: معك فكة؟ أومأت بنعم. ثم سألها: معك تلفون يا حجة؟ أجابت بالنفي، مد إليها بطاقة العمل وعليها عنوانه، وقال لها: إذا استطعت هاتفيني على هذا الرقم، لعل الله ييسر من يساعدك.
أكملنا طريقنا إلى نقطة الحدود: سيارات بعدد الأصابع تعبر نقطة التفتيش، بينها شاحنات تحمل لوحات لبنانية.
قفلنا راجعين إلى المفرق. المدينة القريبة القابعة على حد الصحراء… وسوريا .. والجوع واللجوء.
المفرق: في كل بيت قصة
جمعية المركز الإسلامي التابعة لجماعة “الإخوان المسلمين” هي محط أنظار جميع السوريين اللاجئين في المفرق، وآمالهم في لقمة وفراش. هناك تصب جميع المعونات من مختلف الجمعيات والهيئات الأخرى التي اتخذت مقرها قاعدة لها.
لدى وصولنا كان وفد بحريني يضم نواباً وناشطين يوزع معونات جلبها من البحرين. عشرات النساء كن ينتظرن، في الدور، لتسلم المعونات: أغذية، فرشات ، سجاجيد، زيوت، مدافىء (صوبيات).
رد علينا ناشط، ونحن نبدي تقديرنا لجهد الوفد: الخليجيون مقصّرون جدا، ما يحضرونه من مؤن، نوزع مثله يوميا من تبرعات الأردنيين، ما يفعلونه هو استعراض أمام الإعلام والفضائيات فقط.
سألته: ما المطلوب؟ فأجاب: أضعاف أضعاف ما يقدمونه، وبإخلاص، هؤلاء الناس يحتاجون الى المال ليدفعوا بدل السكن، وأدوية مكلفة لمرضى القلب والمصابين بأمراض مزمنة.
انتهى الاحتفال. التقينا امرأتين تحملان المؤن والفرشات والأغطية وتضعانها في سيارة “بيك أب”. سألناهما من أين، أجابت إحداهما: من بابا عمرو من عشيرة الفواعرة، وأسكن في حمص.
رفضت التصريح باسمها. خوفا من ملاحقتها أمنيا إذا عادت إلى بلدها، واكتفت بكنيتها “أم عبدالله”، أم لأربعة “عِجيان”، أكبرهم لم يتجاوز التسع سنين.
أما كيف وصلت، فأجابت بسرعة: “دخلنا رسمي، مو هريبة، من 10 أيام”، في إشارة إلى أنها لم تدخل تسللا.
ولماذا جاءت؟ قالت: بيوتنا أحرقها الشبيحة وأهالي العسكر، لأننا استضفنا أقارب لنا من نفس العشيرة هاربين منهم، واضطررنا بدورنا للهرب.
أم صابر قريبتها، تصدت للحديث، قالت: أخرجنا الجيش الحر من حمص، وأوصلونا قرب الحدود، وأكملنا مسيرنا إلى هنا، ونحن نسكن غرفة في قرية المبروكة/ الخالدية (من نواحي المفرق) إيجارها 140 دولاراً.
واضافت: أخوالي في بابا عمرو، قتلوا جميعا، ذبحوهم على الدين، وأزواجنا التحقوا بالجيش الحر. وأما لماذا لم تسجل لاجئة لدى مفوضية اللاجئين، فأجابت: نخاف من الملاحقة إذا رجعنا.
وكيف يعاملكما السكان، أجابتا: “والله معاملتهم زينة، ما حسّينا إنا غريبين”.
وعما إذا هناك اتصال بالاهل، أجابتا بالنفي، “نتسقّط أخبارهم من القادمين ومن الأخبار”.
جلنا على بعض العائلات بصحبة الدكتور محمد الخوالدة، وهو ناشط إغاثي كان من أوائل من دخلوا قطاع غزة، عبر الأنفاق، لمعالجة جرحى الاجتياح الإسرائيلي عام 2009.
بدأ اهتمامه باللاجئين السوريين بعدما وجد أسرة في منتصف ليلة باردة ممطرة، قبل اشهر، هائمة على وجهها، فاستضافها ليلتين، ووفر لها مسكناً، ومن ثم انخرط في حملة مع أهالي المدينة.
قال لي: سترى في كل بيت قصة. ولكن ما يجمعهم هو الفقر.
ومع الخوالدة رافقنا “أبو عبدالله المعاني” وهو ناشط “جدا” في الإغاثة ويعرف جميع بيوت اللاجئين.
