محمد البدارين : /
،حين حل علينا العام الميلادي 2008 ،كنا مازلنا مقصري رؤوسنا او محلقين ، تقودنا حكومة جديدة لا يجود بمثلها الزمان الا نادرا ، وبرلمان منتخب لتوه بنزاهة مفرطة ، يمنح الثقة اتوماتيكيا للحكومة ،، وصحافة تبارك المرحلة بالمقالات المفعمة بالروح المهنية المستقلة ، واستطلاعات رأي تصدرها مراكز متخصصة تؤكد اللامؤكد ، واغان حماسية فارغة من الكلمات والالحان ، وصور واعلام كبيرة الحجم ، وشماغات على شكل شراشف ، ومجلس وزراء موقر يتخذ القرارات بعد ان يقتلها بحثا ودرسا ، وكل غير القادرين على تحمل المسؤولية اقصيناهم جميعا من الخدمة افواجا افواجا ، واسندنا المراكز المهمة لاصحاب الكفاءات الاستثنائية من الشباب المتفتحين ذوي الملامح الرائجة في السوق ، القادرين على تحريك جميع اعضاء الجسم بمرونة ، والجاهزين للابتسام وعدم الابتسام كالريبوتات ، في ظل اجواء تسودها روح المودة والشراكة!!
اغان تبرق وترعد ، وسماء لا تمطر ، والامور تختلط بالامور ، والاستثمار كلمة السر المقدسة ، يشرحونها كل ساعة كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء ، والناس تؤيد خلال الدوام وفي الليل تتحول عمان الى مدينة للنقيق ، كسائر شقيقاتها في الشرق الاوسط وشمال افريقيا ، المنشغلات بالهمس الليلي حول اسرار مكتوبة بخط واضح على لوحات الاعلان الكبيرة.
لكن النقيق الاردني ما لبث ان ملأ البلاد بشائعات عملاقة ، تركزت خصوصا حول عزم الحكومة بيع ممتلكات عامة ذات طابع رمزي، الأمر الذي اضطر معه جلالة الملك للتدخل والحديث إلى الناس عبر وكالة الانباء الرسمية ، غير ان الحركة الداخلية ظلت عرضة للانسدادات وتحديدا في المستويات العليا من السلطة ، السلطة التي باتت كلها في قبضة شخصين فقط هما محمد الذهبي مدير المخابرات العامة الاسبق ، وباسم عوض الله رئيس الديوان الملكي الاسبق ، اللذان تنافرا بعد ائتلاف تكتيكي ، وباتا يشكلان فعليا مراكز قوى واستقطاب بشكل لم تألفه الحياة السياسية الاردنية منذ عام 1970.
وبينما كان هذان القطبان البارزان يتبارزان بصورة سرّية وعلنيّة على توسيع مساحات نفوذهما الشخصي واستقطاب المريدين والاتباع ، كانت كمية الغبار المنبعثة من خلفهما تسد الافق ، والجدل حولهما يشتد ويتسع حتى يطال بالتفصيل السيرة الشخصية لكل منهما مدحا او قدحا ، ويتركز الجدل خصوصا حول مشروعية ومبررات وصولهما السريع إلى أعلى درجات الحكم ، والثمن الذي دفعه الضحايا على الطريق السريع ، ومن بين تبريرات وتفسيرات كثيرة ، تحدث بعض العارفين عن أمور تتصل بالعبقرية الفردية لكلا الرجلين ،!!
وحين يبدأ الخريف ، خريف العولمة ، او خريف العام 2008 ،، كان واضحا أن الحالة في الاردن ،لم تعد تحتمل وجود هذين الشخصين في مركزيهما العاليين ، وأن شيئا ما يجب أن يحدث حفظا للاستقرار العام ، فالصراع بين القطبين بلغ أقصى مدى له ، وبات يلحق ضررا عاما لا يمكن تجاهله ، وهنا وعند هذه النقطة بالتحديد ، جرى عزل باسم عوض الله من منصبه ، واستبدل بشخصية معتدلة ، وقبل ان تكتمل فرحة محمد الذهبي بنصره المتوهم ، بوغت بقرار عزله واستبدل هو الاخر بشخصية مختلفة ، وتعطينا حالة العزل وما قبلها وما بعدها ، درسا بليغا يؤكد أهمية الخصائص الشخصية لمن يتولّى المناصب العليا ، التي يجب ان تتقدم على كل ما سواها من شروط مهما كانت مهمة ، ذلك أن الطابع الشخصي لأزمة (الذهبي عوض الله ) كان طاغيا جدا بشكل لم يكن ممكنا تفسير أزمتهما إلا على أساسه ، فالمكونات الشعبية الاردنية، الواسعة ، خارج اطار النخب المزعومة والمختلقة ،، لا علاقة لها بتاتا بهذا الصراع رغم المحاولات المكثفة ،لتوريطها به بقصد اضفاء طابع عام على صراع شخصي بين شريكين في السلطة ، لم يكتف احدهما او كلاهما بالنصف الذي بين يديه فسولت له نفسه محاولة انتزاع النصف الاخرالذي بيد شريكه ، فالسلطة في بلاد العرب ليست مسؤولية بل غنيمة كما يؤكد الجابري.
