ويظل المسجد الأقصى بؤرةً لهذا الصراع التاريخي بين إسرائيل التلمودية وبين الشعب الفلسطيني (وسائر الشعوب العربية)، ولقد سمحت الشرطة الإسرائيلية ليهود متطرفين في عدائهم التلمودي لـ”الأقصى” بالاعتداء عليه؛ وفي اليوم التالي، تعرَّضت كنيسة (في القدس الغربية) لاعتداء تلمودي آخر، وكان أعضاء في حزب “ليكود” الحاكم قد دعوا إلى اقتحام “الأقصى”، لهدمه وإقامة الهيكل مكانه.
إنَّها “مُسلَّمة” أنْ أقول، وأنْ يقول معي كثيرون من القانطين من السياسة العربية، إنَّ “المسجد الأقصى” ليس بذي أهمية تُذْكَر لدى العرب، دولًا وقِمَمًا؛ ولعلَّ خير دليل على ذلك هو أنَّ الزعماء العرب لم يجتمعوا، ولو مرَّة واحدة، ليرسموا “الخط الأحمر” في موقفهم من قضيته، التي يُظْهِرونها، في شعائرهم وطقوسهم السياسية ـ الدينية على أنَّها قُدْس أقداس السياسة الرسمية العربية.
أمَّا في العالم الواقعي والحقيقي للسياسة التي ينتهجون ويمارِسون فقد أتوا إلينا بكل دليل مُقْنِع ومُفْحِم على أنَّ السلام مع إسرائيل ممكن وضروري وحتمي ولو ظلَّ المسجد الأقصى، والحرم القدسي كله، إلى الأبد، على ما هما عليه الآن؛ وكأنَّ بقاء “الأقصى” خاضعًا لاحتلال إسرائيلي أبدي، لا يقف، ويجب ألاَّ يقف، عقبة في طريق السلام (وتطبيع العلاقة بأوجهها كافة) مع “الدولة التلمودية”!
إنَّنا لا ندعو الدول العربية، أو بعضها، إلى “تحرير” المسجد الأقصى، فلا يكلِّف الله نفسًا إلاَّ وسعها؛ كما أنَّ “الدعوة” هي بحدِّ ذاتها مساهمة في بث ونشر مزيدٍ من الأوهام.
ما ندعو إليه فحسب هو أن “يُجامِل” السلام (العربي) مع إسرائيل، ولو قليلًا، المشاعِر الدينية الإسلامية والمسيحية لشعوبنا ومجتمعاتنا، فجَعْل “السلام”، في معاهداته واتفاقياته، مشروطًا، على الأقل، بحلٍّ انتقالي (مؤقَّت) دولي لمشكلة الحرم القدسي والأماكن المسيحية ككنيسة القيامة، يقوم على إنهاء كل مظهر من مظاهر السيادة (والاحتلال) الإسرائيلية، هو ما كان يجب أن يُفكَّر ويُعْمَل فيه عربيًّا، أي لدى المؤمنين من العرب بالسلام مع إسرائيل خيارًا استراتيجيًّا لهم.
وربَّما لا يتأخَّر كثيرًا مجيء يومٍ تُعامِل فيه الدول العربية، التي أعْجَزَها كثيرًا “تحدِّي الأقصى”، المسجد الأقصى على أنَّه “شيء فلسطيني صرف”، يعود إلى “المفاوِض الفلسطيني”، المُثْخَن بجراح “مفاوضات السلام”، والذي يملك من “أسباب الضعف” ما يُفْقِده صفة “المفاوِض”، بتَّ أمره، لِيُعْلِن العرب بعد ذلك (كما أعلنوا من قبل) أنَّ أهل مكة أدرى بشعابها، وأنَّهم على عهدهم باقون، يقبلون ما يقبله الفلسطينيون، ولن يكونوا أبدًا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم؛ فهذا “الخطاب العربي”، الذي يقطر “أُخُوَّةً” من رأسه حتى أخمص قدمه، هو خير مساعدة تُسْدى إلى “المفاوِض الإسرائيلي” في حَلْب وعَصْر “المفاوِض الفلسطيني”.
