هذا المقال ليس تعبيراً عن عاطفة أو انفعال، وإنما تقدير عقلانى ينبع من دراسة وخبرة… ورؤية لمستقبل الوطن…
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخراً مقالاً لمراسلها فى القاهرة (ديفيد كيرباتريك) ذكر فيه أن سفارة أمريكا فى القاهرة قد منحت ثلاثة مواطنين أمريكيين الإقامة فى السفارة لحمايتهم من السلطات المصرية، بسبب تحقيقات ذات لون سياسى لأربعة منظمات أهلية.
وأشار الكاتب إلى أن تصرف السفارة الأمريكية يعكس انخفاضاً جديداً للعلاقات بين القاهرة وواشنطن التى هددت مؤخراً بوقف المعونة العسكرية التى تقدر بـ 1.3 بليون دولار.
وقد أثار دهشتى وغضبى ليس فقط ما ورد فى المقال، وإنما فى تعليقات القراء التى حملت قدراً كبيراً من الازدراء والتعالى والصفاقة، فمنهم من طالب بضرورة وقف المعونة فوراً وتجويع أهل مصر حتى يتعلموا، ومنهم من اقترح قيام الجيش الأمريكى بعملية جراحية يتم بها اختطاف المواطنين الأمريكيين من القاهرة، بل وصل أحدهم إلى حد اقتراح قصف القاهرة والمدن الكبرى فى مصر وتدمير المعدات العسكرية للجيش المصرى التى تم شراؤها بأموال دافع الضرائب الأمريكى.. إلخ
وبغض النظر عن الحقائق القانونية والسياسية لموضوع المنظمات الأهلية (وخاصة الأجنبية) فى مصر، فهناك بديهيات لا ينبغى التغافل عنها:
•أن تصرف السفارة الأمريكية فى القاهرة – إذا صح – يعد انتهاكاً للقانون الدولى، وقوانين الدولة المضيفة، حيث لا يصح أن تقوم بحماية مطلوبين للعدالة فى مصر، وإنما تملك أن تعين لهم محامياً أو أن تخاطب الخارجية المصرية.
•وبدون تدخل فى التحقيقات الجارية الآن، فإن المراجعة المدققة للقانون المنظم للجمعيات الأهلية تشير إلى مخالفات بالجملة، خاصة من تلك الجمعيات ذات الجنسية الأجنبية.
•أن تصريحات المسئولين الأمريكيين وبعض أعضاء الكونجرس فى هذا الشأن تعد تدخلاً صريحاً فى الشأن الداخلى المصرى، وافتئات على نظامنا القضائى.
•أن ما يسمى المعونة الأمريكية لم تكن سوى جزء من صفقة السلام بين مصر وإسرائيل، وبدون الدخول فى تفاصيل ليس هذا محلها، فإن ما تحقق من هذه الصفقة من مصالح لكل من إسرائيل وأمريكا يتجاوز عشرات المرات قيمة هذه المعونة.. للأسف الشديد!!.
لقد كانت ثورة شعب مصر فى جوهرها تمثل استعادة الأصيل (الشعب) لسيادته وقراره، وعلى أمريكا أن تتخلى عن أوهامها بأن هذا الشعب يمكن أن يقبل التبعية والذل من أجنبى، وقد رفضها بجلاء من حكومته.. لقد مضى عهد الإملاءات والإشتراطات، ولن يكون لهذه الأرض سيد سوى شعبها.
لقد كتبت منذ ثلاثة أعوام مقالاً بعنوان “وقفة مع العم سام”، طالبت فيها بأهمية مراجعة كافة العلاقات مع أمريكا، وأتصور أن الأمر الآن يتطلب ليس مجرد “وقفة”، وإنما إعادة صياغة للتحرك الدبلوماسى المصرى، كى تخرج مصر من الزنزانة التى قيدت حركتها لسنوات عديدة.. يجب أن تعرف أمريكا أننا قد استعدنا قدرتنا على المناورة إقليمياً ودولياً دون أن نحمل فى كل مرة هم “المصالح الأمريكية وربما الإسرائيلية” فى الاعتبار..
الإنفتاح على دول الإقليم المؤثرة مثل تركيا وإيران، وتجميد العلاقات مع إسرائيل إلى أدنى درجة ممكنة، والتنسيق والتفاعل مع الصين والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وغيرها من دول العالم، بحثاً عن مصالحنا فقط هذه المرة.. حينها ستعرف أمريكا أصول التعامل مع مصر كدولة مستقلة ذات سيادة.. ذلك أهم كثيراً من معونات كان فسادها أكثر من نفعها، وذلك ربما يكون مجال حديث آخر…