26
السؤال فخ ، إن سألتها فقد أوقعتُ نفسي في الشَرك !
تركتُ حزنها الذي تحاولُ جاهدةً أن تخفيه ، تركتهُ كأني لم ألحظه .. مارستُ معه الهروب ..
كنتُ على مدى أسبوع أحدثها عن الروايات و قصصي و تفاصيل يومي ، أحاول إضفاء المرح ..
وكانت تحاولُ حثيثةً مواكبتي .. لم تفضفض ، لم تشتكِ لي ، لم تحاول حتى أن تستدرجني لهمومها ..
أتحدث ، أضحك ، فإذا افتقدتُ صوتها وسألتها " سارة معي " ، تجيبني بـ " أحبك " !
كانت هذه الحروف الأربعة أفضل ماأعرف في الأبجدية ، وكان تكرار هذه الكلمة يمر على السمع مرور المرة الأولى ..
لكن في هذا الاسبوع .. كانت تخيفني ، نبرتها الأشبه برنة وترٍ حزين ، كان تخيفني أكثر!
غوته يقول : لتسمع إجابةً جميلة اسأل سؤالاً جميلاً ، حسناً ، كنت أعرف أن أسئلةً مثل :
" مابك ؟ تكلمي ؟ فسري لي الأمر " تحملُ ضبابيةً معقدة !
آه ، كنت أتوق لنطق هذه الأسئلة ، لأكون لها سنداً كما كانت لي في كل أمر ،
لإشعارها أني الرجل الذي يُعتمد عليه ، الذي يهتم لأمرها ..
لكن هذه الأسئلة لا تُرمى هكذا وحسب .. هذه بحساب غوته أسئلةٌ ليست جيدة ، تستحق إجابات غير جيدة !
بقيتُ على ضفاف همومها ، تركتها تتأوه عني بعيداً ، أهملتُ انكسارها بأنانيةٍ كنتُ أرتكبها قسراً ..
عرفتُ بحدسي أن السؤال بابٌ يطل على أحد أبواب جهنم ، فتحهُ يعني اندلاع لسانٍ لاهب .. وتركتُ الباب خلف ظهري !
لم يكن هذا القرار خياراً ، كما لم يكن إجباراً .. الأسوأ أنهُ كان مزيجاً من الإثنين ..
ولستُ غبياً لأهاتفها فيجيء صوتها مبحوحاً تعلوه نغمةٌ أشبه بنغمة من يعاني زكاماً .. ثم لا أفهم !
لا، لستُ غبياً ، كان واضحاً بكاؤها لكني كنتُ أتغابى !
صعقها لي بالطلب الأخير " أريد أن أكون معك في أي مكان " ، لم يكن طلباً عادياً ..
" أريد أن أكون معك " طلبٌ مبرر بين حبيبٍ وحبيب ..
"......في أي مكان" ، إضافةٌ لاتنقصني الفطنة لأميز ماذا تعني، ولا تعوزني الفطنة لأفهم ..
أعرف جيداً ما نوعها ، وأعرفُ أنها تنازلٌ عن قناعات كثيرة ..
كانت رغم كل ثقتها ، تخشى أن نلتقي في مكانٍ يخلو إلا منا ، وكنت ألتمس لها العذر تماماً .
كنتُ بعد عشاء "الشرفة " واجهتها مرتين في السوق، ومرةً حين خرجت من مشغلٍ أنيق ،
ومرة في المستشفى حين علمت أنها تزور صديقتها ...
لم تكن لقاءاتنا هذه رسمية ولم تختلي قلوبنا ببعضها ، كانت أشبه بسرقة دقائق من حساب الوقت ، أشبه بمغامرة لذيذة ،
الأغرب ، أن هذه اللقاءات كانت لذتها لا تقل عن بقائنا الطويل في ذلك العشاء السعيد ..
ولا أظن عاشقاً اسكندنافياً يبحر مع عشيقته الصهباء فوق زورقٍ في بحيرة ستورافان بأكثر من قلبينا حبوراً بهكذا لقاءات عابرة ..
في الرياض ، وقت العشاق قليل وأماكن لقاءاتهم مجنونة كجنونهم ،
لكن بحساب المتعة والفرح تأتي أثمن من أي لقاءٍ في أي وطن آخر !
كنت أقول لسارة :
العشاق في الرياض أطفالٌ يريدون أن يلعبوا والكل ينهرهم ، تجدينهم يختلسون دقائق بسيطة حين يغفل الكل ويمارسون لعبتهم المجنونة ..
