بقلم محمد، البدارين 1 -4، : /
اضطربت الامور في الاردن منذ اواخرعام 1988 ، تحت ضغط مجموعة عوامل داخلية وخارجية فظيعة ، تجمعت في ظرف زمني قصير ، ففي الداخل انهار الدينار الاردني لاول مرة في تاريخه بصورة مفاجئة وصادمة ، فخضعت البلاد لبرنامج التصحيح الدولي المؤلم ، واندلعت احداث نيسان التي ادت لانفتاح ديمقراطي نتج عنه برلمان قوي ارعب مجموعات النفوذ، ودفع الدولة لاعادة التحكم بالعملية السياسية بصورة كانت الاحكام العرفية الملغاة احسن منها ، وفي الخارج انهار الاتحاد السوفييتي فاختل التوازن الدولي ، ونشبت حرب الكويت كأول حرب حديثة متلفزة استخدمت فيها اسلحة مدمرة كانت معدة للاستعمال في حرب النجوم ضد عدو مكافىء في القوة ، وقد تورط الاردن في هذه الحرب او تأثر بويلاتها بشكل مباشر ، وكنتيجة فورية للهزيمة او النصر ، سيق العرب جميعا الى مؤتمر مدريد ، الذي نتج عنه اتفاق اوسلو ومعاهدة وادي عربة عام1994.،،،،،، ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،هذه الاحداث الكبرى في الداخل والخارج التي تلاحقت كضربات سريعة وقاسية على الاردن شعبا ودولة ،، كانت محملة بقدر كبير من الالام وخيبات الامل بشكل زعزع الثقافة الوطنية للمجتمع وجعلها قابلة للاستباحة تماما ، مسافة زمنية قصيرة هزت العالم والمنطقة ، عاش خلالها الاردن اهوالافوق طاقته ، فانهيار الدينار الاردني لم يكن اقل قسوة من هزيمة حزيران ، ومنظر العرب في مدريد لم يكن اقل ايلاما من المسارات السرية في اوسلو ، وخيمة وادي عربة لم تكن بعيدة جدا عن خيمة صفوان او الخيمة 101 ، وطرد اكبر جالية اردنية في الخارج لم يكن الا هجرة فلسطينية اجبارية ثالثة الى الاردن .
ومن خيمة وادي عربه ، يتوجه الرئيس الامريكي كلينتون الى البرلمان الاردني الملطف بالصوت الواحد ، ويدعونا في خطابه ان نعيش او نتعايش بكل فروقاتنا وشروخاتنا ، ويحثنا على الاندماج وبناء مجتمع الاصول المتعددة ، وللتشجيع يشبّهنا بالمجتمع الامريكي الذي بني على اساس الاعراق المختلفة ، ونحن كنا قبل ذلك قد باشرنا باستخدام مفهوم شتى المنابت والاصول وهو المصطلح المنحوت خصيصا للحالة الاردنية ، فليس عندنا في الحقيقة لا اعراق ولا اديان متعددة .
وبينما كان كل شيء يضغط باتجاه ما ، استعجل شيمون بيريس شرب الارجيلة في الشميساني عام 1995، بيريس بطل اوسلو ، الذي كان قد انتهى من نشر كتابه الشرق الاوسط الجديد وباشر بالتطبيق ، كتابه الذي يعد فيه بتحويل الشرق الاوسط الاسمر الى اخضر ، عبر عمليات مركزة لقهر الصحراء ، لكنه يؤكد ان اية حكومة في اسرائيل لن يكون بوسعها الموافقة على عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم لان ذلك يعني تدمير الكيان القومي لاسرائيل ، وفيما يعرب عن تعاطفه مع معاناة كل اللاجئين بما فيهم لاجئي الكوارث الطبيعية ، فانه يدعو لتحسين الظروف المعيشية للاجئين الفلسطنيين واستمرار التفاوض للتوصل الى تسوية دائمة.