والخوف، كل الخوف، هو من اتفاقيات سلام، تُحْفَظ فيها وتُصان، شكليًّا ليس إلاَّ، الحقوق الدينية الإسلامية في المسجد الأقصى؛ لكن في مقابل التفريط في كثيرٍ من “الحقوق الدنيوية”، أي “القومية”، للشعب الفلسطيني، كأنْ يُدْفَن “حق العودة” في “مقبرة إسرائيلية”، وتُضم إلى إسرائيل الأجزاء التي تريد من “القدس الشرقية” والضفة الغربية.
“خطاب النصر” هذا يجب ألاَّ يقع على أسماعٍ شعبية (فلسطينية وعربية) تشبه أسماع مُلْقيه، الذين سيُفْرِطون في تزيين التفريط في تلك “الحقوق الدنيوية”، قائلين لنا: لقد ضَحَّيْنا بالغالي والنفيس (من تلك الحقوق) في سبيل إنقاذ الأقصى!
إنَّ العالم اليوم يرى من دون أنْ يحرِّكَ ساكنًا ما يُعِدُّه المستوطنون ومنظَّماتهم مِن حروب تلمودية عنصرية بغيضة ضد المسجد الأقصى بدعوى أنَّ لهم حقًّا مقدَّسًا في الصلاة في باحة هذا المسجد الذي بزعمهم قد بُني حيث هُدِم “الهيكل”، ولا بدَّ، في نهاية حروبهم تلك، من هدمه من أجل أنْ يعيدوا بناء “الهيكل” في مكانه!
هذا العالم، الذي عينه، الآن، لا ترى، وأُذنه لا تسمع، سيرى ويسمع كل فعل، وكل قول، فلسطيني أو عربي أو إسلامي يتمخَّض عن الحرب التلمودية القذرة على الحرم القدسي، وسيتَّخذه دليلًا إضافيًّا وقويًّا على أنَّ “التزمُّت الديني”، ووليده “الإرهاب”، يستوطنان “العقل الثقافي” العربي، ولا بدَّ، من ثمَّ، من استئصالهما منه عبر مزيد مِن جهود الإصلاح الثقافي والتعليمي والتربوي!
إنَّهم، الآن، لا يرون، وليس من مصلحة لهم في أنْ يروا، كيف يتوفَّر المستوطنون ومنظَّماتهم، وكل من يدعمهم في السرِّ والعلن، على إنتاج، وإعادة إنتاج، وزيادة إنتاج، ما يسمُّونه “التطرف الديني والقومي”، في العالم العربي، مع كل ما يفضي إليه من عمل وممارَسة. كما لا يرون هذا “التهويد” في بعض الجماعات المسيحية، التي يتوفَّر ذوو “المصالح الدنيوية الضيِّقة” على زراعة أوهام دينية في عقول أبنائها، من قبيل وَهْم أنَّ “التسريع” في “عودة المسيح” يُلْزمهم أنْ يمدُّوا يد العون والمساعدة إلى المستوطنين ومنظَّماتهم في الحرب “المقدَّسة” على الأقصى، فهُمْ أُحيطوا عِلْمًا بأنَّ المسيح لن يظهر ثانية قبل هدم الأقصى وإعادة بناء “الهيكل” في مكانه!
العالم الحرُّ، المتحضِّر، الإنساني، الديمقراطي، مدعوٌّ، الآن، إلى تأليف لجنة دولية من خيرة العلماء والباحثين في حقلي “التاريخ” و”الآثار”، وفي أي حقل يتَّصل بهما، للتحقيق، في موضوعية ونزاهة، في الدعاوى التاريخية والدينية اليهودية، التي بها تسربل المشروع الصهيوني في فلسطين، فقد حان لـ”العقل الإنساني” في مستهل الألفية الثالثة أنْ يغتسل من خرافة “أرض الميعاد”، ومن كل الأوهام التلمودية، التي تلطَّخ بها “العقل السياسي ـ الثقافي” للعالم!
بقلم: جواد البشيتي