السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جراحٌ تلو جراح ، وسيوف تقطِّع أمتي ورماح، وليلٌ دامسٌ رباه هل سيأتي من بعدُ صباح، قد كنتُ أزعمُ أني في ساح الحياة سعيد، كنتُ أزعم أن لا شوكٌ يُدمي قدمي ولن يُكبِّلني يوماً حديد، عفواً أمتي إن صحوتُ يوماً ورأيتُ جسماً دامياً يملأه الصديد.
جراحٌ تتلوها جراح، وسماءٌ تلبدها الرياح، وسلاسل أوثقت فينا كل عزمٍ يبتغي لشمِّ المعالي اجتياح، فلم يعد يجدي العويل ولا النياح، ولم يعد لنا إلا البكاء أو الصياح.
جراح الغربة تنزف من بقاياها دماً وهي تصرخ ألماً فوق أجسادٍ أرواحها من الأخلاق عن قيمها تعرّت، وعن آدميتها تخلّت، وبمهانتها تجلّت، وعن عزتها تولّت، ولجلادها هابت وأجلّت، وعن شريعتها ونهجها ضلّت، وفي دياجير جهلها ظلّت، وفي محراب الفاسدين صلّت، وعلى سفينتها كم من العابثين أقلّت، وعن شق طريقها بين الأمم كم تعبت وملّت.
آهٍ من غربتي في زمن الملاهي والفتن، وآهٍ من حسرتي في زمن المآسي والمحن، تصاغرت الذنوب في أعين الخلق فانحرفوا عن منهج الخالق، لبسوا ثوباً غير ثوبهم باسم التحرر والفكر المستنير وهم والله في غيٍّ مرير، أخذوا من علوم الدنيا الحظ الوافر، وركنوا ما في مافي الكتاب والسنة من علمٍ زاخر، وقعوا على الوحل والطين زاعمين فيهما الحرير واليقطين، لهفي على أمة قيدتها ثقافاتٍ غير ثقافتها فتاهت في بحر متلاطم لبعدها عن قائدها وربّان سفينتها، في أعناقنا إرثٌ تاريخي مليء بالغبار يحتاج لمن أراد أن يسبر أغواره أن يشمّر عن ساعده لينفض عنه ذلك التراب، وبين أيدينا نتاج حقبة من الزمن لن يذكر التاريخ أسوأ منها ولا أسود منها. ليس هذا هو الوضع الطبيعي لنا أبداً، وليست هذه أمة محمدٍ والذي خلق الورى، ليست هذه أمة التوحيد والذي أحيا البرى، هناك شيء قد حصل، وهناك ما من شكٍّ بعض الخلل.
جروح الغربة تئنُّ من شخصية هُمِّشت واضمحلّت في عالم الانفتاح والتمدن بحجة الرقي والانخراط في المجتمعات الأخرى بُغية التعايش السلمي مع الآخرين، وتناسوا أن في ديننا من المبادئ ما لا يمكن معها أن ينصهر في أي ثقافات أخرى مهما كانت، ومهما توغلت وتنوعت وتفرعت اتجاهات تلك الثقافات بين ظهرانينا لأي سببٍ كان، ومهما بلغت تلك الثقافات من رقي زائف فإن ذلك لا يعني التسليم لها والأخذ بها كأحد المسلمات التي يتطلبها العصر.
جروح الغربة يعصرها الأسى عندما تشاهد شباب وشابات حباهم الله نعمة أن يكونوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك تذهب هذه المكرمة الربانية في لحظات عبث شيطانية، مغيبة عن واقعها وعن تاريخها فتراهم شبابٌ قد ترك الأدب والثقافة واتجه إلى المراقص والحانات، شباب علقوا السلاسل والأساور فلم يُعد يُعرف الذكر من العاهر، شباب سهروا الليالي وذرفوا الدموع وأضربوا عن الطعام ليس من أجل الإسلام ولكن من أجل الحب ولوعة الشوق والهيام، تركوا جانباً العلم والدين، وتاهوا بين منعطفات السنين، وأضاعوا الشيشان والأفغان وبغداد وفلسطين، يقضي وقته متنزهاً على أرصفة الشوارع، يلاحق بعينيه الفتاة والأخرى، وعندما يقع في الحبائل يقضي الليل ساهراً باكياً على حب غادر، أو عشق قاهر، يتقلب على الفراش تكسوه الحرقة والكبد، ليس على أقصى أسيراً في القيود، ولا على طفلٍ قتلوه الجنود، ولا على بيتٍ أحرقوه اليهود، ولا على شعبٍ نُفي وقُتِّل وحُرِّق وأهين وشُرِّد وعُذِّب واستباحوا منه الأعراض والحدود.. لا .. أبداً فأولئك ليسوا بالنسبة له إلا خبراً يتناقله الناس وتلوكه الألسن يسمع طرفاً من حديثٍ عابر عن شيء اسمه أقصى ينادي به وبفلسطين وحطين، ويشدو بالفاروق وصلاح الدين، ثم يسوقه الحنين إلى ظلال الزيزفون وماجدولين، تراه يتخبط في حياته، لاهو في المساجد ساجد، ولا هو عن التسكع في الشوارع وارع، تقلبه نفسه حسب شهواتها، فقد السيطرة عليها، فساقته حيث شاءت.