كانت حرب الكويت كافية لاصابة الناس بالهلع وما هو اخطر من الهلع ، مثلما كانت فرصة مثيرة ، لمجموعات عربية مستلبة ومضبوعة سلفا لكنها متنفذة في الاوساط السياسية والثقافية والاعلامية ، للاعلان عن فرحها بما بدا كأنه نهاية الاشياء ، وسمح لها بالتعبير عن فرحها عمليا وعلنيا عبر الانخراط بكل الادوار والبرامج التفريغية بثمن حينا وبدون ثمن احيانا ، متلذذة بدور التابع للمركز الاجنبي بتكليف حينا ومن غير تكليف في اكثر الاحيان ، فانقض كل من يريد الانقضاض على المنطقة او على الفريسة التي كان مطلوبا منها ان تصدق انها شريك حقيقي يعطى اسما او لقبا جديدا للتفخيم والترقية.
لم يكن كتاب بيريز الصادر (فجأة) بعد موعد اوسلو الا شرحا توضيحيا لمشروع اسرائيلي معد بعناية مسبقا ، تقوم فكرته الاساسية على الغاء الصراع التاريخي الطويل الامد والمعقد بين العرب واسرائيل بدلا من حله ، مقابل وعود بمشروعات اقتصادية اقليمية كبرى تحقق الازدهار في المنطقة ، ازدهار مذهل بوعوده التي تنسي الناس اسماءهم ، وتنسيهم كل صراعاتهم الايدلوجية والسياسية والدينية ، ليس عبر حل الصراع ولكن عبر حل الناس انفسهم ، وتحويلهم الى مجرد كائنات بيولوجية غرائزية تعيش في منطقة واسعة مفتوحة ومنفتحة يتم دمجها في ما يشبه (مول) تتجمع فيه اشتات بشر يأكلون ويشربون ويلتهون ويدورون حول بعضهم ويعيشون ، ولكن كل حسب قوته او حسب شهوته لا حسب حقه ولا حسب حاجته ولا حسب اولويته ، ولا يهم احدا منهم ان يعرف من هو ، او من هو صاحب المول او كيف تدور الامور في هذا المول المحروس بنظام دقيق للتحكم والسيطرة المرئية وغير المرئية ، ففي المول تنخطف الابصار وتنخلب الالباب وتضيع الهويات والخصوصيات ويضيع الصغار ، وذلك بفعل قوة الابهار ولعبة الالوان والاغراء والمساحات المتحركة في مكان مفتوح ومتعدد ومتنوع ، كأنه غير مغلق وهو مغلق.
هل كان كتاب بيريز مذكرات سياسي اسرائيلي واحد ، ام هو مشروع استراتيجي اسرائيلي حان موعد الاعلان عنه ، وهل هو فكرة بيريز ام اختير بيريز لوضع اسمه على الكتاب مع شيء من لمساته الشخصية باعتباره شخصية معتدلة ذات محتوى نووي بمظهر لطيف ، وهل المشروع من انتاج معاهد راند وواشنطن وهرتزليا ، ام هو مجرد خواطر وافكار شخصية لرجل حكيم ، طبعا كل السنوات اللاحقة كانت تحمل كثيرا من الاجوبة ، فبعد التأكد من اعادة تدمير قوة العراق عام 2003، بدا ان المشروع قد تحقق وان المهمة قد انجزت ، فها نحن في الشرق الاوسط الجديد بقيادة كونداليزا رايس التي تطمئن الجميع بأن اية اضطرابات قد تحدث ماهي الا مجرد اعراض متوقعة تسمى الفوضى الخلاقة او غير الضارة.
