بقلم : حسين الرواشدة /
تفتح محاكمة الجنرال الذهبي الباب واسعاً أمام مراجعات لمرحلة طويلة من التجاوزات والالتباسات التي شهدناها على امتداد السنوات الماضية، وقيمة “المحاكمة” لا تتعلق فقط بالرجل باعتباره واحداً من “رجالات” هذه المرحلة، وانما – ايضا – بمنظومة طويلة من المقررات والاجراءات والمواقف التي افسدت حياتنا العامة, وبقائمة طويلة من “اللاعبين” الذين شاركوا في هذا الافساد.
اذا اتفقنا على ان المحاكمة لا تتعلق “بخطأ” ارتكبه مسؤول مهما كان وزنه وانما بخطأ “مرحلة” ساهم الكثيرون فيها، فان امامنا فرصة نادرة للخروج بوصفة حقيقية للاصلاح المطلوب، اما اذا اعتبرنا ما حدث مناسبة لطي الصفحة واغلاق الملف فهذا سيدخلنا مجدداً في جدل لا ينتهي حول المقاصد والاهداف، والذرائع والمبررات التي دفعتنا الى اختيار الرؤوس وانتقاء الجرائم ومحاسبة البعض وترك الآخرين.
لا نريد بالطبع ان نستبق الاحداث، ولكن بعد اكثر من عام على حراكات الشارع وعلى “انكشاف” الصورة بكل تفاصيلها، وعلى مشهد “الخارج” الذي يثير لدينا مزيدا من القلق، لا بد ان نصارح انفسنا: هل يكفي ما قدمناه من “اصلاحات” ومحاكمات لتطمين الناس على ان ثمة مرحلة جديدة من التحول نحو الديمقراطية ونحو العدالة الاجتماعية، وهل “مؤسساتنا” المالية قادرة على انجاز هذا التحول.. وهل نجحنا في تجاوز سلسلة الازمات المتصاعدة، سواء اتخذت شكل “المطالب” الفئوية ام المطالب الاصلاحية العامة.
الاجابة – بالتأكيد – متاحة، ويمكن ان نطالعها بوضوح في مزاج الناس وحراكاتهم وهواجسهم والاسئلة المعلقة التي تتردد في بلادنا ولم نسمع اي اجابات حاسمة عليها حتى الآن، وبالتالي فان الرهان – فقط – على محاكمة مسؤول مهما كان لاستيعاب “فورة” المطالب والازمات والاحتقانات سيظل خاسراً ما لم نتجاوزه الى “مراجعات” عملية وواقعية تشمل سلسلة الاخطاء التي ارتكبناها والمسؤولين الذين تورطوا فيها، وتنطلق بنا نحو “عهد” جديد، بمقررات جديدة ووجوه جديدة، وخطاب سياسي منسجم مع ارادة الناس ومطالبهم.. واحلامهم ايضاً.
لا يوجد لدى اي مواطن اردني “ثأر” شخصي مع هذا المسؤول أو ذاك، ولا يخطر في بال أي عامل ان تفضي بنا “ازمات” الاصلاح ومخاضاته الى الفوضى، وقد ثبت بأن “المواطن” البسيط الذي قلما يتحدث عن انتمائه ووطنيته وانجازاته هو الاكثر حرصاً على بلده، وخوفاً على استقراره، بعكس الآخرين من بعض المسؤولين الذين ثبت ايضا بأن “مدائحهم” في الوطن ليست اكثر من “مخارج” للتغطية على فسادهم وتجاوزاتهم، وبالتالي فان المحاكمة، لمجرد المحاكمة، ما لم تتلازم مع “محاكمة” عامة لمرحلة ممتدة ومليئة بالاخطاء، ولأشخاص آخرين لعبوا دوراً فيها، ولسياسات “افقرت” الناس واستهترت بارادتهم.. وهذا كله يمكن ان يهيىء الارضية المناسبة لثلاثة استحقاقات: اولاها تحرير المواطن من “الغبن” والظلم الذي يستشعره، وثانيها تطهير الحياة العامة من الاخطاء التي ارتكبت وازاحة المسؤولين عنها، وثالثها بناء توافقات جديدة تتناسب مع مطالب الناس وتلم شملهم وتبعث فيهم الامل والهمة للانخراط في العمل العام بثقة واطمئنان.
وباختصار، لا يمكن بناء مرحلة جديدة على انقاض مرحلة مضت ما لم نبدأ بوضع أساسات جديدة قائمة على المحاسبة الحقيقية والشاملة، وبتغيير المعايير التي اعتمدناها فيما مضى من جهة اختيار الاشخاص او السياسات، وبتطوير قواع اللعبة السياسية بحيث يستعيد المواطن مواطنته وكرامته والعدالة التي افتقدها، ويباشر عمله باعتباره “مواطناً” حقاً لا مجرد فرد من “الرعية”!