" الــجـزء الـثــانـي " / 1
27
شهران مرّا كأنهما الدهر .. سارا على مهل .. في كل يومٍ كنت أموت سبعين مرة !
شهران انسلخا من عمري كأي ورقةٍ مُزِقَتْ من كراسةٍ لا تحوي في سطورها شيئاً ..
هل كنت حياً .. نعم ، هل كنت ميتاً .. نعم .. حُطام إنسان وأشلاء قلب ..
وعرفتُ أن الموت ليس النوم في كنف المقابر ..
بل أسوأ أنواع الموت ، ذاك الذي تعيشه في غرفتك وبين أهلك وأنت معدودٌ من الأحياء زوراً !
شهران مرّا كقافلةٍ مثقلة بأحمالها ، تنوء جِمالُها الهزلى بالتعب ، سيرها رتيبٌ أشبهَ بوقوف !
شهران وأنتِ ياسارة حلمٌ لا يفنى في مناماتي ، وطيفٌ يستبد بذاكرتي ، ووجهٌ يبرز في كل وجهٍ أراه .. وصوتٌ أسمعه في كل نبرة !
شهرانِ ما أنا إلا شيخٌ ثمانينيٌ يرفل في العشرين ، ممزقٌ أحاول الثبات أمام أهلي وطلابي وتفضحني عيونٌ تُثرثر بحزني لكل ناظر !
شهران ، كل وقوفي إنحناء و كل بسماتي بكاء ..
حتى مشيتي لم تعد هي مشيتي ، صيّرني الهم محدوب الظهر .. أشعر بحدبةٍ تنام في ظهري وهم لا يشعرون ..
شهران كان الدمع نديم الليل .. وصديق عزلةٍ عدتُ لها جبراً .. عدتُ لها رجلاً أعمى يسير بلا عصى !
قبلكِ يا سارة .. كانت عزلتي باختياري ، تركت المدينة وصخبها خلف ظهري .. مستمتعاً بوقتي ..
بعدكِ ياحلوتي .. ما عادت عزلتي خياراً ، صارت مرضاً نازلاً وإقامةً جبريّة ، بتّ أخشى الناس .. أقرأ في عيونهم حديثاً تكتمه أفواههم !
آه ياسارة .. شهرانِ لا أدري أأنتِ هنا في عاصمة الأشباح ، أم تلقفتكِ ديارٌ جديدة ..
بل أعظم من ذلك .. أأنتِ من الأحياء فأرتجيك ، أم مع الموتى فأبدأ الندب والرثاء حتى أنسى !
شهرانِ مرّا بعدكِ .. بعد غيابك .. كأنما فقد الكون فيها جماله .. كل شيء استحال شبحاً لما كان عليه يوم كُنا معاً !
زرقة السماء و روعة الغيوم وخضرة الأشجار .. كل شيءٍ بَهَتَ في بصري..
أدركت أن الحياة بعد من نحب ، كالعودة لشاشة الأبيض والأسود بعد إعتيادنا البث بالألوان !
وأدركتُ أن شيشرون كان يعنيني حين قال ، أشقى أهل الأرض ، من يحمل ذاكرةً قويّة وذكرياتٍ مرة .
آه سمرايَ البريئة ..
صرختُكِ في أذني قبل شهرين ، في تلك العمارة الكئيبة ، في تلك الليلة الدهماء ..
صرختكِ تلك ، توقظني كل ليلٍ لأبكي ، تأتي كأنها عقاربُ ساعةٍ تدقّ لتقول قُم وابدأ تراتيل الدموع ..
أسمعها الآن ، أسمعها وأنا نائم ، وأسمعها بين ضوضاء طلابي وأسمعها وأنا أصغي لأمي !
" فيييييييييصل " صرختكِ لم تكن أربع حروف ، وضعتِ بعد الصاد ألِفاً ممدودةً كسكينٍ تمزقني..يا لحرف المد الممتد كنصلٍ غادر ..
نطقتيهِ في إسمي دخيلاً خامساً ، هو الآن ما يعبث بملامحي كريشةٍ هوجاء تلطخ لوحة .. كل ما طنّ في أذني تمعّر وجهي وصَمْمتُ أذني أشبه بنوبة صرع !