توقفنا أمام مبنى فيه مخازن تجارية غير مكتوب على واجهتها شيء. التفتّ إلى مرافقينا مستفسرا، قال المعاني: المخزن تشغله أسرة سورية.
دلفنا إلى المنزل (المخزن) من باب خلفي. أم غازي، سبعينية، وابنها غازي يجفل من أي صوت بعد صدمة اعتورته لكثرة ما سمع من أزيز الرصاص ودويّ القذائف.
زوجته هي الأخرى مريضة، ومعهم ثلاثة أطفال. نظرة واحدة إلى محتويات “المنزل” كانت كافية.
أسهبت العجوز في شرح أوضاعها هي وأسرة ولدها، وكيف تركوا بلدهم، وأنا سامع غير منصت، تنبهت إليها وهي تسأل عن إمكانات مساعدتهم.
ريهام الأجرب، من “بابا عمرو” وزوجها محمد الأسعد من تلبيسة، من نواحي حمص.
تقول: “قدمنا منذ شهرين أنا وزوجي الذي يعاني من “خلع ولادة” وأطفالنا، عبرنا الحدود “نظامي”، ووالدتي تسكن على مقربة مع إخوتي الصغار الأربعة. أما والدي (الخمسيني) فتركناه هناك لله. هو وأخوالي الذين لا نعلم إن كانوا أحياء أم استشهدوا، والمعلومات نستقيها من القادمين ونشرات الأخبار، والاتصالات مقطوعة”.
ريهام كانت تتحدث بحماسة، وانكسار معا، شكت من الإيجار (130 دولاراً) وليس لهم سوى أهل الخير. “أول مجيئنا بتنا عند أقارب ثم ساعدنا المركز الإسلامي في تأمين هالغريفة (تصغير غرفة) ولوازمها، وهم يطلون علينا من وقت لآخر محملين بالمعلبات
وقاطعها زوجها بالقول: إحنا السوريين “ما معوّدين على المعلبات”. تابعت ريهام: “لكن ليس هذا ما نحتاجه فقط… ينقصنا المال، وصاحب الغرفة يهددنا بالطرد إذا لم ندفع، واليوم أحضر أشخاصا قال إنهم يريدون استئجارها، وإذا لم ندفع سريعا فسيرمينا في الشارع … ساعدونا إذا بتقدروا، ما إلنا غير الله”.
خرجنا من عند ريهام نحن والصمت وسواد الليل. كسر مرافقنا السكون بقوله: تزوروا جريح؟ أجبنا بنعم خفيضة.
عبدالله الشريف (أبو حسن)، درعاوي، ثلاثيني، متزوج وله 3 أبناء، وأخوه وأفراد عائلته معتقلون منذ أشهر. وجهه، الذي طلب ألا نصوره، كان يضج بالحياة، رغم قدمه اليمنى التي نسفت شظية أربعة أصابع منها وأبقت الخامس.
سألته، وأنا أنظر إلى قدمه المبتورة، عن عمله، أجاب متبسّما: “من سنة ثورجي، وقبلها سائق سفريات بين درعا والرمثا”.
روى لنا كيف أصيب: داهم العسكر منطقة المسيفرة بدرعا، فجئنا فزعة، فضربونا بعربات المدفعية الخفيفة (بي أم بي)، سقطت قذيفة خلفنا وتطايرت شظاياها، وأصابت إحداها قدمي. تلقيت إسعافات أولية في أحد البيوت، بعدما بترت أصابعي الأربعة، واستغرقت أربعة أيام حتى استطعت الوصول إلى الشيك على الحد، أنقذتني دورية للجيش الأردني، ومن هناك إلى مستشفى الرمثا الحكومي. ومنها إلى المفرق، وأمّن أنسبائي من قبيلة بني حسن هذا المنزل لي ولعائلتي ووالديّ، والحمد لله.
سألته إن كان يستطيع الوقوف، فأجاب، وإلى جواره كيس مليء بالأدوية: عندما أقف سأعود لألتحق بالثوار. ودّعناه وأهله وأنسباءه الأردنيين الذين كانوا يعودونه..
قال مرافقنا ونحن على باب البناية: في صبية بالطابق الثاني قلعت عينها، تزوروها؟ أجابه رفيقي بنعم. قلت: اصعدوا أنتم.
أشعلت سيجارة… نفثت مع دخانها قهراً… وتمتمات.