كلاهما ضحية اوهامه، بقدر ما هو ضحية التابع الذي يردد صدى صوته، ورغم ان سرفانتس جعل من بطله فارسا الا ان الفكرة التي تأسست عليها وفي ضوئها روايته تقبل عدة تأويلات، ومنها الكاتب الذي يتكسر قلمه بدلا من سيفه على ورق من فولاذ او على جدران صمّاء.
واذا قبلنا بما يقوله علماء النفس وبعض النقاد ايضا، فإن للفارس كما الكاتب اعداء وهميين ان لم يوجدوا يتم اختراعهم، وتبعا لما قاله الشاعر والناقد ستيفن سبندر فإن وجود هؤلاء الاعداء ضروري، وقد يكونون اشباحا مكثت في الذاكرة منذ الطفولة، او اشخاصا من الاقارب او الاصحاب شككوا في ذكاء الطفل فخيّب رهانهم، وثمة من عثروا على اعداء في اقرب الناس اليهم كما فعل ارثر شوبنهاور الذي صاحبه اعتقاد حتى النهاية بأن امه تغار منه، وقد كانت بالفعل كاتبة لكنها لم تنل من الاعتراف ما يكفي لإشباع طموحها. وقد حدث بالفعل ان اشتبك الابن مع امه فدفعته على سلم حجري وشجّ رأسه، وليس بعيدا عن هذا ما عاناه كل من بودلير ورامبو، الاول من امه التي تزوجت بعد موت ابيه من جنرال، والثاني الذي فرّ من البيت واقترنت حياته لفترة من الزمن بتوأم شقيّ هو فيرلين، لكن من يظنون انفسهم اشباها لبعضهم سرعان ما يكتشفون العكس بحيث يرى الشبيه عيوبه وما يضيق به من نفسه في التوأم الذي يتحول الى مرآة، لهذا اطلق احدهما النار على الآخر في النهاية وكأنه ينتحر لكن بصورة اخرى.
وهناك مثال من صميم الطبيعة، اثار لدى واحد من اكبر مؤرخي عصرنا وهو ارنولد توينبي تأملات انتهت به الى نظرية بنى عليها منهجه في قراءة التاريخ هي ثنائية التحدي والاستجابة، فقد شاهد توينبي ذات يوم وهو يتجول في سوق للسمك ان هناك اسماكا تباع بأسعار عالية اذا حافظت على مرونتها اثناء النقل، لكنها نادرا ما تحتفظ بهذه المرونة، اذ سرعان ما تتصلّب، واكتشف الصيادون بالمران ان هذا السمك سريع الخمول لأنه بحاجة الى نوع آخر من السمك يؤدي الى توتيره وبالتالي استفزاز طاقته الدفاعية، فأصبحوا يضيفون قليلا من هذا النوع من السمك العدواني الى احواض الماء التي يعيش فيها السمك الخامل. وهكذا قرأ توينبي الحضارات ما باد منها وما ساد، فالتحدي قد يتجسد في سمك عدواني او في بيئة صحراوية قاسية وجافة او في صقيع على مدار العام.
ورغم التباعد الظاهري بين ما يقول علماء الجمال والنقاد وبين ما يقول امثال هذا المؤرخ الا ان الجذر واحد. وربما هذا ما دفع سبندر الى القول بأن الكتابة من القطب المتجمد الشمالي لا تشترط الذهاب اليه ومعاناة العزلة والصقيع والعراء لكنها تشترط ان يكون من يريد الكتابة عن هذا المناخ الموحش قد جرّب الجوع والبرد والنوم في العراء ليلة واحدة على الأقل. اذن لا بد من اجتراح عدو ما، سواء من اجل الحفاظ على المرونة والتأهيل الدفاعي او لمجرد الارتطام بشيء ما، فالملاكم لا يتدرب على الهواء الذي لا يصد قبضته بل على كيس ثقيل من الرمل ومن تدربوا على السباحة في السرير غرقوا.
اوهام الفارس الذي تكسر سيفه على جنود من خشب، هي المعادل الروائي لكاتب يقف في ممر بين الباب والمرآة، وحين يجرب الخروج من الباب الى العالم يكتشف ان الباب ليس بابا بالفعل بل هو رسم على الجدار، وحين يضطر لاختراق المرآة كي يعود الى ذاته يتهشم انفه ويرتطم بالحديد او الخشب الذي يغطيه الزئبق. لكن لكل من الاثنين من يحاول انقاذه بحيث يتولى نيابة عن الناس جميعا الاعتراف به وبالتالي نقل أخبار انتصاراته.