،
وهكذا وقبل اليوم الاخير من عام 2008 ، نامت عمان لأول مرة منذ سنوات، بدون قلق او جدل ، وتنفس الصبح والصحافة ،والمارة ، ومع عزل محمد الذهبي المباغت ، بدت الحكومة في عمان التي يترأسها شقيقه نادر ، غير قادرة على الحركة ، وأسبوعا بعد أسبوع، صار ممكنا ملاحظة أنها لم تعد تحظى بالثقة الملكية ، وفي خطابه بمناسبة الذكرى العاشرة للجلوس على العرش2009 ، يؤكد جلالة الملك على الحاجة لمراجعة شاملة للاوضاع ، وهي المراجعة التي لو اكتملت لكنا قد انتهينا من عملية الاصلاح قبل الربيع العربي بزمن كاف.
وكخطوة مهمة على طريق المراجعة المطلوبة ، وبينما أقطاب البرلمان كانوا منشغلين بمن ينتخبون رئيسا لهم في دورتهم الجديدة التي توشك ان تبدأ اواخر العام 2009 ، وفي لحظة مباركة من ،الله، و الشعب ، يعلن الملك فرط البرلمان ، وبفرطه شهدنا نهاية الجزء الاخير من المرحلة الذهبية المضطربة.
وحين باشر سميرالرفاعي تشكيل حكومته على مهله ، ،ساد نوع من، الامل انه سيكون قادرا على تنفيذ عملية المراجعة المرغوبة ، لكن خصائص الرفاعي نفسه ، لم تكن خصائص رجل المرحلة المطلوب ، فهذا الرئيس الجديد ، كان قد خرج من منصبه الرفيع في الديوان الملكي قبل سنوات قليلة جدا ، ليتولى ادارة شركة كبرى ،واحد البنوك الاردنية الكبيرة الذي كانت قد تحولت ملكيته من القطاع العام الى القطاع الخاص ، ضمن برنامج الخوصصة الأردني الذي يصيب ملكية المؤسسات أكثر بكثير مما يصيب عملياتها وخدماتها.
كان على الرفاعي ان يحقق هدفا صعبا ، وهو استعادة الثقة العامة بالحكم ، لكنه لم يستطع تحديد هدفه ولا تحقيقه ، ،فالانتخابات البرلمانية التي اجراها كانت ناقصة ومشوبة بعيوب كثيرة ، والبرلمان الناتج عنها اضر به من حيث اراد التودد له ، عندما منحه الثقة بالاجماع بشكل عكس صورة سلبية للبرلمان والحكومة ، وستظل كلمات احد النواب عالقة في الذهن وهو يعلق على منحه الثقة لحكومة الرفاعي بقوله (الموت مع الجماعة رحمة ) وبالفعل ماتت حكومة الرفاعي ولكن بلا رحمة للاسف ، وللاسف ايضا ضاع وقت المراجعة الهادئة ، فدخلنا في مرحلة المراجعة المستعجلة. ،
وبقصد دعم ما ذهبنا اليه في هذا المقال بدليل اخر ، لا بأي قصد اخر ، نستعيد كلمات نائب بارز ، في جلسة الثقة بحكومة الذهبي نهاية عام 2007 عندما يقول:
(آن الاوان لان تبادر الحكومة لطرح تصوراتها علانية حول قوانين الانتخاب والاحزاب والنقابات والاجتماعات العامة ، وان يكون النقاش من قبل كل القوى والفعاليات والمختصين والخبراء لنضع حدا لهذه الدوامة ونبرز الوجه العصري للوطن بالتعاون لابالتراشق وبالمصداقية لا بالتكاذب وبالتشارك لا بالتعارك … وامام دولة الرئيس وحكومته تحدي تجديد شباب الادارة الحكومية فقد مضى التفاخر بابداعات الادارة الاردنية وانضباطيتها ولنكن صرحاء ، لقد تلاعب بتلك الادارة اما جاهل او صاحب هوى او متعمد التخريب بدعوى التطوير حتى غدت الادارة العامة عاجزة عن تنفيذ سياسات السلطة التنفيذية وبرامجها وبدأت عملية اللجوء لاصلاح الخطأ بخطأ اكبر ، فكلما عجزت دائرة عن العمل انشأنا دائرة اخرى فتفككت الادارة وزاد الانفاق ونشأت امبراطوريات عصية على المساءلة ، واصبحت الادارة تعيش جوا مريضا من الشللية والتواكل والاستزلام لمراكز قوى عديدة ، وعانى الموظفون الاحباط من تدني الرواتب والترفيعات العشوائية وقفز القيادات بالزانة فقل الانجاز ودفع المواطن الثمن واسترجلت على الادارة قوى هلامية…وتواجه الحكومة ازمة المؤسسة التربوية فقد كثرت الوعود بالتطوير وتوسمنا الخير بالمفاهيم الجديدة ، غير ان الصباح انبلج عن انجازات مظهرية نظرية تقتصر على التقارير المنمقة … تغاضينا عن العنصر الاساسي في التربية وهو المعلم الواقف فكرمنا كل المهن الا مهنته ، مكتفين بالتغزل بشمعته ودوره… وتواجه الحكومة ازمة المؤسسة الصحية الرسمية فقد انهار هيكلها وتراجع دورها وضعفت انضباطيتها رغم ابداعات العاملين في المهن الصحية ، ضعفت الرقابة الصحية وتردت امورها فاستهان العاملون في مجالات الغذاء والدواء والكيماويات والمبيدات وغيرها فتعددت حالات التسمم المعلنة ويعلم الله والراسخون في العلم حالات التسمم البطيء طويل المدى… وامام دولة الرئيس تحد لا يهتم احد بالتصريح به هو تصنيف رجال الدولة الى محافظين وليبراليين وديجيتاليين ، فيحلو للبعض تسمية المحافظين بالحرس القديم ينظر البعض الى ان دورهم قد انتهى ويأملون في داخليتهم ان يعاملوا كخيول الانجليز ، ينكرون ان هذا الانجاز الوطني تراكمي وان رجال الوطن قد انجزوا في ظروف ضنكة وانهم كانوا مشاريع شهداء مع وقف التنفيذ ، يتم كل ذلك بدعوى التجديد والتطوير ولكنه الانقضاض على كل انجازات الوطن لا يظنن احد انني ادافع عن فريق يخرصون انني منه ولكنني ادافع عن تاريخ هذا الوطن وقيمه ودوره في مواجهة انقلابيين دون عسكر ، ليبراليين نريدهم في السياسة لا في جني المال … ديجيتاليين يبدعون بالتقنية او التقانة والوصول الى احداث المعلومات يعجبون بكل جديد ولو انقلب على قيمنا وتقاليدنا وموروثنا الحضاري ومؤسساتنا الدستورية ، فككوا اجهزة الدولة حتى غدت كلعبة الليغو يدعون لادارة الدولة كشركة ، الاهتمام فيها للمسؤولين عن ادارتها قبل مساهميها والعناية هي بالجدوى الاقتصادية والدولة تهمها الجدوى الاجتماعية فهي ضامن الوفاق والولاء...لقد بلغ السيل الزبى ،، من قيادات تقاد ولا تقود مزجت الادارة بالتجارة وطوعت التشريع والادارة للمصالح الخاصة ، واستشرى فسادها ثم فازت بما غنمت من مال السحت وتوسدت عن طريق ذلك المال مواقع اجتماعية متقدمة…يخطئ البعض حين يظن ان هذا التقسيم يفسح المجال للقيادات الجديدة الواعدة وما درى انه دعوة تقود الى تشكيل شلة متناغمة حرمت الشباب الاكفياء لحساب اشخاص كان الحبل بهم خارج الرحم او جاءوا نتيجة الاخصاب الصناعي. ..والتحدي الاكبر هو اوضاع الناس …الاوضاع العامة ليست مريحة والتململ بين ومنذر ، المداخيل تدنت والرواتب تضاءلت واستغلال الفرص واضح ، ،الغلاء فاحش دون حسيب او رقيب ودون تبرير منطقي سوى دعوى الحرية الاقتصادية ،الاحتكار تنمرد ومقاومته لفظية او موسمية وله حماة ومستفيدون ، ،الازمات متتالية تأخذ بتلابيب بعضها،انفجارية تتجلى بالاعتداء على المعلمين والاطباء والممرضات والمسؤولين ،، استقواء بعض القوى على السلطة ،العنف الجامعي ،الايذاء والغش برعونة، ،استعمال السلاح واطلاق النار تحديا ، كوارث مرورية تعزى اسبابها لغير الحقيقة ،على ماذا يدل ذلك من يتحمل مسؤولية ذلك؟على كاهل من يقع عبء وضع حد لذلك، كيف ومتى ينتهي ذلك ؟ )،،