كان إسمي غريباً يوم اقتادوك من ذاك السلّم المدروج .. يوم صرختِ بإسمي ،
آه لو لم تصرخي .. لكنتُ الآن في حرزٍ من بعض هذا الأذى !
أكان نداءً أم عتاباً .. أكان طلب نجدة .. أكان ندباً وبداية مشاريع الرثاء !
أم هل صدقتِ أني رجلٌ يحميكِ كل مرة !
يا لهواني يومَ رأيتكِ تركبين هودجاً ليس هودجك الأثير ..
كنتِ تتلفتين في الجموع الغاضبةِ بحثاً عن وجهٍ مألوف ، كنتِ بين الغرباء تُقتادين أشبهَ بمجرمة ،
وصوت بكائكِ يركبُ الفضاء محمولاً لسمعي .. يزفه الهواء كشامت !
كنت أراكِ وأخشى أن تقع عينك على وجهي الباكي .. بحثتِ طويلاً ولم يرحم دموعك رجلٌ يصرخُ فيك " اركبي يالله " ..
ولا متطفلون أطلقوا لهواتفهم متعة التصوير ..
كانت فلاشاتهم حريقاً يندلعُ في قلبي .. وأردتُ أن أنطلق فيهم ضرباً لكن كنتُ في قبضةٍ أقسى من الفولاذ ياسارة .. فهل تعذُرين !
آه يا تلك النظرة التي بقيت معي ستين يوماً .. وستبقى معي حتى أموت ، لن يحميني منها رجلٌ قويٌ اسمه النسيان !
يوم دارت عيونكِ في الحشد المخيف ، كأنما تبحثين عني ..
وقبل صعودك تلاقت عينيك بعيني .. وذكرتُ ماجد يوم التقت عينانا أول مرة .. وأردتُ أن أقول لعينيك انصرفي ولكن طال مكوثها في وجهي !
نظرتِ لي وشعرتُ بسؤالكِ يصفعني : أحقاً انتهينا ! أحقاً كنا قبل قليل نستعد لقبلة ! كيف صرنا هكذا يا فيصل كيف صرنا ..
لم ينقذني من عينيكِ إلا لكزةٌ من رجلٍ كان خلفي ، وأردتُ شكره .. كان ملاذاً من عينيك الحزينة .. آه ياعينيك .. كانت جميلةً رغم رعبك !
شهرانِ منذ أُخذنا غيلةً .. منذ هجموا علينا كـ نسخٍ عديدة لعزرائيل ، لكنّ عزرائيل أرحم .. كان سيُنهي كل هذا الجدل ويتركنا للسبات الطويل ، لكنهم لم يفعلوا !
فرقونا حتى في السيارات ياسارة ، وضعوني في سوداء بلون الليل .. ووضعوكِ في حمراء بطعم الدم .. وانطلقوا بنا ..
نحنُ الذين لم نؤذي أحداً منهم .. كل ذنبنا أنّا آمنا بالحب في بلدٍ تكفر به!
نحن الذين جئنا في سيارتي البيضاء .. غادرنا على أخرياتٍ ليست لنا ولم نأتِ بأي منها ..
جئنا لموعدنا كطائرين رفرفا لعشٍ يجمعهم ساعةً من ليل ، وغادرنا لوكرٍ أشبه بكهفٍ في جبلٍ لاتعرفهُ خريطة !
جئنا وكانت يدي تضم يدكِ ياسارة .. و رحنا وأيدينا تضمها أيادٍ خشنةٌ لسنا نعرف أصحابها..
راحوا بنا .. قطعوا الطريق على ليلتنا الموعودة .. اقتادونا دون أن نعرف تهمتنا .. كتبوا خلوةٌ غير شرعية ولم يكتبوا الحب ياسارة ..
اتهمونا بالفجور لم يتهمونا بتهمتنا الحقيقية .. أكنّا فاجرين ولم نعرف ؟!
