محمد البدارين /
في عام 2008 كان على العالم ان يتغير ، بفعل حركة الواقع ، الواقع ، الذي كانت قد انتصرت الدعوة للايمان به كأنه دين جديد ، لكن هذا الواقع بطبيعته ، لا يتحرك حسب رغبات المؤمنين به والاتباع ، بل يتحرك وفق معادلات القوى الدافعة والكابحة المتصارعة في جوفه ، بصورة قد يصعب احيانا على سلطة الوضع الراهن التحكم بها ، حتى لو كانت هذه السلطة قوية وحكيمة .وبتسارع حركة الواقع نفسه اخذت نشوة النصر من العولمة عقلها ، حتى تجاوز منسوب الاموال الوهمية في وول ستريت وكثير من الاسواق المالية في العالم اقصى حد يمكن ان يتحمله الاقتصاد العالمي الحقيقي ، فانفجرت الازمة المالية العالمية على هذا المدى الواسع من الاهتزازات الكبرى ، وتبين مما تبين ان الاف المليارات المتداولة في الاسواق لم تكن لها اية علاقة بالنشاطات الاقتصادية الفعلية.
نشوة النصر ، هي التي دفعت الرأسمالية للانفلات من كل الضوابط ، فنفذ الليبراليون المتحمسون فلسفتهم القديمة الجديدة ، القائمة على فكرة تحريرالاسواق تماما بدعوى ان اليد الخفية في السوق قادرة على تحقيق التوازن ، اي ان السوق تصحح نفسها بنفسها ، ومثل هذه النظرية يمكن ان تنجح لو كان الناس ملائكة ، ولكن الناس ليسوا ملائكة !
وحين استولى المحافظون الجدد على السلطة في واشنطن جرى الخلط الواسع بين اعمال الشركات والمناصب الحكومية ، فبوش الابن كان شريكا في شركة (Harken Energy Corporation)ونائبه ديك تشيني كان رئيسا لمجلس إدارة شركة Halliburton)) أما كونداليزا رايس فهي قادمة من شركة Chevron)) وباشرت هذه الادارة المخلوطة ، بسن كل القوانين المطلوبة لتحريرالاسواق نهائيا ، وتحيزت لصالح طبقة الاعمال والاغنياء، وتسترت على الشركات المنهارة، وعمت المضاربات سوق النفط ، وتفشت رأسمالية الحبايب والمحاسيب (Crony Capitalism) وانتشرت ظاهرة الاموال الساخنةHot Money)) وهي اموال تكر وتفرعلى طريقة العصابات ، وتزايدت حجومات الاموال غير الشرعية المتدفقة على الاسواق عبر عمليات الغسيل ، وجرى تجاوز قواعد الرأسمالية نفسها التي تستلزم حماية المنافسة ومنع الاحتكار والفصل بين السلطة الرسمية وبين ادارة الاعمال التجارية .
فأدى هذا الانفلات الى انهيارات في شركات امريكية عملاقة بداية من شركة(Enron) ثم سلسلة فضائح البورصة الى شركة WorldCom )) ، حيث خلفت هذه الشركات المنهارة خسائر نهائية لا تحتمل، كما انهارت أكبر شركتي رهن عقاري (Fannie Mae، Freddie Mac) واللتان كانت تضمنان قروضا عقارية قيمتها نحو 5.2 تريليون دولار، ثم انهار بنك Lehman Brothers)) بعد 158 عاما متواصلة من العمل المصرفي ، واختل التوازن بين طبقات المجتمع وتو زيع الثروة على مستوى العالم كله ونحن في الاردن منه ، وانسحب هذا الاختلال على كل شروط الحياة وحقوقها ونشاطاتها ومظاهرها وعلاقاتها ، ومما جاء في احد المصادر كدليل صارخ على الاختلال العالمي ان أغنى 1125 شخصا في العالم ، باتوا يملكون ثروة تعادل دخول جميع الأفراد في كل من الهند، باكستان، بنغلاديش، تايلند، ماليزيا، فيتنام، الفلبين، وكل قارة افريقيا!
لا شيء حدث ، سوى ان العولمة نسيت ادبياتها العلنية ، فتحولت بسرعة الى حركة متطرفة ، فالتطرف ليس حالة دينية فقط ، وهو لا يقود الا الى العمى والغطرسة ، وهكذا اصيبت العولمة بنفس الامراض التي كانت تدعو غيرها للتخلص منها ، ولولا الغطرسة ما كان يمكن ان يستعلي رامسفيلد على اوروبا و يعيرها بأنها اوروبا القديمة ، وبسبب الغطرسة بدأت امريكا اخيرا تخسرمركزها كقائد اوحد للعالم ، حتى واجهت الفيتو الروسي الصيني المزدوج ، عدا عن خطر تزايد قوة الهند والبرازيل وبروز تكتلات جديدة خارج السيطرة.
وفي توقيت غير مناسب لواشنطن ، جاء الربيع العربي ليهز الوضع في منطقة هي الاكثر حساسية بالنسبة للسياسة الامريكية، فوجدت امريكا نفسها امام اعتبارات كثيرة متعارضة ومتناقضة ، فهي تريد التغيير لكنها تخاف منه ، وتريد الاصدقاء ولكنها تريد الديمقراطية ، وتريد الديمقراطية ولكن حسب فهمها للديمقراطية ، وتريد مصالحها لكنها لا تريد ان تبدو متناقضة بين الالتزام بالمبادىء والحفاظ على المصالح ، فيما اسرائيل وهي الاهم تضغط بصورة معاكسة في كثير من الاحيان ، والخليج كمصلحة له ظروفه ، وبهذا الشكل تصبح ادارة ملف الربيع العربي معقدة جدا هنا وهناك ، ولهذا السبب شهد الموقف الامريكي تراجعات وتفاوتات وتعديلات من تونس هبوطا.