الحب المغامرة الجنون التشويق التمرد .. كل هذا لن يفهمه أطفالٌ في أوطان أخرى يملكون الحرية لأن يلعبوا متى ما أرادوا ..
هم أطفالٌ يشاركوننا ذات اللهفة والحب ياسارة ، لكنهم لا يشاركوننا جنون المغامرة ..
.. ودقيقة حب في عاصمتنا ، تعدل ساعات في أوطان أخرى !
ووحدها كانت تفهم ما أعنيه حقاً ..
أتذكر جيداً لقاء المستشفى ، أخبرتني أنها ذاهبة لزيارة " منى " صديقتها التي وضعت مولودها ، مستشفى الجامعي !
كانت تتحدثُ لي كأي يومٍ آخر ، تخبرني ماذا ستفعل وأين تذهب ثم أخبرتني ماذا ستهدي لصديقتها ،
وكنتُ ألتقط الخبر كصيدٍ ثمين أو مغامرةٍ مجنونة ...
وقفتُ يومها عند مواقف المدينة الطبية ، سألتها سؤالي المعتاد أين أنتِ ؟ قالت "لست في البيت / ندخل الجامعة" ،
وابتسمت بشيطنة طفل ، وترصدتُ لهودجها .
رأيته يدخل ويتوقف قريباً مني، ثم رأيتها قد نزلت وحدها .. كانت تمشي عبر الممر الضيق الطويل المؤدي لبوابة الدخول ..
كانت تحمل ورداً وشوكولا .. أتيتُ خلفها " تسمحين أساعدك اختي "
وقفت مذهولة ، لكني أخبرتها أن تستمر في المشي معي ولن ينتبه أحد " تحركي يا خبله لا توقفين هه " ومضينا كزوجين !
أوصلتها حتى باب المصعد ، وانتظرتُ أن يخلو بنا دقيقة لكن في كل مرة كان يمتليء .. كان وقت ذروة الزيارة ..
يومها استسلمت وركبنا مع جموع الداخلين ، وكانت تتحلق يدي غير آبهةٍ بأحد ،
ثم تركتها تمضي لقسم الولادة وخرجت ..
أرسلتُ لها وهي عند صديقتها " خسارة ، كان المصعد ممتليء! " و ردت على الفور " عطاك الله على قد نيتك ههه " !
وابتسمت وأنا انصرف .. في الرياض يكفي الأطفال دقائق من اللعب !
..ليلتها ، حدثتني عن جنوني وشغفها بي،
أخبرتني أنها من فرط سعادتها اقترحت على صديقتها تسمية المولود فيصل !
وضحكنا كطفلين معاً ..
هذا كان في أول الصيف ـ يوم كانت البسمة شعارها وشعاري ، وأحاديثنا أطايب لا تُمل ، يوم كنا نتبوأ من جنة الحب حيث نشاء ..
شيءٌ ما اختلف الآن ولست أجهل .. وأعرف أني أجبن من أن أسأل !
أشعر بهواءٍ حار بات يلفح وجوهنا، ليس الصيف !
و تلك النسمة الباردة بدأت تقل رويداً .. وتسربلني الخوف ،
ها هي فاجأتني تطلب مني بإلحاح أن تكون معي في أي مكان ..
ورحت أقلب الأمر في رأسي :
ألم يكن صيفنا فعالية قلب ، ألم نجعل من عاصمتنا سياحةً للحب ؟!
أليس كل ختام للعرض عبارةٌ عن حفل ضخم ..
حسناً ..
لم أتردد :
- في أي مكان ؟
- نعم .
- ..سارة أستطيع تدبر أمر شقة ! موافقة ؟
صمتت طويلاً ، وفكرتُ أنها على وشك الإنفجار فيني غضباً :
وأجابت بذات نبرة الحزن :
- موافقة يافيصل .
* * *
هكذا انتزعت منها هذا الوعد .. لم يكن الأمر صعباً كما توقعت ، بدا لي أنها محطمة للحد الذي لم تعد تبالي أو تفكر !
لم يضمنا من قبل سقفٌ مشترك ، لم ننعزل عن العالم من قبل ..
غرفة المطعم يومها كانت مليئةً بالضجيج الذي يلفنا ،
أن نختلي في غرفة هذا أمرٌ أعرف ماذا يعني وحسبي أنها وافقتْ !
ماذا أريد منها ؟ هل أؤذيها ؟ بالتأكيد لا ..
هل أطبق نظام الفرائس الذي حدثني به فهد ؟ لم يدر في خلدي ..