مضوا بكِ أمام عيني ، اقتادوكِ جبراً ولم يأبه لصرختكِ منهم أحد .. لم يأبهوا لانكساري !
روسوا يقول : الإنسان أرخص سلعةٍ في السوق ، في الرياض ماذا عساه يقول !!
ألم يعرفوا أن لي معكِ أياماً جميلة ..وأحلاماً كبرى..ولي هيبةٌ في قلبك واحترامٌ لم تمحضيه لبعض محارمك حتى !
يظنون أني مجرد ذئب ليس يحملُ شرفاً ولا قلباً ينبضُ عاطفةً ، أهانوني أمامكِ وأنتِ تنظرين لي أشبهَ بعاجز!
نسوا أن الحبيب قريب .. ولهُ بعض كرامة !
لم آبه لنظراتِ الناس، أقسم بالله كنتُ خجلاً من عينيك أنتِ..
مضوا بنا ..كنا قلباً وحيداً وجسداً وحيداً .. شطرونا لنصفين وانطلقوا بنا ..
وارتفعت نداءاتهم اللاسلكية كقابضين على مروّجين لهيروين .. وأردتُ أن أقول روّجنا حباً ليس أكثر وخشيتُ منهم !
وتوقفت سياراتنا أمام أول إشارة ، كانت حمراء كبقعة دم ..كـ دمي ودمك المسفوك غيلة ..
ورأيتُ بين جموع السيارات هودجك الجديد ..وسمعتُ صوت بكائكِ رغم الزجاج ورغم ضوضاء المدينة ..
وبكيتُ في تلك الدقيقة مالم يبكيهِ يعقوب على يوسف أعداد السنين ..
ولم أجد حضناً يحتويني إلا باب السيارة الذي يلاصقني .. رميتُ خدي على نافذته وبكيت وكان يسندني ..
أليس غريباً ياسارة أن يرأف بك حديدٌ ويقسو عليك البشر !
آه ياسارة ..
وامتطوا بنا طرقاتٌ لم نكن نعرفها .. ما عرفنا أننا في يومٍ سنسلكها مع آخرين يقودوننا كأسرى حب .. أسرى حرب !
آه .. لو عرفنا .. آه .. لو كنت عرفت نهايتي وهواني الآن .. لكنتُ قمتُ من طاولة ماجد أول يومٍ جئتِ حاملةً جهازك !
لكنتُ غادرتُ المكان لو كنتُ أعرف أن نهايتي معكِ خذلانك ..
و كنتُ مزقت رواية الأبله ولم أهديها إليك ولم أكتب لك فيها رقماً أودى بكِ في هذه الهودج الأحمر البعيد عن مرآي ..
لو كنت أعرف أن نهايتنا تهمة حب ، وقيودٌ على قلبينا قبل معصمينا ..
لكنتُ نهرتك يوم قلتِ لي " رائعةٌ رواية أحلام هذه " ..وقلت لك " انصرفي " ولم أفرح بحوارك ذاك ..
يا لذاك الحديث البعيد .. أبعد من طيف ابتسامة !
يومها ياسارة .. بكيتُ بينهم مرتين ، عليكِ وعلى نفسي .. وقلتُ دعوها واقتلوني .. وصرخ بي من لستُ أعرفه " اخرس " وخشيتهم ..
أي جبانٍ أنا وأي اختيارٍ لحمايتكِ اخترتي !
سألتهم " ماذا ستفعلون بها " لم أقل ماذا ستفعلون بي .. وفتشتُ في أسمائهم عن قبيلتي ولم أجد إلا الغرباء ..
وأردتُ أن أقول اسألوا إمام مسجدنا و عميد كليتنا و أبناء حارتنا ..
لستُ سيئاً .. ما أنا إلا رجلٌ أعطاهُ الله قلباً فأحب .. وبصراً فعشق .. وأردتُ أن أقول لهم عذبوني واتركوها .. لكني جبان ..
..جبانٌ يا من صرختِ باسمي تطلبين الغوث !
يومها هاتفتُ أخي ، أخبرته بكل شيء .. أعطيتهُ اسمك الرباعيّ .. قلتُ أدركها قبل أن تغرق .. لكنهُ أخي ..
