ثمة جدل وطني زادت وتيرته خلال الآونة الاخيرة، حول مدى احقية المعلمين في الاضراب والامتناع عن تدريس الطلبة بوصف قطاع عملهم “التعليم” يعد قطاعا حيويا في المجتمع لا يجوز الاضراب فيه لدوافع مادية، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل للمعلمين الحق في الاضراب؟
ربما توفر منظومة حقوق الانسان الدولية ما يمكن ان يشكل اساسا لحسم هذا الجدل الوطني، وبغض النظر عن الاعتبارات السياسية او المصلحية او الاخلاقية التي يقدمها هذا الطرف او ذاك.
تطرق العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي نشر في الجريدة الرسمية عام 2006، ومن ثم اصبح جزءا من منظومة القانون الوطنية الى الحق في الإضراب في المادة الثامنة التي تنص على ان” تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد بكفالة ما يلي … (د) حق الإضراب، شريطة ممارسته وفقا لقوانين البلد المعني”. ويلاحظ على هذه المادة انها اقرت الحق في الاضراب، ولكنها تركت للدولة تنظيم ممارسته وامكانية تقييده وفقا للقانون المحلي، ولكن بالتأكيد اي عملية تقييد لهذا الحق يتوجب ان تراعي ما هو متعارف عليه من شروط وارده في متن العهد، واهمها: الا يؤدي التقييد الى اهدار الحق، وان يكون هذا التقييد في ضوء المبادئ المتعارف عليها بين الامم، وهدفها الوحيد تعزيز الرفاه العام في مجتمع ديمقراطي.
ويلاحظ على صيغة النص الوارد في العهد المذكور انها صيغة عامة، ولا يستشف منها الحالات التي يجوز فيها تقييد الحق في الإضراب، ولذلك عملت لجنة الحريات النقابية في منظمة العمل الدولية على بناء مجموعة من السوابق المتعلقة بممارسة الحريات النقابية، ومنها الحالات التي يجوز فيها تقييد الحق الإضراب، حيث أقرت إمكانية تقييد هذا الحق في حالتين هما: إضراب الموظفين الحكوميين الذين يمارسون السلطة باسم الدولة (العاملين في القوات المسلحة والشرطة بالإضافة الى الموظفين العموميين في المستويات الادارية العليا التي ترسم السياسة والادارة التوجيهية) كون ممارسة هذه الفئات لحق الاضراب يؤدي الى إلحاق الضرر بالأمن العام للمجتمع. علما بان العهد المذكور اشار صراحة في الفقرة الثانية من المادة الثامنة الى انه “لا تحول هذه المادة دون إخضاع أفراد القوات المسلحة أو رجال الشرطة أو موظفي الإدارات الحكومية لقيود قانونية على ممارستهم لهذه الحقوق”.
اما الحالة الثانية التي حظرت فيها لجنة الحريات النقابية الإضراب فهي في مجال الخدمات العامة الأساسية فقط، علما بان الممارسات الحكومية في اغلب اقطار العالم تكشف عن الرغبة في اعتبار اي نوع من الاعمال بانه “خدمات اساسية”. وقد اعتبرت اللجنة ان التعليم من القطاعات غير الجوهرية التي لا يجوز مصادرة حق العاملين فيه من ممارسة حقهم في الاضراب، وذلك بعكس حال العاملين في المستشفيات او امدادات المياه او مراقبي خدمات الطيران الجوي وغيرها، وذلك لكون توقف العاملين في هذه القطاعات عن عملهم قد يعرض الحق في الحياة للخطر، الامر الذي يجعل من استبعاد العاملين في هذه القطاعات من مزاولة حقهم في الاضراب لا يمثل انتهاكا لمبادئ الحريات النقابية.
وبالنظر الى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المنشورة في الجريدة الرسمية عام 2006 نجد ان المادتين 19 و21 قد اكدتا على حرية الرأي والتعبير وحرية التجمع السلمي، وقد ربط العهد المذكور جواز تقييد هذين الحقين شريطة ان تكون القيود محددة بنص القانون وضرورية في مجتمع ديمقراطي، لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، او لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة. وعليه، يندرج اضراب المعلمين بوصفهم موظفين في القطاع العام ضمن احد اشكال التعبير عن الرأي والتجمع السلمي، فالموظفون العموميون بحسب اجتهادات اللجنة المعنية بحقوق الانسان – يتمتعون بحرية التعبير رغم المركز القانوني الخاص بهم، وقد قضت مثلا المحكمة الأوربية لحقوق الانسان بان عزل الموظف العام بسبب التعبير عن رأيه يخالف الحق في حرية التعبير.