فقط أردتُ أن نكون لوحدنا طويلاً .. وحينها سأسألها عن كل شيء ،
وإن بكت ستجدني بجوارها لترتمي فوق صدري وتبكي حتى تهيد ..
حتى الجواب ، إن كان مراً .. فسأجدها بجواري لأبكي بين يديها كطفلٍ أتعبهُ الألم .
نعم سأسألها عن حزنها وذبولها .. لن أنتظر حتى تغيب عني فجأة ، أدركتُ إن الإنتظار ليس قراراً !
إن كانت ستذهب من يدي ، فـ لتذكرْني بموعدٍ لن تنساه !
بصمةٌ أطبعها في الذاكرة ، كي لا ترتكب معي الخيانة الأقسى بعد أعوام : النسيان ..
إن كانت ستفلت من يدي ، فـ سقف أمنياتي ينخفض للحد الأدنى :
أن تذكرني دوماً ، أن أحفر نفسي في ذاكرتها طويلاً ..
ولهذا رحتُ أطلب منها بكل جراءة أن تلفنا غرفة ٌ واحدة ..
أحقاً أريد منها فقط أن تتذكرني بهذا الموعد الجريء ؟
وأن أجلبها لمكانٍ معزولٍ إلا منا لأتحدث لها ؟!
أحقاً هذا ما أريده منها ؟ هل أنا الآن أستغل ضعفها وسذاجتها .. واندفاعها في الحب ؟
كنتُ أهرب من سؤالها عن حزنها ، والآن بتّ أهرب من أسئلتي لي ، أنا !
قديماً كنت أستمع المحاضرات والخطب الدينية ، كانوا يحذرون الفتيات من الذئاب البشرية ،
ونظرتُ لوجهي في المرآة ، وسألت نفسي :
هل أنا ذئبٌ بشري الآن ؟!
وأجبت نفسي على الفور ، لا .. أريد فقط الإختلاء بها للحديث ،
ألم يكن جميل يختلي ببثينة كل ليل في مواسم متباعدة ولم يطلها منه سوء ..
ألستُ امتداداً لقبيلةٍ مجنونة في العشق لها تقاليدها العريقة في درء السوء عن المحبوب !
نحنُ العذريين لا نبالي إلا بالحب ، وبمن نحب ،
لا فرق أكنّا بين جموع البشر أم ليس يرصدنا إلا ضوء القمر ..
ثم أسأل نفسي أخرى : أأنا مقتنعٌ بما أقول أم أن شيطاني يمهد لي الطريق!
" إيه ، سأذهب معك "
هكذا وافقتني ، قالتها بإصرار ،كأنها تنطق هذه العبارة من قبيل التحدي و لا أدري تتحدى من ..!
لم أخبر فهد .. وكتمت هي الأمر عن صديقتها هيفاء ..
كأننا تواطئنا أن نحجب هذا الأمر إلا عن قلبينا فقط ..
لن تستوعب هيفاء ثقتها بي .. ولن يستوعب فهد أني أريد الخلوّ بها للتناجي ليس إلا ،
وآخر ما ينقصنا .. أفواه الثرثرة !
* * *
في ليلةٍ غريبة من ليالِ الصيف ..
كانت الرطوبة عالية أو هكذا ظننت .. رائحة المطر أشتمها في الأرجاء دونما هطوله !
حين توقفت سيارتي أمام عمارةٍ في وسط الرياض ، و خرجتُ منها وخرجَت سارة ..
كان المكانُ هادئاً كبيت عقيم !
وكان الظلام يغطينا ويغطي الرياض كبحر .. كأنما نمشي في قعره لسنا نسير على رصيف !
وصعدنا الدرج نتهادى كعريسين . . ووصلنا الشقة رقم 13 .. وفتحتُ الباب ودخلنا !
أخذتها من أحد الأسواق كعادتنا ..
كنتُ سرقت دفتر العائلة الخاص بأخي من درج سيارته ، محمد أشد إخوتي بي شبهاً ..
كان كل شيءٍ يسيرُ كما أريد .. الرياض تساند شجعانها ..
الرياض تحترم شجعانها يا قلبي .. تساعدهم حين يكسرون جمودها الذي فرضه الآخرين عليها !
بواسطة هذا الورقة كنت أستأجر هذه الشقة كمسافر متعب وقف للراحة مع زوجته ..
جنون ؟ لا بأس !
أصعد وتصعد معي ، صوت كعبها يقرع الأرض ليخبرني أني لستُ أحلم وأن جنوني حقيقة ..
لا صوت في الجوار إلا صوت خطواتنا ، كأنما نسير في مكانٍ أحيط بعذاب والناس صرعى ..
