حملة ? دقائق هي حملة مجتمعية لتشجيع القراءة لغايات المتعة، وذلك لرفع مستويات القراءة في جبل النظيف في الأردن. سميت ب? دقائق لأن اعضاءها يلتزمون بقراءة ? دقائق يوميا منفردين أو مجتمعين. ابتدأت الحملة في شهر كانون الأول 2010 بتسعة منظمين من أهل الجبل. والآن وهي مشرفة على النهاية تضم الحملة ما يزيد عن 162 منظما في 23 فريق قيادي و 500 ناشط بالحملة وما يزيد عن 5000 متعهد بالقراءة اليومية. قمنا باستخدام إطار وأدوات تنظيم المجتمع القيمي التي وضعها البرفسور مارشال غانز من جامعة هارفرد من تجربته الميدانية، وطورناها نحن انطلاقا من تجربتنا.
ونحن بصدد اغلاق الحملة، بدأت أفكر بالدروس من حملة ستة دقائق في جبل النظيف بالشراكة مع مؤسسة رواد التنمية، والتي نجحت برفع مستوى القراءة وزيادة عدد القارئين وخلق مجتمع نَشِطٍ مُجِيدٍ للتصرف. فبدأت أتساءل عن أسباب هذا النجاح. ربما نجَحَت لأن قيادة الحملة سواء الفريق المؤسس أو الفرق القيادية، أو أعضاء الحملة كانت كلها من أهل جبل النظيف. وربما نجَحَت لأن نهجنا في تنظيم ودعم الحملات قائم على مساعدة أعضاء الحملة في أن يصبحوا أهلاً لبعض وللموضوع المشترك.
ولتطوير التفكير عُقِدَت جلسة دردشة مع أعضاء مختلفين من الحملة وهم تغريد الناجي وميس العرقسوسي ونورة عواد وريفا يوسف ورقية الخطيب. وأدركت أمرين: الأول هو أن أهل الجبل لديهم القوة الكامنة الضرورية لإحداث أي تغييرلكن قوتهم تلك بحاجة أحيانا لاستفزاز وتحرير ودمج. و الأمر الثاني هو أن احد مصادر قوتهم تكمن في كونهم أهل. فعلينا كداعمين لمجتمع الحملة ومتخصصين في تنظيم الحملات أن نستثمر طاقاتنا في رعاية وتعزيز “أهلوية مجتمع الحملة” إن جاز التعبير… فكتبت الفقرات التالية كخواطر حول هاتين العبرتين.
أهل الجبل لديهم القوة الكافية للنجاح وليسوا بحاجة لشيء . ولكن قوتهم أحيانا غير موجهة وأحيانا كامنة، تحتاج لاستفزاز. فتَدَخُلُنَا يجب أن يحرك هذه القوى ويحررها و يحتفل بها ويدمجها ببعضها البعض. فمثلا في إحدى الجلسات مع مجتمع الحملة وهم بصدد وضع إستراتيجية حملتهم ، طلبنا من الجميع جرد مواردهم، وطرحنا هذا التساؤل لتعزيز الإحساس بالمقدرة وللابتعاد عن اشتراط وانتظار المساعدة والموارد الخارجية لبدء الجهد. وحين بدأنا، ذكر أغلب الحاضرون مواردهم المادية من بيوت وأسطح وسيارات ودراجات وساحة وشارع. وكذلك مواردهم المهاراتية من قدرات في الكتابة والمسرح والخياطة والطهي والزراعة. وكان من المهم لنا أيضا أن يذكروا ويستكشفوا مواردهم الروحية والنفسية فهي التي تدعم استمرار الجهد ، ونجاح الحملة في مواجهة التوترات والتحديات، وهي التي تدمج المتعة والحرية بالعمل. فقيل “الحب مورد” و”الإيمان مورد” و”الشجاعة مورد”. وعلينا الاحتفال بهذه الموارد وألا نخجل من الحديث عنها.
وبعد جلسة الموارد انتقلنا لجلسة الإستراتيجية، وسألنا الجميع: كيف يمكن لنا أن نُسخّر ما لدينا من موارد لنحقق ما نحتاج لإحداث التغيير الذي نريد، ماذا نحتاج ليزيد عدد القارئين في الجبل؟ فنظر الجميع اليّ -كوني متخصصة بتنظيم الحملات- ونظروا للدكتورة هالة حماد المتخصصة في تنمية الطفل مترقبين إجابتنا، لكننا بقين صامتين. توقعوا منا أن نرفدهم بإجابة مثل “يجب ان تحبوا القراءة لتقرأوا فكيف لكم ان تحبوا القراءة؟” أو ” أثبت علميا ان الكتابة تساعد القراءة فربما عليكم الكتابة؟” أو ” درست أن التغيير أسهل بمجموعات فلما لا تشكلوا مجموعات قارئة.؟” ولكنني أصمت (أو للصدق أحاول ان اصمت) لأن ما قرأت وما درست لا يقارن مع معرفتهم الكامنة ولا يساوي الكثير مقابل استنباطهم للاجابات من تجربتهم ومن قصصهم. فيخرجوا الاجابة من ألم وأمل قصتهم الشخصية ومن سهولة وصعوبة تجربتهم الجماعية. فدورنا ينحصر في طرح سؤال “لماذا؟”، لأن ذلك من شأنه أن يطوِّر ويوضِّح الأفكار.