ان تقييد الحق في الاضراب يفترض ان يذهب الشروط الناظمة لا الى الفعل ذاته بشكل يعصف بالحق، كون هذا الحق في المنظومة الحقوقية الدولية يشكل ضمانة لكفالة الحق في التجمع والتنظيم، عدا عن توفير حقوق الانسان في ظروف عمل سليمة وحياة ادمية كريمة ولائقة. وقد وضعت اتفاقيات منظمة العمل الدولية وتوصياتها جملة من الشروط الناظمة لممارسة الحق في الاضراب من شاكلة الا تكون مطالب المضربين لا يمكن تنفيذها، وان يتم اخطار صاحب العمل، وان تكون المطالب تتعلق بأمور مهنية، وغيرها، وان لا يؤدي الاضراب الى الاعتداء على المرافق العام وتدميرها، وغيرها. وهذه شروط تهدف الى تنظيم الاضراب في القطاع الخاص، ومن باب اولى ان يتم احترامها عندما تتعلق بإضراب العاملين في القطاع العام.
ولما كانت الحقوق التي تتضمنها المنظومة الدولية لحقوق الانسان تكمل بعضها بعضا، ولا تقوض بعضها، فان القاعدة التي تحكم مسألة تنازع الحقوق تغليب الحق الاولى بالرعاية وهو الحق حرية الرأي والتعبير للمعلمين، اما الطروحات التي تفيد بان اعتصام المعلمين قد مس حق الطلبة بالتعليم فانه لا تصمد تحت الاختبار، كون الدولة هي المسؤول الاول والاخير بموجب التزاماتها الدولية الوارد في العهدين المذكورين وكذلك الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، عن ضمان هذا الحق للطلبة من حيث توفير البيئة التعليمية المناسبة للطالب والمعلم معا، اما المعلم فهو غير مسؤول عن ضمان هذا الحق للطلبة، كما ان الحق في الاضراب مكفول للمعلم وبصرف النظر عن مدى توافر القدرة المالية للدولة.
وبمعنى اخر، ان مشروعية اضراب المعلمين تنبع من الشعور بالمعاناة والتفرقة وانعدام المساواة، وهي اسباب دفعتهم الى الاحتجاج بأكثر من شكل، كان الاضراب احد ادواتها، وربما يسهم الاضراب في رفع تلك المعاناة والتفرقة وانعدام المساواة، ويؤدي الى كفالة ضمان تمتعهم بكافة الحقوق الانسانية الواردة في العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الانسان.
اما مصادرة حق المعلمين في الاضراب على صعيد الفكر والممارسة، فيعد فعلا غير مشروع كونه يصادر حق مكفول لهم بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا العهد كاتفاقية دولية هو الاجدر بالتطبيق على كافة القوانين والانظمة والتعليمات عندما تتعارض مع احكامه، كما انه هذا العهد بما يتضمنه من احكام يسمو على كافة المسوغات السياسية والمصلحية، ولا يمكن تقديم أي منها على القيمة الكلية التي يقدمها العهد كآلية اصلاحية للمجتمع والدولة، وخصوصا ان نشر العهد المذكور في الجريدة الرسمية يعني من جملة ما يعنيه، انه من غير المقبول ان يتم المحاسبة على فعل او نتيجته طالما قد ابيح التمتع به من قبل مؤسسات الدولة الدستورية، وطالما انه لم يسفر عن اي عمل ادى الى تدمير او تخريب المدارس او خرج عن الوسيلة السلمية، وهو ما يقطع بحسن نية المعلمين وعدالة مطلبهم.
وعودا على بدء، يكشف الجدل الوطني حول اضراب المعلمين حاجة الدولة والمجتمع معا الى ضرورة سن تشريع ينظم الحق في الاضراب وكيفية ممارسته في المرافق العامة لموظفي القطاع العام بشكل خاص، وبما يؤدي الى اعمال فكرة التوازن ما بين مختلف الحقوق الانسانية الاخرى كحق التقاضي والتعليم والصحة والغذاء، لا سيما وان هناك الكثير من القطاعات التي يشكو العاملين فيها من تظلمات مختلفة، وقد يستخدمون هذه الاداة لإسماع صوتهم للحكومة والمجتمع، وخصوصا ان الإضراب عادة ما يتم اللجوء اليه إثر فشل أو تعثر التفاوض الجماعي كوسيلة ضغط على أصحاب العمل أو الدولة.
*باحث وناشط في مجال حقوق الانسان