آمنت أن الأرض أرضي .. وأن هذه العاصمة كأم ، لهذا لم أعد أرتكب الخوف ..
شيٌ واحد كان يقلقني :
حين أغلق خلفي وخلفها الباب .. أحقاً أريد منها الحديث ؟!
ماذا أريد منها ؟
ثم أعود لوعيي وقلبي .. وأعرف أني لن أخدشها .. وتعرف أني لن أفعل ..
وأنها وردةٌ بين يديّ لن أجعلها تذبل ..
أريد أن أحدثها، نعم هكذا ، و على انفراد عن العالم كله .. نعم على انفراد !
أريد أن أقول لها كل شيء ، وسأشرح لها كل شيء دون أن أجرحها ..
أريد أن أحتويها حين تبكي ..
ثم أعود أسأل :
وماذا بعد الحديث .. هل أريد أكثر ؟!
لم نخبر أحداً من أصدقائنا.. كأننا ندرك كمية العتاب الذي سنتلقاه!
تعرف اكثر مما أعرف اننا نتهوّر ، لكن ما في قلوبنا عصيٌ على الشرح للآخرين ..
ودخلنا وأغلقتُ الباب سريعاً .. أكنتُ أخشى دخول إبليس الذي كان يحدثني وأنا أصعد بها الدرج !
ومشينا نحو غرفتنا!
.. وجلسنا على مقعدين متقابلين .. وكنت أسمع نبض قلبها وتسمع نبض قلبي !
ودفعاً للحديث سألتها : خائفة ؟ هزت رأسها بـ لا ...لكن لم تقلها .
كان وجهها شاحباً تماماً ، ونحيلةٌ للحد الذي خِلتها سمراء أخرى ..
تباً ليدي التي تفضح توتري ، عبثاً استطعت كبح جماح رعشتها، قالت لي ذات مرة : أحب منظر العروق في يدك !
ماهذه الرعشة يايدي ، هل جرى الشيطان في عروقك الآن مجرى الدم وبدأ تحريضك !
كلما أطرقتُ برأسي ظننتنيي في حلم ، و كلما رفعته ، رأيت سارة ثم ازدردت ريقي غير مصدق!
ترتدي بنطلون جينز أسود .. تيشيرت أبيض ، وشعرها منسدلٌ للوراء عليها مسحة حزنٍ جعلتها أشهى !
كانت بسيطة ً جداً لكنها أنيقة للحد الذي ترمي بأبجديتك في التيه وعبثاً تحاول بدأ الحديث معها ..
جلست وقدمت لي مغلفاً أنيقاً .. فتحته وكان يضم درعاً فيه مباركةٌ لي
"مبروك أ.فيصل "
شكرتها .. وبدت بسمتها الشاحبة ، وذكرت ديكنز يوم قال السعادة أهم أدة تجميل ، وأردت أن أقول له حتى الحزن يجعل سارة أجمل !
وجلست أتأملها طويلا ً ..
- سارة أتعلمين لماذا جئت بكِ هنا ؟!
- لماذا
- أريد أن تحدثيني بكل شيء .. كل شيء
- فيصل
- لم أطلب منك ذلك في الهاتف ، أردتُ أن أكون بجوارك حين تتحدثين
أتظنين أني غبي لا أعرف نبرة الحزن في صوتك !؟
- آه يا فيصل .. دعنا عن هذا الحديث الآن ..
جاءت وجلست بجواري .. وضعت رأسها على كتفي ..وهمست لي :
- هل صحيح يافيصل ، أننا الآن نعيش بين هذه الجدران سويةً .. وهذا السقف يغطينا معاً
أخبرني أني لا أحلم .. أرجوك
- لا لستِ تحلمين ، أنظري انا هنا ..
مررتُ يدي على خصلاتها .. ورفَعَتْ عينيها إلي ..
..
- نعم ؟!
- افتح الباب
وفتحته ، ثم لا أدري ماذا حدث ..
آخر ما أستطيع تذكره ،
أن موعدنا امتلأ برائحة المسك ودهن العود ..ورجالٌ غاضبون يسألوني في حزم !
وعرفتُ أني أقل من حماية أنثى أحبها ..
وعرفت أن الرياض تمهل شجعانها ولا تهملهم !
وسمعت سارة تصرخ باسمي .. وبكيتْ ..
وذكرتُ حزنها ومصيري و مصيرها .. وبكيت أكثر ..
كنت أضع قميصي فوق رأسي والناس ينظرون .. وأصم أذني عن صراخ حبيبتي .. كان يخترق سمعي !
