كلما زرت بيروت أشعر بالحاجة إلى إعادة تأهيل سريعة. البلد منجب للملفات وسرعان ما تنعت بالفضائح. وهكذا يتحتم على الصحافي الزائر أن يكون ملماً بـ «فضيحة المازوت الأحمر». و «فضيحة اللحم الفاسد». وفضيحة الكهرباء المفتوحة منذ عقود. وفضيحة البناء على الأملاك العامة. وفضيحة التلزيمات والمناقصات. وثمة من يتحدث عن فضائح مقتربة حتى قبل أن تبوح أعماق البحر بقطرة نفط.
ينشغل اللبنانيون بهذه الملفات ويتقاذفون الاتهامات. لكن اقتراب الحريق السوري من نهاية سنته الأولى دفع السياسيين والمحللين إلى إعطاء جزء من وقتهم للمخاطر الاستراتيجية. ولا يخفى أن بعض التحليلات المخيفة مضرة بالسياحة وحتى بإقامة المواطنين الذين يبقي بعضهم الحقائب جاهزة لسلوك طريق المطار.
قال السياسي: «لنترك التفاصيل المحلية جانباً. هذا ليس وقتها. لنتحدث بما هو أهم. ألا تستوقفك اللوحة الشاملة. إقليم كردستان العراقي يزداد رسوخاً فيما ينذر الارتباك في بغداد بولادة أقاليم أخرى إن لم تقم مصالحة وطنية حقيقية. جنوب السودان طلق الشمال وأعلن دولة مستقلة. اليمن الجنوبي يحلم بالعودة إلى الاستقلال. الحوثيون بلوروا ما يشبه الإقليم. «القاعدة» تحاول انتزاع معقل دائم لها. آخر الرسائل جاءت عبر إعلان إقليم برقة الليبي».
وأضاف: «سقوط النظام في سورية غير وارد. ربما يضطر إلى الانحسار ليسيطر على بعض أرضها. هذا يعني فتح باب التقسيم أو الأقاليم سواء في صورة أمر واقع أم في صورة رسمية. تندفع سورية نحو أزمة حادة بين مكوناتها. ثمة من ينظر إلى طريقة قصف حمص بوصفها عملية تهجير من ضمن حسابات تمتد من العراق إلى لبنان وتنتهي بأحزمة مذهبية تحاصر أحزمة معادية. إذا انفجرت سورية كيف يبقى لبنان موحداً؟ أنا لا أقصد أن ذلك سيحدث غداً. تغيير الخرائط يحتاج أنهاراً من الدم».
في اليوم التالي موعد آخر. هذا السياسي أولوياته مختلفة. قال: «الأميركيون أغبياء. يتوهمون أن هذه القوى التي استغلت صناديق الاقتراع للوصول ستسلم فعلاً بمبدأ تداول السلطة. سقطت ديكتاتورية أفراد وسنقع في ديكتاتورية أفكار لا تنتمي إلى هذا العصر. من يمتلك الحقيقة المطلقة لا يقبل بحق الاختلاف. لست معجباً بالنظام السوري لكن سقوطه يعني نهاية الأقليات. انظر إلى ما حدث في العراق».
في الليل رحت أتنقل بين الشاشات. رأيت محللاً يؤكد أن الأزمة في سورية تشبه أزمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينات. وأن روسيا لا تتراجع ولديها قوات في طرطوس. وأن الأزمة ستنتهي بإعادة رسم حدود المعسكرات في الإقليم.
على الشاشة الأخرى كان المحلل أشد وضوحاً. قال إن الصواريخ ستنهمر على إسطنبول وتل أبيب وأماكن أخرى إذا حدث تدخل دولي في سورية. وإن جبهات كثيرة ستشتعل وإن أنظمة ستهوي. وإن خيط النار سيمتد من الناقورة إلى مضيق هرمز إذا استهدفت إيران.
رائحة خوف عميق في بيروت. الأول يخاف من أن تكون سورية غرقت في حرب أهلية مديدة يصعب ضبطها ضمن حدودها الدولية. الثاني يخاف أن ينجو النظام من الأزمة ويزداد التصاقاً بإيران ويصبح في وضع يشبه كوريا الشمالية. الثالث يخاف من انهيار النظام و «أن يحل ببرهان غليون ما حل بالشبان الذين أطلقوا شرارة الثورة في ميدان التحرير في القاهرة». ورابع يجري حسابات يومية لانعكاسات بقاء النظام السوري أو سقوطه على حظوظه الانتخابية و «احتمالات التمديد للهيئات والرجال».
رجال متوترون في بلد من زجاج. من حقهم أن يتفاعلوا وينقسموا لكنهم يذهبون بعيداً إن أيدوا أو عارضوا. ليتهم يهدأون قليلاً. رحمة بالبلد وتلامذة المدارس. ليتهم يخفضون الحماسة قليلاً. ليتهم يتبصرون في المصطلحات. ووقع كلامهم على الناس المقيمين في بلاد من خزف. اهدأ قليلاً أيها السياسي. اهدأ قليلاً أيها المحلل. اهدأ قليلاً يا صاحب الغبطة.