ومن هذا المنطلق خرجت الأمهات بفكرة “6 دقائق علي فنجان قهوة” لأنهم بحاجة ربمّا لرائحة القهوة و حميميّتها ليتغلبوا علي خجلهم من مستوى قراءتهم، وهم باقون في بيوتهم ودون أعباء مادية. وخرج الشباب بفكرة “6 دقائق خليك رايق”. مشوار أو رحلة يستضيف من خلالها الشباب كاتب قرأوا أعماله أو شخصية قارئة ملهمة، وكذلك طوروا صفحة فيسبوك تكثر الحركة عليها مساءً لوضع قراءات “رايقة”. وخرجت مجموعة المكتبيات ب “6 دقائق عرض حكاية”. حكايات مؤلفة من الأهل وأبنائهم تُعرض لأهل الجبل فيها جمال ومتعة وتجسد ابداعهم لشيء جديد . وخرجت مجموعة المعلمات ب “6 دقائق سوا بمحبة” والتي تجمع الأمهات مع المعلمات في الصف لخدمة الابناء. فتأتي الأم لصف ابنتها لتقرأ قصة لمدة 6 دقائق وتغير كل من الأم والمعلمة حكمهما المسبق عن الأخرى وتشتركان بالعمل بمحبة.
هذه هي العبرة الأولى: أهل الحملة لديهم ما يكفي من الامكانيات والحكمة لإنجاح اي جهد. مانحتاجه أحيانا هو استفزاز قوتهم واستنباط المعرفة من تجاربهم و دمج قدراتهم باتجاه هدفهم المشترك.
أما العبرة الثانية التي استخلصتها من حملة ? دقائق فيما يتعلق بالأهل والتي برزت في لقاءنا في الجبل هي : أن قوة أهل الجبل تكمن في كونهم أهل – فهم ليسوا مجموعة فقط بل هم أهل. وبالتالي من المهم أن نفهم ماذا يعني أن يكونوا “أهل” وكيف لدورنا أن يعزز “أهليتهم ” وألا يحولهم لعمال أو أرقام في حملة. وبذلك لا تكتفي الحملة بتحقيق هدفها حول القراءة بل كذلك تحتفي بخلق ورعاية مجموعة أصبحت أكثر أهلاً لبعضهم البعض، وللجبل وللقراءة ولموضوع الحملة القادم. فماذا يتوجب علينا ان نعمل لنعزز كون جماعة حملة ما أكثر أهلاً؟ للإجابة نشارك من التجربة ثلاث محطات:
فأهل تعني التعاطف والمساندة. فتشجيع التعاطف والمساندة بين الناس في الحملة كان ضروريا حتى يكونواأهل لبعضهم البعض وأهل للموضوع. لذلك كان علينا ان نفتح ونحمي تلك المساحة الروحية التي ترعى التعاطف من خلال مشاركة القصة الشخصية والسير في مشوار مشترك، من هنا قدّمت كل واحدةٍ منا دون استثناء جزءاً من روحها بسرد قصتها قبل البدء بأي عمل “ذهني” و تشاركنا في قصصنا وما تحمله في طيّاتها من تجاربٍ تكشف قوتنا ومصادر أملنا أحيانا، وتكشف ضعفنا وإنسانيتنا أحيانا أخرى. فتأتي القصة لتجيب على تساؤل: لماذا نحن هنا اليوم؟ ما هو دافعنا لنكون هنا ؟ كيف أوصلنا مشوار حياتنا إلى هذه المحطة، لنعمل على هذا الموضوع بالذات؟ . من هذا التشارك العاطفي الذي يحكيه أهل الحملة بألم وأمل ، يشّعُ التعاطف في الأجواء، ويلتحم كل فردٍ بقصة الآخرينتمي لها ، ومنها ينسج الجميع قصة مشتركة تشعرهم بالانتماء و بحلاوة أن يكونوا عِزوةً وسندا لكل فرد من أفراد المجموعة .