ورحت أبكي ..
وانطلقت كل سيارةٍ بقلب .. نحن القلبان الذين جئنا في سيارةٍ واحدة معاً !
ولمحتها في هودجٍ احمر ، ليس الفيرانيّ الذي أحب ..
وانهارت أحلامي و بكيت ..
أردت أن أصرخ في الجميع أحبها لم أؤذيها .. كل مابيننا حب، ولكن لن يصغوا وسيظنوني كأي ذئبٍ مفترس .
صرختها بإسمي شقت أذني .. وكنت أقل من أن تطلب نجدتي ..
وبكيت أكثر ..
وأخذت ارقب الأرصفة والشوارع وهي تمر بسرعة ، وشتمت الرياض وشتمت نفسي .. وذكرت سارة وحزن سارة وبكيت أكثر ..
لم يرحمني أحد ..ولن يرحمها أحد ،
لو عرفتُ أني سأكون في هذه السيارة الغريبة كعاجز عن دفع الأذى والفضيحة عن محبوبته ،
لو حسبت حساب أمري هذا ..
كنت أحضرت سم الزرنيخ معي .. وابتلعته الآن ، أي هوانٍ كنتُ فيه وأنتِ تصرخين بإسمي وأعجز عن إجابة !
ورأيتُ الرياض على حقيقتها وأنا مكومٌ في الخلف بين اثنين لا أعرفهم .. وعرفت أنها تخاتل العشاق ولا ترحمهم ..
وشعرتُ بها هازئةً بحزني ..
وعرفت ان الرياض مدينة لا ترحم عشاقها .. بل تسفكهم على قوارع طرقاتها ..
وأنها لا تشجع المتمردين على كسر خصوصيةٍ كنت أظنها لا تُريدها .. بل كانت تؤمن بخصوصيتها وتعاقب المتطاولين عليها !
ورأيتُ الأرصفة والبنايات والسيارات المتكدسة في الشوارع كلها تلوك إسمي، كانت تمر سريعاً أمام عيني ..
وأغمضتُ عيني..وقلت ليت الحياة كابوسٌ نُفيق منه فجأة .. وفتحتُ عيني .. وعرفتُ أني انتهيت ..
لماذا لم أنتبه لرائحة المطر الموحشة هذا المساء .. كان نذير خيبة ..
ولماذا لم أقرأ رقم الغرفة جيداً " 13 " كان رقم الشؤم عالمياً
لماذا حين كنت قريباً من سارة حد القُبلة ، دب البعد فجأة ! يالسخرية الرياض
ورحت أبكي .. وأعادت ذاكرتي اللعينة صوت صرختها بإسمي .. صرختها الخائفة .. وعجزي عن إنقاذها من حريقٍ سيندلع في سُمعتها ..
وبكيت أكثر ، لم يواسيني أحد ..
من وشى بي ، متى تبعوني .. لست أدري..
كانوا يرددون من حولي كلمةً أدمتني، يكتبونها في أوراق تخصني وتخصها ،
وأعرف أنها لن تنتهي عند لحظة حزني هذه :
خلوة .. خلوة غير شرعية !
السؤال فخ ، إن سألتها فقد أوقعتُ نفسي في الشَرك !
تركتُ حزنها الذي تحاولُ جاهدةً أن تخفيه ، تركتهُ كأني لم ألحظه .. مارستُ معه الهروب ..
كنتُ على مدى أسبوع أحدثها عن الروايات و قصصي و تفاصيل يومي ، أحاول إضفاء المرح ..
وكانت تحاولُ حثيثةً مواكبتي .. لم تفضفض ، لم تشتكِ لي ، لم تحاول حتى أن تستدرجني لهمومها ..
أتحدث ، أضحك ، فإذا افتقدتُ صوتها وسألتها " سارة معي " ، تجيبني بـ " أحبك " !
كانت هذه الحروف الأربعة أفضل ماأعرف في الأبجدية ، وكان تكرار هذه الكلمة يمر على السمع مرور المرة الأولى ..
لكن في هذا الاسبوع .. كانت تخيفني ، نبرتها الأشبه برنة وترٍ حزين ، كان تخيفني أكثر!
غوته يقول : لتسمع إجابةً جميلة اسأل سؤالاً جميلاً ، حسناً ، كنت أعرف أن أسئلةً مثل :
" مابك ؟ تكلمي ؟ فسري لي الأمر " تحملُ ضبابيةً معقدة !