لن يعرف عاطفةً تدب في سويداء قلبي ..لن يعرف إلا عاطفة الأخوّة ، تحرك فوراً لأجلي فقط !
سامحيني ..
ولبثتُ في الغار أياماً ثلاثة .. كنتُ أدعي الله فيها .. " ربّ أدركها .. ربّ إنها حزينةٌ قبلي فلا تزدها بعدي " ونسيتُ أن أدعي لنفسي ..
آه لوتدرين ..أتُراكِ تصدقين ؟ نسيتُ أن أدعي لنفسي ..
واستجوبوني كمن حمل حزاماً ناسفاً ألقوا عليه القبض قبل ممارسة إرهابه ..
أنا الذي كل ذنبي أن حملتُ قلباً محباً .. وعاطفةً بريئة ..
" جلبتُها للحديث " وقهقهوا حولي .. وصرختُ ليتأكدوا أن صوتي ليس عواءً .. لستُ ذئباً غادراً .. ولم يكلفوا أنفسهم أكثر من تجاهل !
آه ياسارة .. أقطعُ الطريق من الرياض إلى الخرج كل صباح .. وتقطعينهُ معي وأنا الذي لم أسمع صوتكِ شهرين كاملين !
وأعودُ ظهراً فتعودين معي .. أحدثكِ كمجنون ، أسوق لكِ الأعذار لكن لستِ تجيبين ..
ألمسُ اسفنجة المقعد المجاور أتحسسكِ أنتِ التي كنتِ هنا قبل شهرين .. أين أنتِ الآن مني !؟
صرتُ مجنوناً يحدث نفسه .. وذكرتُ مجنون ليلى وعرفتُ أن الحب دربٌ للسعادة وعشرون درباً للمهالك والجنون ..
شهرانِ كلما قام طالبٌ تلوحُ على سحنته سمرةٌ خفيفةٌ تشبهكِ سرحتُ عن جوابهِ وذكرتك !
شهرانِ كأن القدر يستمتع بعذابي ، وضع لي في الفصل طالبين ينتهيانِ بذات اسم عائلتك .. صدفةٌ مغلفةٌ بالعذاب ..
أتصدقين .. كنتُ أنطق أسمائهم الثلاثية وأحجم عن نطق عائلتك، كنتُ أخجل منكِ رغم أنكِ لا تسمعي !
في اليوم الثالث زفّ لي البشرى أخي ، جاء ينقذني من غار الأمر بالمعروف !
أدركني قبل أن تحوّل قصتي لهيئة الإدعاء العام وأقضي حكماً نافذاً من قاضٍ لن يؤمن أني شابٌ عاشق لست ذئباً كاسراً ..
وسألته "ماذا بشأن سارة " .. وغضِب مني ودفعني أمامه ..
وخرجتُ من ذاك المكان كخارجٍ من كهف .. كهفٍ أظلم .. وشعرتُ بالشمس تطحن بصري .. وأردتُ أن أسألها عنكِ ولم أعرف لغة الشمس ..
كنت أريد أن أقول لها " هل خرجت سارة ، هل رأيتيها أطلّت من هنا " ! كنتُ في شغلٍ عن نفسي ولم آبه إليّ ..
يومها ، أخبرني أخي أن شيخاً من شيوخ قومي .. حدّثَ شيخاً من شيوخهم .. فأخرجوني غافرين لزلتي ، قابلين شفاعتهُ الحسنة مقيلين لعثرتي ..
ياسارة ، كانوا يحتاجون اتصالاً ساخناً ليصدقوا أني لستُ ذئباً!
وذكرتكِ ياسارة .. وذكرتُ كلمةُ كتمتُها ولم أبدِها لك .. لحاجةٍ في نفس عاشقكِ .. يوم قلت " تعملُ الأسماء أكثر .. في الرياض " !