نحن في الاردن كنا قد استهلكنا العولمة على السريع ، على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي ، حتى اصبح من علامات نبوغ الاردني ان يتظاهر بفهم العولمة واستعمال شيء من مفرداتها ، ويكون المتحدث الاردني اكثر اهمية ان هو أتى على ذكر بعض المفاهيم باللغة الانجليزية وتحير بتفهيمها للمستمعين وطلب المساعدة في التعريب ، حتى باتت كلمة الشفافية مثلا تستعمل يوميا في الاردن اكثر من كلمة مرحبا ، الى ان ظن الجميع ان الانسلاخ عن الذات ممكن ومربح وبلا تكاليف.
بالتأكيد نحن جزء من المنطقة وجزء من العالم خاصة بالمعنى السياسي والاقتصادي لكننا مضينا الى ما هو ابعد من هذا الفهم ، وكنا دائما نتأثربحساسية بالغة بما يجري وننفعل استجابة للحظة الراهنة وننسى انها راهنة ، ولهذا السبب كنا نلاحظ انعكاسات كل التأثيرات السلبية علينا بشكل مباشر او غير مباشر ، وهو ما فرض دائما على الادارة الاردنية ان تكون في حالة الحركة والتعرض.
لقد تورطنا الى اقصى حد بالاجواء العالمية السائدة منذ حرب الكويت وحصلنا على بعض المكاسب لكننا بالمقابل تكبدنا مزيدا من الخسائر ، وضمن تعقيدات العالم المعاصر فانه لم يعد من السهل فصل العوامل المتشابكة عن بعضها بعضا ، فلا امكانية لفصل ماهو سياسي عما هو اقتصادي ولا عما هواجتماعي ، وكذلك تتداخل العوامل والمؤثرات الداخلية مع الخارجية بشكل يصبح معه التهوين من تعقيدات الازمة الاردنية الحالية وجذورها نوعا من التعاطي الارتجالي مع الاوضاع او نوعا من التفكير الرغائبي المنحاز لموقف جزئي او موقف مسبق ، من هنا تبرز اهمية تقليب البدائل والاختيارات ، وهو ما يفرض على الجهات ذات العلاقة عبئا وطنيا كبيرا او خطيرا ، فالقرارات الصحيحة هي التي يجب ان تتخذ ، وهذه القرارات الصحيحة لا تنتج الا عن عمل علمي منهجي صحيح.
ولا نتفق مع المثل الاردني الدارج بان من يعمل يخطىء والذي لا يخطىء هو الذي لا يعمل ، فهذا المثل هو نتاج ثقافة التبرير التي سادت عندنا وعند اخواننا عبر الزمن ، وفتحت الابواب الواسعة للتهرب من المسؤولية ومن العقوبة ومن الضريبة ومن اداء الواجب وسمحت للهاربين والمهربين والمتهربين ومن يشبههم ان يتكاثروا في مجتمعنا غير الرسمي بشكل اخطر من المجتمع الرسمي ، حتى باتت الدعوة للتحرير الثقافي هي الاولوية الاولى لو كان هناك من يريد ان نكون شعبا حقيقيا بين الشعوب او امة لها مكان لائق بين الامم .
وبحسب المعطيات العلمية فانه حتى لو كان كل الافراد صالحين فان المجتمع لا يكون صالحا حتما، فالمجتمع ايضا نظام ، وهو نظام ثقافي بالدرجة الاولى ،فلا صلاح للفرد او كل الافراد الا بصلاح الثقافة السائدة في المجتمع لانها هي التي تضع المعايير والقياسات ، واذا كنا نسخر احيانا من الكلام عن الغزو الثقافي ، فان التجارب تثبت ان الهزيمة الثقافية هي اسوأ هزيمة يمكن ان تصيب شعب ما ، فحين احتار الباحثون في تفسير نهوض اليابان بسرعة بعد الحرب العالمية الثانية ، تبين ان السبب يكمن في ثقافة الشعب الياباني التي لم تنهزم كالجيش ولم تستسلم.
فسؤال الثقافة لا ينفصل عن كل الاسئلة المهمة والمهملة في الاردن ، فقد كنا نتابع الضجيج المحلي للشرق اوسطية والعولمة عبر حملات سياسية واعلامية واجتماعية تستهدف تفريغنا ، وبدا ان الجميع يعلنون استسلامهم ، ويتبارزون بتنقيص انفسهم في مشاهد تتكرر يوميا بما يشبه الاحتفال العام ،و لم يكن هذا السلوك في حقيقته الا تعبيرا عن الاحساس الجماعي بالهزيمة العامة والانكفاء العام ، فكان ان تزعزعت الثقة العامة بين الناس وبين مؤسساتهم واجهزتهم ،وبين الناس انفسهم، وانتشر الشك في كل مكان، وتعمم الفكر الاناني الانهزامي الوصولي الانتهازي الارتزاقي، واخذ يتغلغل في كل مساحات الحياة الخاصة والعامة،على مستوى الافراد والمجموعات والمجتمع والدولة ككل، وبسرعة غير مفهومة تنكر الناس لانفسهم بالجملة،حتى تفرغت ثقافة شعب باكمله من كل محتوياتها القيمية الصلبة، واستبدلت كل الاشياء الاصلية في حياتنا، بالاشياء القابلة للانحناء والتمييع ،فماعت الحياة العامة ، وتناقص بشكل غير تدريجي منسوب الجمال الوطني العام والهيبة الوطنية العامة، حتى دخلنا في نفق الصراع على السلطة داخل السلطة نفسها ، لاول مرة في تاريخنا ، فبدأ الربيع الاردني همسا عام 2008 يتبع
.