د.فيصل القاسم – السبيل/
صحيح أنّ غالبية المواطنين العرب لم يكونوا يعرفون أيّ شيء عما تحتويه دساتير بلادهم، لأن الثقافة الحقوقية تكاد تكون غائبة تماماً في عالمنا العربي، أو مغيّبة قصداً من قبل الأنظمة الحاكمة، فآخر شيء تريده تلك الأنظمة أن يعرف المواطن حقوقه، فما بالك أن يدافع عنها أو يطالب بها. والأمر الآخر أنّ الشعوب نفسها لم تكن تهتم بالدساتير، لأنها كانت تعرف سلفاً أن لا أحد يعمل بها من الرؤساء إلاّ عندما يحتاجونها للإمعان في الاستبداد ودوس الشعوب وتطويل مدة البقاء في الحكم إلى ما شاء الله. بعبارة أخرى، فإنّ الرؤساء العرب كانوا يستخدمون الدساتير كحذاء يلبسونه ويخلعونه متى يريدون لغاياتهم الخاصة فقط. وقد شاهدنا كيف كان رؤساؤنا ينسون الدساتير لعقود وعقود ثم يتذكرونها فجأة عندما يريدون تمرير مراسيم أو قوانين جديدة على هواهم. لا عجب أنّ الأديب السوري الراحل محمد الماغوط اعتبر في إحدى مسرحياته أنّ الدستور قد أكله الحمار على اعتبار أنّ قيمته في حياتنا السياسية لا تساوي قيمة العليق الذي يتناوله الدواب. وحتى لو كان هناك مواد جيدة في بعض الدساتير، فلم تكن مطبّقة على أرض الواقع لأن قوانين الطوارئ كانت تدوس كل القوانين والأعراف الدستورية، وتجعلها مجرد عبارات للاستهلاك اللفظي لا أكثر ولا أقل.
لكن الآن وقد استفاقت الشعوب من كراها، وبدأت تدرك حقوقها، وتنتزعها ببسالة عظيمة من أيدي الطغاة، فقد أصبحت الدساتير مهمة للغاية في الحياة السياسية العربية الجديدة بعد سقوط الديكتاتوريات والطواغيت الذين كانوا يضربون بالدساتير عرض الحائط. لهذا لا بد أن تراقب الشعوب أو على الأقل النخب الثورية والفكرية والثقافية الدساتير التي بدأت تظهر بعد الثورات، وتكشف محتوياتها على الملأ أمام الجماهير وبلغة مبسّطة وواضحة كي تتعرف الشعوب عن كثب عن مجموعة القوانين الجديدة التي دفعت من أجلها دماء وتضحيات غزيرة جداً في ثوراتها المباركة. كما لا يجب أن تصوّت عليها إلاّ بعد أن تقرأها كلمة بكلمة. وحذار وألف حذار أن يتم سوق الشعوب إلى الاقتراع على الدساتير الجديدة بالطريقة الغوغائية القديمة التي كان يسوقها فيها الطواغيت إلى الاستفتاءات الحقيرة، حيث كان الناس يصوتون بنعم بشكل أوتوماتيكي تحت ترهيب كلاب الصيد الذين كانوا يراقبون صناديق الاقتراع، ويجبرونهم على التصويت بالإيجاب للطغاة غصباً عنهم. يجب على الشعوب من الآن أن تدخل إلى غرف التصويت المغلقة وتدلي بأصواتها بسرية تامة، وحذار أن تستسلم للنظرات الإرهابية للمشرفين على الصناديق من كلاب الأجهزة الأمنية وتقوم بالتصويت بنعم، فالزمن الأول تحوّل. إنّه عصر الشعوب وليس عصر الطواغيت وكلاب صيدهم، كما سمّاهم عبد الوهاب البياتي. باختصار، إياكم وألف إياكم أن توافقوا على الدساتير الجديدة إلاّ إذا كنتم مقتنعين تماماً بما تحتويه من مواد. وراقبوا تحديداً المواد التي تمنح الرؤساء صلاحيات تعطيل الدساتير بالقوانين الاستثنائية أو قوانين الطوارئ الحقيرة.
ولا بد للشعوب أيضاً أن تتأكد من المواد الدستورية المتعلقة بصلاحيات الحكام، فمن المعروف أنّ الرئيس العربي كان يمنح نفسه في الدساتير القديمة صلاحيات ومناصب أسطورية قد تصل أحياناً إلى سلطات الآلهة. وحسب أحد الدساتير العربية كان لأحد الرؤساء ثلاثة عشر منصباً لا يحلم بها حتى آلهة الإغريق والهنود والمصريين القدماء. ومن المضحك أنّ الرئيس العربي كان يضع نفسه دائماً فوق المحاسبة حتى لو خان الوطن، فكيف تحاسبه السلطة القضائية، وهي أعلى السلطات، إذا كان هو رئيس مجلس القضاء الأعلى؟
إنّ أول ما ينبغي على المشرعين أن يفعلوه في الدساتير الجديدة تجريد الرؤساء من صلاحياتهم الخرافية، وجعل الأنظمة الجمهورية الجديدة أنظمة برلمانية تكون فيها السلطة الحقيقية للبرلمان، لا للرئاسة كما كان الحال في كل الجمهوريات العربية الساقطة والمتساقطة، ففي الماضي كانت مجالس الشعب مجرد زائدة دودية، أو كما وصفها أحد قادة الثورة المصرية “دورات مياه” يقضي فيها الرؤساء حاجاتهم. أما رؤساء الوزراء فكانوا مجرد موظفين لا حول ولا قوة لهم، ينفّذون توجيهات رئاسية محددة، ناهيك عن أنّ الوزراء لم يكن باستطاعتهم تعيين فرّاش من دون موافقة الأجهزة الأمنية المرتبطة بالرئاسة.
باختصار شديد يجب على الدساتير الجديدة أن تجعل من الرؤساء العرب القادمين محكّمين أكثر منه حكاماً على غرار الملكيات الدستورية. ولا بأس أن يكون الرؤساء الجدد مثل ملكة بريطانيا التي تسود ولا تحكم، لأن الحكم متروك لممثلي الشعب الحقيقيين المتمثلين بأعضاء البرلمان الذين تتشكّل منهم السلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة والسلطة التشريعية المتمثلة بالمجلس الوطني أو مجلس الشعب. والأهم من كل ذلك جعل رئيس الجمهورية قابلاً للمحاكمة وليس فوق القانون، فقد شاهدنا كيف حاكم الفرنسيون رئيسهم المسن جاك شيراك على قليل من الفساد، بينما يتمتع الرؤساء العرب بسلطات تفوق سلطات الملوك والسلاطين في القرون الوسطى، والويل كل الويل لمن يذكرهم بسوء، فما بالك أن يطالب بمحاكمتهم.
لا تستهينوا أبداً بالدساتير الجديدة، ولا تمرروها كما مرر الجزائريون الدستور الأخير الذي لم يكن سوى ضحك على الذقون. حذار وألف حذار أن يحدث للجمهوريات العربية الثائرة ما حدث في الجزائر بعد ثورة التسعينيات، حيث دفع الشعب الجزائري تضحيات جساماً على مدى عقد من الزمان في وجه جنرالات الطغيان، ثم قبل بإصلاحات سطحية أبقته رهناً للمؤسسة العسكرية الطاغية. فليقرأ الجميع تجربة الجزائر قبل تكرارها، كي لا تقولوا لاحقاً: وكأنّك يا بو زيد ما غزيت.