ولخلق مساحة روحية للتعاطف والمساندة، سعينا لتصميم مشوار يلم أعضاء الحملة معاً، فيه محطات للتوقف واللقاء. ففي الكثير من المبادرات الاخرى تلتقي المجموعة وتتوصل لخطة عمل، فيأخذ كل عضو المهام التي عليه ويمضي بها ويتلاقى الأعضاء في اجتماع بين الفينة والاخرى، ويستمروا شبه منفصلين. أما في حملتنا يختلف الأمر. فإلتزام المجموعة بلقاءها الاسبوعي بيوم وساعة ومكان محدد مهم جداً. فبالنسبة لامهات الحملة هذه المحطة هي تطمين وتأكيد وثقة. وفي كل لقاء تبدأ الامهات اجتماعهن بذات الطريقة “كيف حالنا”. فأحوالنا لها مكان ووقت مخصص بالأجندة. فتجيب كل واحد في الجلسة على هذا التساؤل- كيف كان حالي الاسبوع الماضي وفي هذا استمرار للقصة – فالقصة لا تروى مرة واحدة فحسب بل في كل اسبوع انت تضيف أخبارك ويستمر الاخرين بتعاطفهم معك وكذلك تفتح المساحة للآخرين لمساندتك. فيقل التظاهر بان كل شيء على ما يرام والوضع باحسن حال. وهكذا نصبح كالأهل. تضرب رقية مثلاً وتذكرنا بالمرة التي شاركت أمل فيها زميلاتها بفترة “أخبارنا” بأن زوجها يريد تزويج ابنتها فباشرت بسؤالهم عن رأيهم قائلة “انتوا كمان أهلي وبحِب اسمع رأيكم”. وتتذكر تغريد تدخلها مع زوج إحدى سيدات الحملة الذي لم يسمح لها بالانضمام للحملة فتحدتث معه بذات الطريقة التي يتوسط فيها اخي لي مع ابي. فوضحت له “ان في هذه اللقاءات فائدة لزوجتك ولتعلمها بدلا من ان تذهب لاجتماعات بدون فائدة. وهي كذلك مفيدة لابناءك ليروا امهم قارئة ومثابرة. والاهم ربما انها تعطي زوجتك مساحة للاحساس بذاتها وبامكانياتها”. فيجيبها الزوج “انا أصلاً من الاساس اشجعها على التعلم والقراءة”.
أهل تعني كذلك المكاشفة الصادقة والمساءلة والاحتفال. وهاتان الممارستان هما في صميم احترام الآخر والاستثمار به، إذا مورِستا بمحبة. فقد قمنا بخلق مساحة آمنة للصدق والمكاشفة بثلاث طرق الا وهم : تعزيز التعلم والمساءلة والاحتفال. وضعنا التعلم الدائم أو ربما التفكر الدائم كأساس للعمل الجماعي. ففي نهاية كل جلسة او اجتماع او فعالية ، كنا نخصص ربع ساعة على الأقل للتركيز على تعلمنا: “ماذا تعلمنا اليوم؟ كيف كان لنا أن نحسن؟ بماذا نحتفل؟” ولا نكتفي بالاجابة الأولى فنسأل دائما “لماذا؟” وهذا يفتح مساحة للحديث وللتعامل مع اخفاقات البعض. فنسمع: ”تعلمت أن حشد الالتزام من الآخرين غير كافي يجب ان أحافظ عليه.””كان يجب عليك أن تقومي بكذا وكذا.” وفي أغلب الوقت ينتقد الشخص ذاته فيعفي الآخرين من انتقاده.” ويخلق طقس التعلم هذا نوعا من المساواة بين أعضاء الحملة، فكلنا نتعلم وكلنا نشارك ما تعلمناه اليوم. فتنصهر الفروقات بين الطبيبة والأمية بحيث تتساويان بانفتاحهما على التعلم. وهذا الإحساس بالمساواة كمتعلمات يُمَكّن خريجة الصف السادس من أن تُساءل خريجة الجامعة.
وبالنسبة لتعزيز المساءلة فنحن نتحدث عن المساءلة الأفقية من الشخص للآخر، بغياب وجود علاقة هرمية او سلطوية بينهما. يحاسب أهل الحملة بعضهم بعضاً ، لأنهم ملتزمون بهذا العمل التطوعي معاً. فمن أول لقاء لأهل الحملة وفي بداية المشوار يضعون الأعراف والقواعد التي ستحكم عملهم ويحددون صراحةً كيفية تعاملهم مع اي خرق لهذه الاعراف. وفي العديد من الأحيان يتفقون بان المواجهة والمساءلة أمام المجموعة تكفيان للتأكيد على أعرافنا وعلاج الخرق. ونقوم لاحقاً بتطوير ما نسميه سجل الالتزامات مع أهل الحملة لتسهيل المساءلة الافقية. فالسجل جدول بسيط تملؤه إحدى أعضاء المجموعة خلال اجتماع الفريق موضحة فيه من التزم وبماذا وموعد الانجاز. وفي الاجتماع التالي وبعد “مشاركة أخبارنا وأحوالنا” نتأكد من مراجعة سجل الالتزام لمساءلة بعضنا البعض، وفي هذا صدق ومكاشفة امام الجميع بدلا من القيام بذلك في احاديث جانبية قد تأخذ طابع النميمة.