عشرون سنة بالضبط ، شهدنا خلالها احداثا متلاحقة كانت اسرع من الزمن واكبر من العد والتسجيل ، لكنها كانت مملؤة بالاشياء البسيطة التي تبقى ، فالملك الحسين الذي عاش ومات كملك اسطوري من ملوك الشرق القديم ،، تألم من طرد شعبه من الكويت ، فدعته طفلة عائدة وهو يستقبل احدى الطائرات ان يشرب من علبة ببيسي في يدها فشرب ، وروى الحكاية على الطريقة الحديثة في الادب الروائي التي تترك المجال مفتوحا لتخيل الاحداث بشكل لا نهائي .
موعد سري في اوسلو عام 1993 ، وخيمة في وادي عربة عام 1994 ، والسيادة في القدس لله ، والملك ،صاحب المظلة المطعون في اوسلو يرفض الكونفدرالية المقررة في الكتاب او في المشروع ، و ابوعمار يقول انها جاهزة في جيبه فيطلب منه الملك ان يبقيها في جيبه بكل المعنى الذي يقصده ملك ، فأوسلو كانت سرا على الملك لكنها لم تكن سرا على المركز ولا على حسني مبارك رئيس مصر ، المخلوع لاحقا ، بعد ان شهد لحظة الحصار الاخير لابوعمار في المقاطعة.
بعد اوسلو ، استعجل الملك الحسين توقيع معاهدة وادي عربة ،ورمى المظلة في سلة التاريخ ، ولم تسمح له لياقته الملكية ان يقول في سلة المهملات ، وابدى حماسته للسلام وبذل كل جهوده ، لكنه في ردوده على معارضي المعاهدة بدا غاضبا الى حد كان قابلا للتفسير ، وحين يطلق جندي اردني رصاصاته على مراهقات اسرائيليات في الباقورة ، يتألم الملك ويشتد غضبه بصورة كانت ايضا قابلة للتحليل والاستذكار ، فقد كان جندي اردني اخر اثناء نصب خيمة وادي عربة قد رد على جندي اسرائيلي طلب منه ان يدعو الله ان ،تنحرف الزوبعة المقبلة بعيدا عن الخيمة ، رد لماذا لا تدعوه انت ألست من شعب الله المختار!
حوادث بسيطة تتخلل احداثا كبيرة والناس في الاردن بالذات بدون اي عمق استراتيجي ثقافي حيوي ، سوى ما تبقى من النظام الثقافي القبلي المستبعد طويلا والمخترق والمتهدم ، وحين اشتد الضغط على الناس ارتدوا الى ما تبقى من روابطهم العشائرية الفاقدة لكثير من انظمتها الثقافية الاصلية الفعالة ، فيما الارجيلة التي شربها بيريس في الشميساني تنتشر على نطاق واسع في عمان ، في الكوفي شوبز التي لم تسمى مقاهي في سياق استكبار لغوي مرغوب ، مع الكثير من النوادي الليلية المملؤة بالنساء المستوردات عبر وسطاء دوليين من عالم كان ينهرس ، فالسياحة ضرورية لامن الشرق الاوسط كالبوليس كما يقول بيريز.
الشرق الاوسط وشمال افريقيا ، هكذا اصبح اسم بلاد العرب كما ينص المشروع ، لكي تكون اسرائيل سيدة المنطقة وليس جزءا منها فقط ، فيما الخليج يبقى فارسيا حتى لو غيرت ايران اسمه ، وفي عمان انعقد اول مؤتمر اقتصادي للكيان الجديد عام 1995 ، وفيه اعترض عمرو موسى الذي كان لا يزال وزير خارجية مصر ، على ما سماه الهرولة ناسيا او متناسيا عاصفة الصحراء وكامب ديفيد ، ومن هناك بدأت تظهر قطر ، وبدأ التنافس بين العرب رسميين وغير رسميين على من يكون اكثر شرق اوسطية من غيره ، بصورة تثير الشفقة او الاشمئزاز او العطف او الاحتقار ،، حتى راح وزير داخلية عربي يتمنى الخير لبلدينا ولشرقنا الاوسط ، في نهاية رسالة رسمية لنظيره العربي الاخر ، وعلى ما يشبه اطلال وفود حلت ورحلت ، كان ممكنا ان نتعرف على شكل الوجوه المطلوبة او النماذج المناسبة التي ستتولى ،الادارة والسيطرة والتحكم لاحقا.
