ما مدى تأثير انهيار الغرب على النظام العالمي؟.. هذا هو السؤال الذي يشغل دوائر المفكرين حول العالم.
مؤخرا، صرح محلل صيني لهيئة الإذاعة البريطانية بأن أوروبا قد باتت «متحفا للسياح القادمين من الدول الناشئة»، ومن جهة أخرى أصبح التكهن بأن تتولى الهند دورا رياديا عالميا من المواضيع الأكثر تشويقا على طاولات النقاشات. وفي طهران تنشر وكالات الأنباء الرسمية تقارير عن «النهاية الوشيكة للشيطان الأكبر» بصورة يومية تقريبا، ويضيف الرئيس أحمدي نجاد إلى خطاباته بعض الإثارة من خلال التلويح بيده بأن أميركا قد انتهت.
وفي الوقت الذي أفرز الحديث عن الغرب الذي ينهار في أوروبا والولايات المتحدة صناعة كاملة تسمى بـ«الانهيار»، تقوم قنوات التلفزيون بأوروبا والولايات المتحدة بإذاعة برامج حوارية مع نجوم تلك الثقافة الجديدة الذين يطلق عليهم «الانهياريون» والذين يوصون الغرب بالانسحاب، بينما يشير آخرون على الغرب بالبحث عن دور هامشي في المستقبل، وتحتل مجلدات تحمل عناوين مثل «عالم ما بعد أميركا»، و«نهاية الغرب» الأرفف في المكتبات بالعواصم الغربية. بيد أنه عندما يتعلق الأمر ببناء نظام لا يملك «الانهياريون» سوى القليل من الأفكار الجديدة الأصيلة. يتحدث «الانهياريون» عن عالم جديد متعدد الأقطاب تصبح فيه الهند والبرازيل عضوين دائمين في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، ولكن قبل فحص الحلول التي يقدمها هؤلاء، دعونا نلقِ نظرة على مقدمة نظرياتهم:
إن مفهوم الانهيار هو اختراع غربي ذو تاريخ طويل شهد نشأته المؤرخ ثوسيديديس أثناء الحرب البلوبونيزية، بينما اعتقد المؤرخ الروماني تاكيتوس أن الغرب قد وصل إلى القمة في عهد الإمبراطور أغسطس ثم لاحظ الفيلسوف الألماني شوبنهاور في القرن التاسع عشر بداية انهيار الغرب، ورغم ذلك كانت التعليلات التي يرددها «الانهياريون» القدامى أقل فكاهة من تلك التي يرددها الحاليون (أصر انهياري أميركي من أصل هندي على أن السبب في ازدياد هيمنة الهند وانهيار الولايات المتحدة هو وجود عدد أكبر من الهواتف الجوالة في الهند).
هل الغرب فعلا في حالة انهيار؟.. ويبقى السؤال.
لو تم تعريف كلمة الغرب كأسلوب حياة من حيث الحضارة التي تقوم على الرأسمالية والديمقراطية وحكم القانون، فإن مصطلح الغرب سوف ينطبق على دول عديدة خارج أوروبا وأميركا الشمالية، خصوصا دولا مثل اليابان والهند والبرازيل. ومن هذا المنطلق تعتبر دول مثل روسيا والصين قد بدأت رحلة طويلة نحو انتهاج النمط الغربي. وكأسلوب حياة لا يوجد للغرب منافسون الآن خارج كوريا الشمالية، فبورما الدولة المنغلقة الأخرى، تحاول أن تتبنى النهج الغربي في الوقت الذي نجد فيه إيران تجمع بين مجتمع يعيش على النمط الغربي إلى جانب نظام سياسي شبيه بالنظام السوفياتي مستخدمين مصطلحات دينية.
ومن ثم فإن الغرب بعيد تماما عن مرحلة الانهيار، لأنه يعيش في الوقت الراهن ذروة تاريخية لشعبيته. ولذلك يعتبر الطغاة والحكام المستبدون على اختلاف أشكالهم الغرب عدوا ويتمنون سقوطه وانهياره.