ومضى بي أخي يخبرني معزياً أن لكل منّا مغامراته ،
وقلتُ له في نفسي " المغامرة هناك ، في تسلق الجبال ومصارعة الأسود والمشي فوق الجمر ، أنا هنا كنتُ محباً لستُ مغامراً "
وأخبرني أن أمري في حرزٍ من الذياع .. ولن يعرف بأمري غيره .. وسألته عنكِ فأخبرني أن كل إنسانٍ لهُ ذووه يذودون عنه ..
وسرَت في قلبي مرارةٌ ليس يدركها أخي ، هل سيرحمك إخوتك وأهلك ، هل سيقولون لكِ كما قال أخي لا تثريب عليك !
هل آذوكِ .. هل أُحيلت أوراقكِ نحو المحاكم يا حلوتي ؟ يا ألله .. أذلكَ الحُسن يدلفُ للمحاكم !
كانوا يقولون لي " تتدرج الإختلاءات ، واختلاؤكم من أشد الإختلاءات تعقيداً " ولم أفهم مايقولون ..
هل ياترى سيصدقون أن جميل يختلي ببثينة ليضع يدها فوق صدره وينام قرير عين ، ماكان عربيداً ولم تكن فاجرة !
وذكرتكِ يوم قلتِ " عدني ان تحب الرياض ، مهما حدث لا تكرهها " وكرهتُ وعدي لك !
أي عاصمةٍ هذه التي سفكت دمي ودمكِ في الأشهر الحرم ، لم تأبه لطفولتنا ولا شقاوتنا البريئة .. أحقاً كنتُ أظنها أماً لي !
كانتْ تواري وجهها عني .. تعرفُ أني غاضبٌ منها .. شعرتُ بها تزور عني .. تتجافى عن عيوني ذات اليمين وذات الشمال ..
آه لو أعرف أبجدية الأمكنة لقلت لها " تباً لكِ يا أماً تقتل أطفالها " !
ولجأتُ لكأسي .. وصرتُ أنهل منه بحثاً عن النسيان يا سارة ..
آه ياسارة .. حتى كأسي الذي أدمنتهُ كلاجيءٍ إليه من عقلي .. كانت صورتكِ تتراقص على سطح مائه !
حتى رائحتكِ تغلبُ رائحته الفاغمة .. وأهذي بكِ في سكرتي كما أهذي في صحوتي .. لجأتُ للشُرب علّ الشُرب يهرس ذاكرتي !
أعبّ كأساً بعد كأسٍ لأنسى .. وتنقضي قنينةٌ بعد أخرى وليس للنسيان نيّة حضور !
وتحمرّ عيني على وقع شُربي .. ويلتهبُ جفنيها على سجائر فهد .. فيسقط الدمع منها مالحاً .. أتلمظهُ فأعرفُ أن عيني دامعة !
لستُ أدري أكانت مهتاجةً من تلبد الدخان فيها ، أو أنني كنتُ أبكي !
ويعزيني فهد ..ولستُ أصغي .. يا للعزاء الرديء " طالما أنك بخير وأمورك انقضت على خير تجاوز الأمر " أتجاوز ماذا ..
هل سمعتِ ياسارة عن رجلٍ أزال قلبه عن جوفه ، وضعهُ على الأرض وطمر فوقه ! أي تجاوزٍ إلا الموت !
أين عشاء الشرفة و موعد المستشفى و فرحتي بكِ في غرفتنا يوم تقابلنا .. كل تلك الساعات من السعادة لا تقارن بألم لحظةٍ من لحظات غيابك !
شهرانِ حتى صلاتي لم أعد أؤديها .. فقدتُ الإتصال الروحي .. فقدت إيماني ..
وجدّفتُ كثيراً وأظنني ألحدتُ سِلباً ، لم أجد إلا صدماتٍ تصرخ فيني بالشكوك في كل شيء !
فقدتكِ و فُضحتِ و وتعذبتُ كثيراً .. رحتُ أسأل نفسي عن جدوى كل شيءٍ كنت أؤديه قبل هواني ..
وكفرتُ بكل شيء .. وآمنتُ بأني أتمرغ في الوحل بعد الوحل حتى صدغ رأسي !