بالنسبة لدون كيشوت تولى سانشوا الامر رغم رؤيته بالعين المجردة لطواحين الخشب وهي تصدّ سيف سيده المخدوع، اما الكاتب عندما يكون دونكيشوت فثمة ناقد ما يتولى الأمر، خصوصا في مجتمعات تشح فيها الافرازات الحضارية الاكثر تعقيدا ومنها النقد، بينما تعاني من فائض الافرازات شبه الرعوية ومنها قدر كبير من الكتابات في مختلف المجالات، وان كان الشعر اوسع هذه المجالات سواء بسبب وفرة ما أنجز منه او لأن الاستقرار على اي تعريف ولو تقريبي له لم يحدث ثقافة كثقافتنا العربية اشترطت للشعر وزنا وقافية، ثم اضافت نيّة النظم وهذا الاقنوم الثالث المتعلق بالنوايا لا نظن انه وجد في اية ثقافة اخرى لأن المقصود به كما أرجح هو تعميق الحد الفاصل بين مرجعية دينية واخرى شعرية خصوصا بعد اتهام الرسول الكريم بالشعر، لهذا لا نجد فرقا كبيرا بين استبعاد الشعراء في جمهورية افلاطون والمرجعيات الدينية، فالاولى طردتهم الى منفى مجهول، والثانية حذّرت من غوايتهم ومن قولهم ما لا يفعلون !
ان دون كيشوت متعدد الأوجه، والوجود كذلك، فإن كنا نؤوله ثقافيا فإن هناك من يؤوله سياسياكما فعل اسرائيل شامير عندما اراد افتضاح تهويد القدس، مشيرا الى ما يسمى الايديولوجيا العذراء، فقد تجاهلت الصهيونية حسب رأيه ان القدس تزوجت وانجبت ابناء من العرب سواء كانوا مسلمين او مسيحيين، لكن هناك سانشوا مضلل ابلغ اليهود عن انتصارات دونكيشوت وطلب منهم ان يزفوا له القدس، وبالطبع تلك مسألة يطول السجال حولها لكننا اردنا على الاقل ذكرها في سياق التأويل لدونكيشوت وفروسيته الخشبية، والكاتب عندما يكون صورة اخرى لدونكيشوت يحتفظ بكل كلمة حتى لو كانت عابرة، كتبت عنه في صحيفة او في مناسبة، وحين يجمعها في ما كان يسميه قدامة بن جعفر زنبيل المخطوطات الى الناقد سانشوا يتحول الى ملء فراغات ليرمم الناقص والغائب من الكتابة النقدية الجديرة باسمها، لهذا نقرأ احيانا مقالات تسمى نقدية عن روايات او اشعار او حتى مسرح بذل فيها جهد كبير كي تقول كل شيء من اجل ان لا تقول شيئا محددا، والكاتب تبعا لهذه المعادن يصبح حاصل جمع ما قيل عنه فقط، اما هو ونصوصه فقد تم حذفهم.
واذا كان سانشوا يزهو بأخبار سيده بأنه اجهز على سبعة او عشرة جنود من الخشب، فإن سانشوا النقد يفعل ذلك على نحو آخر عندما يقدم قائمة بأعمال الكاتب وتواريخ صدورها وعدد الطبعات الوهمية المتكررة منها، استطرافا او افتراء على احد اذا قلت اذا اعرف كاتبا يتلذذ برؤية مؤلفاته في مكتبة هنا او كشك هناك ولا يخطر بباله للحظة واحدة بأنها مكثت في مكانها لأنه ما من احد قرأها، ونادرا ما تلتقي كاتبا لا يوجد لديه شيء من اعمال او في المكتبات ويشعر بالاكتفاء والاستغناء لأنها وصلت الى المرسل اليهم، ونعرف كتابا ايضا يحتفظون بزنابيل وليس بزنبيل واحد من مقالات صحافية كتبت عن اعمالهم بمناسبة صدورها، لا لأهميتها بل لأن فائض المطبوعات من صحف ومجلات بحاجة الى علف يومي كي يستمر رغم ان تلك المقالات لا تتخطى ما يلي : تستمد هذه المجموعة القصصية او الشعرية اهميتها من كونها او لأنها، ثم نبحث عن كونها ولأنها فلا نجد اكثر من اشباه جمل، او جمل لها مبتدأ اما خبرها فهو في مكان آخر.
واذا كان يؤرخ لفن الرواية بدءا من سرفانتس باعتبارها كما قال جورج لوكاتش ملحمة البرجوازية الاوروبية فإن التاريخ ينمو دائريا، ذلك لأن دونكيشوت بطل الرواية وتابعه شاهد الزور هاجرا وعبرا قرونا وقارات كي تنبعث شخصنة الفارس الخادع لنفسه قبل ان يكون مخدوعا في صورة كتاب تتهشم اقلامهم على جدران الفولاذ ويحاولون الخروج من ابواب يكتشفون بعد الارتطام بها انها مرسومة على الجدران ولا تفضي الا لذاتها !!!