جروح الغربة تتأوه في حرقة وألم عندما ترى في بناتنا اليوم من تشد العباءة على خصرها وتدعي أنها عباءة، وتكشف الصدر من تحت العباءة وتدعي أنها عباءة، تكشف عن ساقيها من تحت العباءة وتدعي أنها عباءة، ولا أدري بعد بروز الشعر والوجه والصدر والخصر والساق أين هي العباءة، نسيت بنات المسلمات وجرت وراء الموضة والصرخات، صرخات أخواتها في القدس تأتي من تمزيق الثياب، وهتك الأعراض، وبقر البطون، وقطع الأثداء، وصرخات من يحسبن أنهن بناتنا، صرخات الموضة والقصات، بونٌ شاسع، وفرق كما بين السماء والأرض، إن كان لها من عمل جبار تعمله، فهي تخرج في مسيرة صاخبة، ولكن خروج الإمعة، لم تجد مكاناً تمضي إليه، فخرجت متسلية، وهي ضاحكة فاغرة، فتراها تردد الشعارات متبرجة، سافرة، ما الفرق بينها وبين من لا هوية لها ولا دين، وما الذي يميزها عن فتاة الهوى والعبث، هل يا ترى ستقول بأنها في علاقاتها رغم ظاهرها أفضل من ملتزمة منقبة، لا والله، ليس الأمر كذلك؛ فلو كان الدين يقاس بما في القلوب وصلاحها فقط لما أتى الإسلام بصلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج ولا حجاب واعتبر الأخلاق أهم من كل ذلك، ولكن الإسلام كُلُّ لا يتجزأ، لا يمكن أن يستقيم فعلٌ بلا قول، ولا يمكن أن يستقيم قولٌ بلا عمل.
جروح الغربة تصرخ بألم فيما يُشاهد أيضاً، ويُرى في التلفاز مما يستوجب معه التوبة والندم، فأن ترى العرايا في بلاد النصارى والغربيين، في الشوارع والمقاهي غادين رائحين، فذلك مما ألفه العقل، ولكن أن ترى ذلك في بلاد المسلمين فعندها يكون الأمر جد هجين، ومستغرب له ومستنكر جداً، ولا تصدقه العين، والعري نوعان، عري الأجساد من لباسها وظهور لحومها ومفاتنها، وعري الفكر والإحساس، والأخير هو امتداد للأول، فعندما تبتذل النفس إلى مستوى من الحضيض يخرجها عن الدين بحجة الموضة والموديرن، ويُنسى أصول الشريعة فهي الطامة المريعة، في البدء كان الحجاب شعار كل فتاة في أي زمان ومكان، التزاماً ينبع من عقيدة كانت جذورها راسخة مهما تغير في الزمان مما يطغى على الحياة الاجتماعية من تغير واختلاف نتيجة السياسة وما تجره على الشعوب والبلدان، فالعقيدة واحدة، والدين واحد، والجذور واحدة، وكان رأس ذلك كله الأخلاق، ومرت السنون والقرون وأتى في آخر الزمان من يدعين المناداة بحقوق الممتهنات من النساء كما يسمينهن جاء من يدعين التنوير والمعرفة بسرائر الأمور من أمثال هدى شعراوي وروز اليوسف ومثيلاتهن ممن قدن المسيرات ولعن الحجاب ورمينهن على التراب.
لربما أن ما نعيشه الآن من واقع أمر يدعو إلى الاشمئزاز والشعور بالضعف والهوان وعدم الرضا أبداً عمَّا نحن فيه، ولولا أننا ننتمي إلى أعظم دين، وإلى أعظم نبي وهو الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لأصابنا من اليأس والعجز والخور والتلاشي والتقوقع والانتهاء ما يصيب أي حضارة كنتيجة طبيعية لهذا التسلسل الذي نمر به، بيد أن في ديننا من المبشرات ما يحفظ لنا عزيمتنا ويبدد الظلام الدامس الذي نراه أمامنا فنحن أمة لا نعرف ما تعنيه كلمة المستقبل القاتم، أو النزع الأخير، أو السقوط الأبدي، مصداقاً لقول الله عزوجل: [كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر] إن ما نمر به الآن ليس وليد اليوم وليس جديداً على هذه الأمة المباركة، فإن الابتلاء فيها وارد؛ كيف لا وقد ابتلي سيد الخلق وأوذي وطُرِد وشُرِّد وحوصر، ولكنه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم دانت له مشارق الأرض ومغاربها؛ وأتمّ الله عليه نوره ونصره الذي وعد، فما جزاء الصبر إلا النصر والظفر.