آه ، كنت أتوق لنطق هذه الأسئلة ، لأكون لها سنداً كما كانت لي في كل أمر ،
لإشعارها أني الرجل الذي يُعتمد عليه ، الذي يهتم لأمرها ..
لكن هذه الأسئلة لا تُرمى هكذا وحسب .. هذه بحساب غوته أسئلةٌ ليست جيدة ، تستحق إجابات غير جيدة !
بقيتُ على ضفاف همومها ، تركتها تتأوه عني بعيداً ، أهملتُ انكسارها بأنانيةٍ كنتُ أرتكبها قسراً ..
عرفتُ بحدسي أن السؤال بابٌ يطل على أحد أبواب جهنم ، فتحهُ يعني اندلاع لسانٍ لاهب .. وتركتُ الباب خلف ظهري !
لم يكن هذا القرار خياراً ، كما لم يكن إجباراً .. الأسوأ أنهُ كان مزيجاً من الإثنين ..
ولستُ غبياً لأهاتفها فيجيء صوتها مبحوحاً تعلوه نغمةٌ أشبه بنغمة من يعاني زكاماً .. ثم لا أفهم !
لا، لستُ غبياً ، كان واضحاً بكاؤها لكني كنتُ أتغابى !
صعقها لي بالطلب الأخير " أريد أن أكون معك في أي مكان " ، لم يكن طلباً عادياً ..
" أريد أن أكون معك " طلبٌ مبرر بين حبيبٍ وحبيب ..
"......في أي مكان" ، إضافةٌ لاتنقصني الفطنة لأميز ماذا تعني، ولا تعوزني الفطنة لأفهم ..
أعرف جيداً ما نوعها ، وأعرفُ أنها تنازلٌ عن قناعات كثيرة ..
كانت رغم كل ثقتها ، تخشى أن نلتقي في مكانٍ يخلو إلا منا ، وكنت ألتمس لها العذر تماماً .
كنتُ بعد عشاء "الشرفة " واجهتها مرتين في السوق، ومرةً حين خرجت من مشغلٍ أنيق ،
ومرة في المستشفى حين علمت أنها تزور صديقتها ...
لم تكن لقاءاتنا هذه رسمية ولم تختلي قلوبنا ببعضها ، كانت أشبه بسرقة دقائق من حساب الوقت ، أشبه بمغامرة لذيذة ،
الأغرب ، أن هذه اللقاءات كانت لذتها لا تقل عن بقائنا الطويل في ذلك العشاء السعيد ..
ولا أظن عاشقاً اسكندنافياً يبحر مع عشيقته الصهباء فوق زورقٍ في بحيرة ستورافان بأكثر من قلبينا حبوراً بهكذا لقاءات عابرة ..
في الرياض ، وقت العشاق قليل وأماكن لقاءاتهم مجنونة كجنونهم ،
لكن بحساب المتعة والفرح تأتي أثمن من أي لقاءٍ في أي وطن آخر !
كنت أقول لسارة :
العشاق في الرياض أطفالٌ يريدون أن يلعبوا والكل ينهرهم ، تجدينهم يختلسون دقائق بسيطة حين يغفل الكل ويمارسون لعبتهم المجنونة ..
الحب المغامرة الجنون التشويق التمرد .. كل هذا لن يفهمه أطفالٌ في أوطان أخرى يملكون الحرية لأن يلعبوا متى ما أرادوا ..
هم أطفالٌ يشاركوننا ذات اللهفة والحب ياسارة ، لكنهم لا يشاركوننا جنون المغامرة ..
.. ودقيقة حب في عاصمتنا ، تعدل ساعات في أوطان أخرى !
ووحدها كانت تفهم ما أعنيه حقاً ..
أتذكر جيداً لقاء المستشفى ، أخبرتني أنها ذاهبة لزيارة " منى " صديقتها التي وضعت مولودها ، مستشفى الجامعي !
كانت تتحدثُ لي كأي يومٍ آخر ، تخبرني ماذا ستفعل وأين تذهب ثم أخبرتني ماذا ستهدي لصديقتها ،
وكنتُ ألتقط الخبر كصيدٍ ثمين أو مغامرةٍ مجنونة ...
وقفتُ يومها عند مواقف المدينة الطبية ، سألتها سؤالي المعتاد أين أنتِ ؟ قالت "لست في البيت / ندخل الجامعة" ،
وابتسمت بشيطنة طفل ، وترصدتُ لهودجها .
رأيته يدخل ويتوقف قريباً مني، ثم رأيتها قد نزلت وحدها .. كانت تمشي عبر الممر الضيق الطويل المؤدي لبوابة الدخول ..
