تدعو لغة وزير المالية أمية طوقان إلى التفكير مليا في النهج الإنفاقي الذي اتخذته الحكومات، والذي أدى إلى ارتفاع حجم النفقات إلى مستويات مقلقة، يحذر منها الوزير.ما قاله طوقان يصب في التحذيرات التي وجهت من قبل الإعلام والمختصين خلال السنوات الماضية وحتى وقت قريب، بضرورة معالجة الاختلالات التي بدأت تسري في عروق الاقتصاد منذ سنوات، وظهرت نتائجها وتبعاتها اليوم بجلاء.صراحة حديث وزير المالية وإن كانت قاسية وصادمة للعامة إلى حد ما، إلا أنها مختلفة عن ما كنا نسمعه خلال السنوات الماضية، لناحية جرأة الطرح وقياس المخاطر المحدقة، خصوصا أن الاستمرار في سياسة “أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب” ستوصلنا في النهاية إلى كوارث مالية ستصيب البلد كاملا وبدون استثناء.اتباع خطة إصلاحية حكومية، بفرض قرارات صعبة على الناس، يحتاج إلى استعادة الثقة قبل الإقدام على أية خطوة؛ إذ لن يتقبل الناس أيا من هذه القرارات إلا إذا تمكنت الحكومة من تقديم خطاب يثق به الناس، لحملهم على قبول وتحمل مثل هذه القرارات.طوقان الذي وضع النقاط على الحروف، بيّن أن المضي في سياسات الإنفاق التوسعية، وتأخير القرارات، سيوصلاننا إلى أحضان صندوق النقد الدولي من جديد. والأخير بدوره سيخضع البلد لقرارات قاسية قد لا يقدر المجتمع على احتمالها.اليونان كانت حاضرة في ذهن الوزير وهو يتحدث عن نتائج تأخير الإصلاح الاقتصادي. ولدينا من المؤشرات الرقمية الكثير مما يدفع إلى الحرص والانتباه حتى لا نقع في نفس الحفرة. فما حدث في اليونان قاس وصعب، إذ اضطرت الدولة إلى تخفيض الأجور في مرحلة ما، وتقليص فرص العمل؛ وتسبب ذلك بإعادة تقييم قيمة عملتها، فماذا لو مررنا بذات السيناريو؟!والمخاوف من تردي الوضع المالي، وانعكاس ذلك على الاستقرار النقدي، ليست جديدة، لكنها هذه المرة تخرج من وزير المالية الذي شغل موقع محافظ البنك المركزي لعقد من الزمان، الأمر الذي يدفع إلى الإنصات له، وإدراك مخاوفه في حال تأخير الإصلاحات المطلوبة. القراءة العميقة لتبعات تأجيل استحقاقات الإصلاح تتطلب من الحكومة وضع تصور عملي تحدد بموجبه الإصلاحات المطلوبة، وفق أولويات واضحة، شريطة أن تتجنب إثارة الغضب الشعبي من خطوات الإصلاح. وتحقيق الهدف السابق يتطلب جدولة أولويات الخطة الحكومية الإصلاحية، وذلك من خلال البدء في اتخاذ قرارات لا تمس حياة الناس مباشرة، مثل معالجة بعض الاختلالات في الموازنة العامة وتحديدا في بند النفقات، بحيث يتم تخفيض هذا البند بقيمة تصل إلى 500 مليون دينار.ويلي الإنفاق، النظر إلى بند الإيرادات؛ وذلك يعني صراحة إعادة النظر في قانون الضريبة، بحيث يكون أكثر عدالة، ويركز على الضرائب غير المباشرة ويبتعد عن الضرائب المباشرة، وتحديدا الدخل والمبيعات.، أما الخطوة التي تلي ذلك فتتعلق بالإنفاق التفاخري للحكومة وجهازها، بحيث تتوقف أية ممارسات خاطئة، طالما قدمت عبرا وزرعت صورة سلبية عن المسؤول في أذهان الناس. وبعد ذلك، على الحكومة البحث في دفاترها القديمة بحيث تتمكن من تحصيل ولو جزء من ديون الخزينة المعدومة، والتي استحقت على مسؤولين سابقين متنفذين، ولم يتسن الحصول عليها حتى اليوم.وفي النهاية، يجوز للحكومة بعد كل هذه الخطوات التي تؤهلها لاستعادة الثقة، أن تفكر في رفع الدعم عن سلع وخدمات، وتقديم الدعم النقدي المباشر.الوصفة السابقة متوفرة لدى وزير المالية، لكنها بحاجة إلى إعادة ترتيب للأولويات حتى تنجح في تحقيق الهدف منها.لدينا وصفتنا الخاصة، ولدى صندوق النقد وصفات جاهزة تجنبها بحاجة إلى قرارات شجاعة لا تطال محدودي الدخل وحدهم، بل تقلص من الامتيازات لبعض الجهات، إذ لم يعد ممكنا بعد الربيع العربي أن نطالب الناس فقط بتسديد فواتير الإصلاح.