ماهو الإيمان .. لستُ أدري .. لماذا خُلقت .. لستُ أدري .. ماذا بعد موتي .. لستُ أدري .. لمن أشتكي .. لستُ أدري ..
كلما ارتفع صوتُ آذانٍ سألتُ نفسي أسئلةً لا أملك إجابتها .. واقتنعتُ أخيراً أن كل شيءٍ كنتُ أمارسهُ مثار شك ..
وقرأتُ كتباً لم أكن أقرأها .. ووصلتُ لاقتناعٍ تام لو قلتهُ لكِ الآن لغضبتِ ..
آه ياسارة .. تزلزلت الأرض من تحتي ..ثارت براكين قلبي عليكِ حمماً ترتقي لأعلى ، لعقلي ، فيلتهبَ على سخونتها حتى يكاد يهذي !
فقدتُ كل شيء يوم ملكتُ كل شيء .. فقدتكِ يوم عينيكِ التقت بعينيّ وكنا نقتربُ من قبلةٍ دافئة .. حين دبّ البُعد فجأة !
كان طموحي أن أكون معلماً وقاصاً ناجحاً و قريباً من عاصمتي .. وتحقق كل شيءٍ وذهبتِ وذهب معكِ كل شيء ..
وقفتُ أمام بيتكِ أياماً طويلة .. وكانت غرفتك ظلماء كأنما طُليت بحبر .. وسائقكِ يخرجُ كثيراً بدونكِ أنتِ .. وأردتُ سؤاله وخشيتُ أن يشي بكِ ..
لربما لا تنقصكِ فضيحةٌ أخرى فأحجمتُ وابتلعتُ سؤالي كخبزةٍ يابسةٍ يبتلعها طفلٌ جائعٌ فقير..
وحلمتُ بكِ كثيراً .. كان حلماً يتكررُ كل مرة :
تجرينَ خائفةً وشعرك من ورائكِ يرقصُ للهواء .. وأمسكُ بكِ .. وأشعر بأنفاسكِ أسرعَ من طرف عين .. وأسخنَ من خماسين صيف :
سارة توقفي أين تمضين .. وكنتِ ترفعين يدي لأعلى وتنفضينها لأسفل ..وتصرخين دعني فيصل سيمسكوني .. وأسألكِ منهم فلا تجيبين ..
وأصرخُ فيك : لماذا كنتِ حزينةٌ يوم التقينا .. فقط قولي لماذا كان انكسارك قبل أن يدهمونا ..
فتنظرين لي بعينٍ باكية وتواصلين الركض ..وينقطع الحلم !
..لأقوم على كثير دمعي و أنين صوتي و أبكي حتى يحين صباح الخرج فأمضي والنوم كأسٌ لم أشرب إلا ثلثه!
هاتفتها كثيراً .. كانَ الهاتف يصرخ فيني " الهاتف المطلوب مغلق حاول الإتصال مرةً أخرى " .. كنتُ أستمع لهذا التسجيل حتى ينتهي فأقفل !
وقبل اسبوعين ... صرخ بي " تأكد من الرقم الصحيح وشكراً ".. وشعرتُ بشكراً أشبه بكلمةٍ تأتي بعد صفعة .. أي شكرٍ يتقبلهُ المرء حين خيبة !
بعد ليلةٍ ليلاء .. اختلط فيها دمعي بشُربي ، وغاب فيها عقلي كغياب سارة .. وهذيتُ بها جهراً كما أهذي بها سراً في صحوي ..
كنتُ أعود من الخرج كعادتي في القائلة..سارحاً بسارة .. غياب سارة .. غموض سارة .. مصير سارة ..
في منتصف الطريق ،
عند إحدى المحطات البتروليّة،
عند البقّالة المزحومة ،
أمام البائع الذي يتناول مني قيمة قارورة الماء لأجفف ريقي وأعود لأفكر بسارة ..
صاح جوالي بمكالمة رقمٍ لا أعرفه..
بصوتٍ متعب أجبت :
- ألو
- فيصل ؟
كان صوتاً نسائياً ..
- نعم مين معي ..
- انا هيفاء .. هيفاء صديقة سارة ..
يتبع ...