وحول الاحتفال، تقول ميس “إن جزئية الاحتفال في نهاية كل اجتماع تعزز من قيمة الصفات الايجابية عند الاخرين. فيحتفل عضو الفريق بمهارات زميله في تيسير الاجتماع مثلاً، أو في اسلوب التعاطي مع توتر ما، أو حتى بسلوكات بسيطة مثل الابتسامة. فالاحتفال فرصة لنعي ونثمن تفاصيل لاحظناها عند الاخرين مما يولد ألفة بين الاعضاء. وربما الاهم ان ثقافة عدم الخجل من الاحتفال بالآخر بمحبة هي التي تفتح مساحة للمكاشفة أيضا.
أهل تعني كذلك اللهفة والغيرة الايجابية وبالذات بين أمهات الحملة. فبالنسبة لهم، فالحملة كانت فرصة. فرصة للتعلم وفرصة للعمل، وفرصة للإحساس بالقدرة ، وفرصة للتعبير عن الذات وممارسة القرار. فكان هنالك لهفة على الحملة وعلى اللّمَة وعلى العمل. وبذات الوقت كان هنالك غيرة إيجابية دون حقد او ضغينة بل لتشابه الظروف. وهذه الغيرة ولَدت شعور أكبر بإمكانيتهم. تقول رقية: “سمعت قصة ام عبدالله وتابعت اخبارها- بصراحة قصتها مثل قصتي وهي مثلي واستطاعت ان تعود للدراسة والتحقت بالكلية بعد ان انجبت اربع اولاد وبعد عشر سنين من الزواج. فانا انا إذا بإمكاني ان افعل ذات الشيء”. وبسبب المعرفة الحميمة آمنت رقية بإمكاناتها.تقول رقية “إلهام لاقتنا على الباب ونحن داخلين على بيت جارتها لجلستنا القرائية وتساءلت بصوت عال: “ليش عندها ومش عندي؟”. فهي أيضا تود ان تشارك في الحملة وتستقبل النساء في بيتها مثل رقية. وبالنسبة لنا تثمين هذه اللهفة والغيرة الايجابية وإبرازها ضروري ولا يعنينا إخفاءها حتى لو تسببت ببعض الحرج. مثال آخر على الغيرة الايجابية بين الأطفال. تقول تغريد ان ” ام احد الاولاد جاءت إلى صف ابنها وقرأت للأولاد قصة وفي اليوم التالي اتت أم لولد آخر وقرأت ? دقائق، بينما أم أحمد لم تأتي لان زوجها لا يسمح لها بالخروج من المنزل ،ولاحتى لشراء مستلزمات المنزل. وها هو ابنها يصر على ابيه لغيرته من امهات زملائه ان تأتي امه للمدرسة للقراءة. وفعلا أتت وقرأت والتقت مع المعلمة التي طالما اعتقدت ان ام أحمد غير معنية بتعليم ابنها.”
هذا معنى أن نكون أهل في حملة مجتمعية. وهذا ما نمارسه لنكون جماعة اكثر أهلاً وأكثر ايماناً بقوتنا. فالموضوع ليس تأهيل من خلال التدريب والإعداد وتلقين المعرفة، بل من خلال خلق مساحة آمنة محبة وصادقة مركزين على قصصنا ومستثمرين في علاقاتنا. فأهل في القاموس تعني الإمكان والاستحقاق. فنقول أهل الاختصاص اي المتمكن والقادر في موضوع ما. ونقول أهل الشيء أي الأحق به. وأهل جبل النظيف وأهل حملة ? دقائق هم أهل المقدرة في تحقيق التغيير الذي يريدونه وهم الأحق به.
في منتصف جلستنا في غرفة الاجتماعات الموجودة في مكتبة شمس الجبل في مؤسسة رواد، فجأتنا ريفا ذات التسعة عشر عاما ، بأبيات شعرية بسيطة كتبتها من وحي حوارنا حول الحملة . فقالت:
“أهالينا الذين نأخذ منهم الأمان من كل قلوبهم نحس بالحنان
اعطونا كل شيء بقوة وايمان هم معنا دائما بكل مكان
للأبد على طول العمر وبأي زمان حبهم يكبر في قلوبنا كمان وكمان”
* متخصصة في تنظيم الحملات المجتمعية