باستثناء الشعبين التوأم الأردني والفلسطيني تكاد الشعوب العربية لا تعرف شيئاً عن معركة الكرامة الخالدة. وهذا يعود غالباً إلى العقلية المسيطرة على مؤرخي الديكتاتوريات المأجورين، والتي تقضي بأن الانتصار الذي لم يصنعه القائد الملهم أو الضرورة أو الرمز ليس انتصاراً، بل إن هزائم الملهم والضرورة والرمز تدرس في كثير من الحالات لطلاب المدارس بوصفها فتوحات غير مسبوقة.
هل سمع رجل الشارع الخليجي أو السوري أو المصري أو العراقي أو اليماني أو المغاربي بمعركة الكرامة؟… هل أتاه نبؤ ثلة من الشباب المؤمن تصدوا يوم 21 آذار 1968 بأسلحة بدائية لجيش الصهيونية وردوه صاغراً ذليلاً؟… هل وصلت إلى مسامعه أصوات هدير مدفعية نشامى الجيش الأردني وهي تصب حمم الموت على دبابات المعتدين على وقع أجراس الكنائس وصدى تكبير المآذن؟… هل شاهد قلبه مشهور حديثة الجازي وممدوح صبري صيدم ينسقان خطة الدفاع ويتعاهدان على القتال حتى نيل إحدى الحسنيين؟… هل بلغه رفض كاسب صفوق رجاء جنوده بأن يبتعد عن خط النار وإصراره أن يروي سمعه اصطكاك الحديد بالحديد؟… هل أغمض عينيه وتخيل ياسر عرفات وصلاح خلف يشهرون بنادقهم على بعد خطوات من دبابات المعتدين ويهتفون برجالهم: الصمود… الصمود؟… هل يعرف مدينة بدوية اسمها معان يصعد شبابها فوق الدبابة ليهدوا طاقمها قنبلة تفتت أحشاءهم؟… هل هزت وجدانه تكبيرات الشهيد “الفسفوري” وهو ينقض محولاً عمره لغماً تحت جنزير الدبابة ويخلد اسمه كأول من ارتدى حزام النسف تحت راية عاصفة “الفتح”؟… هل يستطيع إدراك حجم الروح التي تسكن جسد شاب تخلى عن جامعته في أوروبا وجاء إلى قيظ الأغوار فدائياً؟… هل تخيل منظر آليات الجيش الذي فرت أمامه جيوش العرب قبل تسعة أشهر وهي تعرض للجمهور ركاماً يلتقطون معه صور النصر التذكارية في عمان؟… هل تدرس لطلاب الكليات العسكرية العربية تجربة جيش عربي في مرحلة البناء وبلا سلاح طيران يجبر جيشاً وصفته صحافة الغرب بالذي لا يقهر على تولية الأدبار وترك جثث قتلاه عشاءً للضباع؟… هل يفهم الذين يكدسون الأسلحة حتى يأكلها الصدأ كيف يصبح الـ( آر بي جي 7 ) على كتف المؤمن سلاحاً يرد الجحافل ويحمي الثورات والأوطان؟.
كان هذا يوم كان العربي أخاً للعربي ويوم كان مكان القيادات في الخنادق الأمامية لا في الملاجئ المخفية، ويوم كانت المقاومة ممارسة وفداءً على الأرض لا بياناً يصاغ بالغرف المكيفة للتعميم على وسائل الإعلام.
ومعركة الكرامة – للأسف – ليست الوحيدة التي لا تعرفها الشعوب العربية، فالحال ينسحب على شقيقتها “التوافيق” وشقيقات أخريات في مصر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين. لكن الكرامة تتعرض لظلم ثلاثي، فبالإضافة إلى الظلم المتمثل بالتعتيم الإعلامي عليها وعدم إطلاع الشعوب العربية على السير العطرة والتضحيات الجليلة لشهدائها وصانعيها من أبطال الجيش الأردني وحركة التحرير الوطني الفلسطيني وجيش التحرير والفصائل الفلسطينية، يتعرض انتصار الكرامة لمحاولات احتكار من العنصريين المأجورين المنتنين، ومن جانب ثالث تتعرض الكرامة إلى ظلم شديد عندما يردد عن جهل أو عن إغراض إن أول انتصار عربي على جيش الصهاينة كان عام 2006 في جنوب لبنان، أو 2008 في غزة المخذولة، وإن أول انسحاب مذل لجيش الجبناء ذاك كان من جنوب لبنان عام 2000، وإن الأحزمة الناسفة والتفجيرات الاستشهادية ابتدعت أواسط التسعينات.
أربعة وأربعون عاماً مضت على ملحمة المهاجرين والأنصار الحديثة وما يزال الحديث عنها ندياً لا يمل. وتبقى القيمة الأساسية للكرامة، أنها أعادت الاعتبار للفارس العربي الذي ظلمته قياداته في حربي 1948 و 1967، ودفنت في تراب الأغوار على ضفاف نهر الأردن نظرية الجيش الذي لا يقهر، ومحت هذه الصفة إلى الأبد عن جيش الاحتلال. وأنها جددت رابط وحدة الدم بين الشعبين التوأم وجعلته أبدياً مقدساً عصياً على الانفكاك، وحشدت الجماهير خلف خيار الحرب الشعبية، وأرسلت الشباب العربي والفلسطيني جماعات ووحدانا إلى قواعد الثورة، وجعلت الناس يلمسون بأيديهم ويشاهدون بأعينهم ما يتلونه في القرآن الكريم: “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم لا يفقهون” صدق الله العظيم.