من ناحية أخرى، يمكن الطعن في صحة نظرية «الانهياريين» لو نظرنا إلى الغرب جغرافيا قاصدين بذلك الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية، حيث تمثل المنطقتان 10 في المائة من سكان العالم و60 في المائة من الاقتصاد العالمي، ويوجد بهما 90 في المائة من براءات الاختراع الجديدة و80 في المائة من الابتكارات العلمية والتكنولوجية. وعلى الرغم من الازدهار الثقافي في الكثير من المناطق في العالم، فإن الأدب الغربي والفنون لا تعطي أي دلائل على الانهيار.
وعلى الرغم من الركود الاقتصادي الذي يشهده العالم هذه الأيام ما زال الغرب قادرا على تحقيق معدل نمو ضئيل، وللدقة تعاني العديد من دول الغرب من ديون ضخمة تقترب في بعض الأوقات من 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وأحد الأسباب في ذلك ربما يرجع إلى رغبة الأفراد في إقراض هذا «الغرب»، على العكس تفشل إيران في اجتذاب الاستثمارات الأجنبية على الرغم مما تقدمه من فوائد متضاعفة.
من ناحية الديموغرافيا، فالغرب القديم لا يعاني انهيارا، فهو لا يعاني من معدل نسبة المواليد الضخم الذي تعاني منه «الدول النامية» والذي يضطرها في بعض الأحيان إلى سن قوانين للحد من الانفجار السكاني، مثل سياسة الطفل الواحد في الصين والعقم الإجباري في الهند. وعلى عكس روسيا، لا يواجه الغرب تهديدا بالانخفاض في عدد السكان.
قياسا على ذلك في النواحي الأخرى نجد الغرب يظهر في أفضل حال، فهو مكان خال تقريبا من سجناء الرأي، كما يحقق الغرب عامة تقدما يفوق المتوسط العالمي في العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. وعلى الرغم من أن وضع النساء في الغرب لا يعد مثاليا تظل حقيقة أنه ليس هناك فصل عنصري بين الجنسين.
ماذا عن الحلول التي يوفرها «الانهياريون» لمشكلة غير موجودة؟
يبدو الحديث عن تعدد الأقطاب أكثر منطقية في السياسة عنه في الهندسة، فمع تعريف الأقطاب تجد أنه من المستحيل أن تجد أكثر من قطبين متقابلين. فمن الممكن أن يقوم نظام عالمي يتمحور حول مركز واحد للقوة، كما حدث في مؤتمر فيينا وفي مؤتمر برلين في وقت لاحق، ففي الحالتين طالبت قوى أوروبية بالسيطرة على العالم ومحاولة تقسيمه في ما بينهم وأصبح تخيل أن تتصارع قوى نامية تلجأ للحروب من أجل تحقيق طموحات محلية أو عالمية ممكنا، هكذا كان الحال بين العالمين عندما كانت الولايات المتحدة تتبع سياسة عدم الانحياز، وكانت روسيا سوفياتية، وألمانيا نازية، وإيطاليا فاشية، واليابان عسكرية، بينما تحارب بريطانيا وفرنسا الإمبرياليتان من أجل حماية أو زيادة مناطق نفوذهما.
انقسم العالم إبان الحرب الباردة إلى كتلتين متنافستين بقيادة الولايات المتحدة وروسيا، وما نفتقده الآن هو غياب قيادة عالمية وليس انهيار الغرب.
تحاول الولايات المتحدة أن تلعب دورا هامشيا برئاسة باراك أوباما ويعزز ذلك جزئيا خلط مؤيدي أوباما بين الدور القيادي للولايات المتحدة ومفهوم الإمبريالية. ويرجع ذلك أيضا إلى أن الأميركيين قد سئموا من حروب خاضوها في أماكن متفرقة من العالم خلال عقد كامل تحت اسم الدور القيادي لأميركا، فحتى أقوى الفرق الرياضية بحاجة إلى استراحة ما بين الشوطين.. السؤال هو: كم من الوقت سوف تستغرق الاستراحة؟ قد تعني استراحة طويلة أن العالم سيتجه إلى فوضى تنتج عنها حرب إلى أن ينشأ ميزان قوة عالمي جديد.