كانت تحمل ورداً وشوكولا .. أتيتُ خلفها " تسمحين أساعدك اختي "
وقفت مذهولة ، لكني أخبرتها أن تستمر في المشي معي ولن ينتبه أحد " تحركي يا خبله لا توقفين هه " ومضينا كزوجين !
أوصلتها حتى باب المصعد ، وانتظرتُ أن يخلو بنا دقيقة لكن في كل مرة كان يمتليء .. كان وقت ذروة الزيارة ..
يومها استسلمت وركبنا مع جموع الداخلين ، وكانت تتحلق يدي غير آبهةٍ بأحد ،
ثم تركتها تمضي لقسم الولادة وخرجت ..
أرسلتُ لها وهي عند صديقتها " خسارة ، كان المصعد ممتليء! " و ردت على الفور " عطاك الله على قد نيتك ههه " !
وابتسمت وأنا انصرف .. في الرياض يكفي الأطفال دقائق من اللعب !
..ليلتها ، حدثتني عن جنوني وشغفها بي،
أخبرتني أنها من فرط سعادتها اقترحت على صديقتها تسمية المولود فيصل !
وضحكنا كطفلين معاً ..
هذا كان في أول الصيف ـ يوم كانت البسمة شعارها وشعاري ، وأحاديثنا أطايب لا تُمل ، يوم كنا نتبوأ من جنة الحب حيث نشاء ..
شيءٌ ما اختلف الآن ولست أجهل .. وأعرف أني أجبن من أن أسأل !
أشعر بهواءٍ حار بات يلفح وجوهنا، ليس الصيف !
و تلك النسمة الباردة بدأت تقل رويداً .. وتسربلني الخوف ،
ها هي فاجأتني تطلب مني بإلحاح أن تكون معي في أي مكان ..
ورحت أقلب الأمر في رأسي :
ألم يكن صيفنا فعالية قلب ، ألم نجعل من عاصمتنا سياحةً للحب ؟!
أليس كل ختام للعرض عبارةٌ عن حفل ضخم ..
حسناً ..
لم أتردد :
- في أي مكان ؟
- نعم .
- ..سارة أستطيع تدبر أمر شقة ! موافقة ؟
صمتت طويلاً ، وفكرتُ أنها على وشك الإنفجار فيني غضباً :
وأجابت بذات نبرة الحزن :
- موافقة يافيصل .
* * *
هكذا انتزعت منها هذا الوعد .. لم يكن الأمر صعباً كما توقعت ، بدا لي أنها محطمة للحد الذي لم تعد تبالي أو تفكر !
لم يضمنا من قبل سقفٌ مشترك ، لم ننعزل عن العالم من قبل ..
غرفة المطعم يومها كانت مليئةً بالضجيج الذي يلفنا ،
أن نختلي في غرفة هذا أمرٌ أعرف ماذا يعني وحسبي أنها وافقتْ !
ماذا أريد منها ؟ هل أؤذيها ؟ بالتأكيد لا ..
هل أطبق نظام الفرائس الذي حدثني به فهد ؟ لم يدر في خلدي ..
فقط أردتُ أن نكون لوحدنا طويلاً .. وحينها سأسألها عن كل شيء ،
وإن بكت ستجدني بجوارها لترتمي فوق صدري وتبكي حتى تهيد ..
حتى الجواب ، إن كان مراً .. فسأجدها بجواري لأبكي بين يديها كطفلٍ أتعبهُ الألم .
نعم سأسألها عن حزنها وذبولها .. لن أنتظر حتى تغيب عني فجأة ، أدركتُ إن الإنتظار ليس قراراً !
إن كانت ستذهب من يدي ، فـ لتذكرْني بموعدٍ لن تنساه !
بصمةٌ أطبعها في الذاكرة ، كي لا ترتكب معي الخيانة الأقسى بعد أعوام : النسيان ..
إن كانت ستفلت من يدي ، فـ سقف أمنياتي ينخفض للحد الأدنى :
أن تذكرني دوماً ، أن أحفر نفسي في ذاكرتها طويلاً ..
ولهذا رحتُ أطلب منها بكل جراءة أن تلفنا غرفة ٌ واحدة ..
أحقاً أريد منها فقط أن تتذكرني بهذا الموعد الجريء ؟
وأن أجلبها لمكانٍ معزولٍ إلا منا لأتحدث لها ؟!
أحقاً هذا ما أريده منها ؟ هل أنا الآن أستغل ضعفها وسذاجتها .. واندفاعها في الحب ؟
كنتُ أهرب من سؤالها عن حزنها ، والآن بتّ أهرب من أسئلتي لي ، أنا !