كانت عشرون سنة من الاختلال العالمي ، والحروب المدمرة ، وارقام لا حصر لها عن اعداد الضحايا والمنكوبين والمهروسين والجياع ، وصاروخ توما هوك العابر للقارات ذا القوة التدميرية الماحقة يستعمل بصورة روتينية ، ووزيرة الثقافة الفرنسية تدعو شعبها للاقلاع عن فلسفة الانوار وتحثهم ان يكونوا عمليين ويفهموا العولمة ، وارهاب كوني لمحاربة الارهاب ، يستهدف الدول كالاشخاص ويستهدف الاشخاص كالدول ، تحت شعار من ليس معنا فهو ارهابي ، مع استهداف خاص جدا للعراق المضروب والمحاصر من البداية .
وفي العراق نفسه ، كان المأزق الاول للقوة الغاشمة التي استباحت كوكب الارض ولوثته ببشاعة لم تحترم اتفاقية كل سكان الارض في كيوتو ، ففي العراق وتحديدا في الانبار المحافظة الصحراوية ، بدأ المشروع يتضعضع اول مرة ، وبقليل من المبالغة يمكن القول ان محافظة عراقية واحدةكانت قادرة على ارباك القوة العظمى المنفلتة على العالم، بقوة مرعبة لا ترد ، حتى اضطر بوش ان يذهب بنفسه الى الانبار للاستعانة بالشيخ عبدالستار الريشاوي الذي يلقى حتفه بعد قليل من الاستجابة.
،
عشرون عاما فقط ، هي مرحلة قصيرة جدا في عمر الاجيال ، عاشها جيل واحد بالتفصيل ، انها عملية كونية لتنميط العالم بمفهوم واحد ، وتحويل الشخص البشري الى كائن غرائزي يشتهي كل الاشياء ، ويحترم حقوق النساء المطلوبات للاستثمار كصناعات تصديرية جديدة او لوازم، لتلطيف وجه العولمة ، مع رواج كاسح لعمليات الاعلام والترويج ، وطب التجميل والتعديل الذي يستهدف خصوصا الاجزاء الاكثر اثارة في الجسد ، وتسامح ديني تنتشر معه المساجد والكنائس الباهظة التكاليف ، مع ازدهار لافت للصلوات كملحق اسبوعي بجريدة الجمعة اوالاحد ، وربط مباشر لعمليات الصدقة والتسول بشركات الدعاية والاعلان والعلاقات العامة ، واقناع سريع وسلس لكل الناس بفرص الثراء الوشيكة ، لضمان استمرارهم ،بحالة اللهاث والمضاربة بالموجودات وشراء اليانصيب ، وتفريغ حقيقي في النهاية للحياة نفسها من كل معانيها النبيلة.
كان ذلك قد بدأ مع تاتشر وريجان وبعد بريجينيف ، فهذه هي الخصخصة والعولمة والقرية الكونية والديمقراطية وحقوق الانسان والنساء ، والحريات والمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر والمجتمع المدني ، وجوائز الاحسن والاجمل والا كثر اثارة والاكثر تأثيرا والاكثر نفوذا والاطول والاكبر حتى اكبر طبق او اخر طبق ، مع الحروب الاستباقية وعالم الاستخبارات العلني والامن الناعم ، الى الاسواق المفتوحة والتجارة الدولية الحرة ، وباقي عناصر هذا الخليط البراق والمغري كغلاف قصص الاطفال ، وطوال تلك السنين ظل العالم يدور ويلهث ويُنهب حتى اصطدم رأسه الكبير بحائط وول ستريت عام 2008 ، فمنذ عام 2008 كان على العالم، ان يتغير ، وكان علينا ان نتغير يتبع
،
،
،
،
،
،
،
،