التوجه الحكومي لرفع أسعار الخدمات، وتعويم أسعار المواد المدعومة، لا يعكس فقط غياب وعي، أو اهتماما بتأثير مثل هذه السياسات على فئات واسعة من المجتمع، وليس فقط الأكثر فقراً، لكنه يدل أيضاً على عدم فهم المسببات الحقيقية، التي أدت إلى اندلاع الثورات العربية.
صحيح أن الاستهتار بكرامة المواطن وإنسانيته، كان ولا يزال، مصدراً لاحتقان وتوتر شعبي انفجر في وجه العديد من الأنظمة، لكن لا يمكن تجاهلهما تاريخيا، جذور التداعيات الاجتماعية، لسياسات ما يسمى “بتحرير الاقتصاد” التي أدت إلى سلسلة انتفاضات واحتجاجات، اتسعت وتصاعدت إلى أن تحولت إلى ثورات شعبية.
في تونس مثال نجد بذور الثورة في عامي 1978و1984 ، مع دخول البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، “وفرض” رفع الدعم الحكومي عن السلع الضرورية، والتي أدت في حينها إلى احتجاجات واسعة، لم يخمدها الا إنزال قوات الجيش إلى شوارع العاصمة، في كانون الأول عام 1984 ، وفرض حظر التجول لوقف حرق الإطارات والسيارات والتظاهرات من الانتشار.
الأمر ذاته ينطبق على مصر، منذ بدايات تنفيذ “سياسة الانفتاح”، كما كانت تسمى، وانتفاضة الخبز عام 1987 ، والاحتجاجات التي تبعتها عبر السنوات، لعل أهمها إضراب عمال صناعة النسيج في المحلة الكبرى عام 2008، والذي شكل منعطفاً، لم تنتبه إليه مراكز الحكم المصرية والعربية، باعتباره مؤشراً لتطور القدرة التنظيمية والتعبوية، التي استقطبت فئات اجتماعية خارج حدود الطبقة العمالية، وألهمت الكثيرين في العالم العربي، بما في ذلك الأردن، التفكير في أشكال العصيان المدني، مستفيدة من انتشار، وبروز دور مواقع التوصل الاجتماعي، كأداة تحشيد على الاحتجاج الاجتماعي والسياسي.
حتى سورية، التي تميزت اقتصاديا في تركيزها على القطاع العام والصناعة الإنتاجية، لم تنج من تيار النيوليبرالية الجارف، باعتباره جوهر العولمة الاقتصادية، ودخلت غمار المغامرة المدمرة، وإن من وقت ليس ببعيد وببطء، ولكن التأثير كان سريعاً في الأرياف والأطراف، حيث الضرر الأكبر، وبالتالي هذا يفسر، إلى درجة يجب عدم الاستهانة بها، أن تصبح تلك المناطق الشعلة التي أشعلت الاحتجاجات الشعبية.
هذا التحليل، لا ينكر الأسباب السياسية التي أوصلت العالم العربي إلى مرحلة التفجيرات الشعبية، ولكن الأزمة تبقى اقتصادية واجتماعية في جوهرها، وهذا ما لا يستطيع تقبله صانع السياسة الأردني، الذي تشرب ولفترة طويلة أفكار ومقولات المدرسة النيوليبرالية السائدة في معظم الجامعات الغربية والمحافل الاقتصادية، التي تضخ في العقول أن ما يسمى بالاقتصاد الليبرالي، المتحرر من أي سياسات ضمان اجتماعي، هو السبيل الوحيد للتقدم الاقتصادي بالطبع لا نستبعد، ولكننا نتجنب اتهام أحد، مصالح خاصة وراء التمسك بمثل هذه الأفكار.
لكن الأيديولوجية التي تربط بين النيوليبرالية والتقدم الاجتماعي سقطت عالميا، والدليل هو الأزمات الاقتصادية التي تجتاح الأسواق، وحركات الاحتجاجات الاجتماعية الأمريكية، التي تسمي نفسها “حركات احتلال” مراكز وتجمعات صناعة السياسة والمال في الولايات المتحدة.
الغريب في الأمر أن المسؤول الأردني، يبدو غافلاً حتى عن تاريخ الأردن، الذي لا يٌدرس في المدارس والجامعات، ولكن ذلك لا يعني عدم حدوثه، فكيف يمكن تجاهل هبة الجنوب أو هبة نيسان عام 1989 ، أو هبة الخبز عام 1996 تم استيعاب الانتفاضة الأولى بعــــــــودة الحــــياة النيابية والحزبية، إلى البلاد، ولكن تدريجيا وخاصة استعادة السلـــطات الأمنية والتنفيذية سطوتها من خلال نظم انتخابية وعمليات تزوير بهدف تزييف الإرادة الشعبية.
الوضع الآن أشد إيلاما من زمن هبة نيسان وانتفاضة الخبز، فوقع الأزمة أكثر قسوة، والأردني أكثر وعياً بحقوقه، وانتخابات جديدة، بشرط أن تكون حرة ونزيهة، هي شرط ضروري ومدخل أساسي، لكن تمرير إجراءات اقتصادية، تزيد وتفاقم العوز والفقر، هي بمثابة الدوس في حقل ألغام، ففكروا بأنفسكم إذا لم تتبقى الرحمة في نفوسكم.