قديماً كنت أستمع المحاضرات والخطب الدينية ، كانوا يحذرون الفتيات من الذئاب البشرية ،
ونظرتُ لوجهي في المرآة ، وسألت نفسي :
هل أنا ذئبٌ بشري الآن ؟!
وأجبت نفسي على الفور ، لا .. أريد فقط الإختلاء بها للحديث ،
ألم يكن جميل يختلي ببثينة كل ليل في مواسم متباعدة ولم يطلها منه سوء ..
ألستُ امتداداً لقبيلةٍ مجنونة في العشق لها تقاليدها العريقة في درء السوء عن المحبوب !
نحنُ العذريين لا نبالي إلا بالحب ، وبمن نحب ،
لا فرق أكنّا بين جموع البشر أم ليس يرصدنا إلا ضوء القمر ..
ثم أسأل نفسي أخرى : أأنا مقتنعٌ بما أقول أم أن شيطاني يمهد لي الطريق!
" إيه ، سأذهب معك "
هكذا وافقتني ، قالتها بإصرار ،كأنها تنطق هذه العبارة من قبيل التحدي و لا أدري تتحدى من ..!
لم أخبر فهد .. وكتمت هي الأمر عن صديقتها هيفاء ..
كأننا تواطئنا أن نحجب هذا الأمر إلا عن قلبينا فقط ..
لن تستوعب هيفاء ثقتها بي .. ولن يستوعب فهد أني أريد الخلوّ بها للتناجي ليس إلا ،
وآخر ما ينقصنا .. أفواه الثرثرة !
* * *
في ليلةٍ غريبة من ليالِ الصيف ..
كانت الرطوبة عالية أو هكذا ظننت .. رائحة المطر أشتمها في الأرجاء دونما هطوله !
حين توقفت سيارتي أمام عمارةٍ في وسط الرياض ، و خرجتُ منها وخرجَت سارة ..
كان المكانُ هادئاً كبيت عقيم !
وكان الظلام يغطينا ويغطي الرياض كبحر .. كأنما نمشي في قعره لسنا نسير على رصيف !
وصعدنا الدرج نتهادى كعريسين . . ووصلنا الشقة رقم 13 .. وفتحتُ الباب ودخلنا !
أخذتها من أحد الأسواق كعادتنا ..
كنتُ سرقت دفتر العائلة الخاص بأخي من درج سيارته ، محمد أشد إخوتي بي شبهاً ..
كان كل شيءٍ يسيرُ كما أريد .. الرياض تساند شجعانها ..
الرياض تحترم شجعانها يا قلبي .. تساعدهم حين يكسرون جمودها الذي فرضه الآخرين عليها !
بواسطة هذا الورقة كنت أستأجر هذه الشقة كمسافر متعب وقف للراحة مع زوجته ..
جنون ؟ لا بأس !
أصعد وتصعد معي ، صوت كعبها يقرع الأرض ليخبرني أني لستُ أحلم وأن جنوني حقيقة ..
لا صوت في الجوار إلا صوت خطواتنا ، كأنما نسير في مكانٍ أحيط بعذاب والناس صرعى ..
آمنت أن الأرض أرضي .. وأن هذه العاصمة كأم ، لهذا لم أعد أرتكب الخوف ..
شيٌ واحد كان يقلقني :
حين أغلق خلفي وخلفها الباب .. أحقاً أريد منها الحديث ؟!
ماذا أريد منها ؟
ثم أعود لوعيي وقلبي .. وأعرف أني لن أخدشها .. وتعرف أني لن أفعل ..
وأنها وردةٌ بين يديّ لن أجعلها تذبل ..
أريد أن أحدثها، نعم هكذا ، و على انفراد عن العالم كله .. نعم على انفراد !
أريد أن أقول لها كل شيء ، وسأشرح لها كل شيء دون أن أجرحها ..
أريد أن أحتويها حين تبكي ..
ثم أعود أسأل :
وماذا بعد الحديث .. هل أريد أكثر ؟!
لم نخبر أحداً من أصدقائنا.. كأننا ندرك كمية العتاب الذي سنتلقاه!
تعرف اكثر مما أعرف اننا نتهوّر ، لكن ما في قلوبنا عصيٌ على الشرح للآخرين ..
ودخلنا وأغلقتُ الباب سريعاً .. أكنتُ أخشى دخول إبليس الذي كان يحدثني وأنا أصعد بها الدرج !
ومشينا نحو غرفتنا!
.. وجلسنا على مقعدين متقابلين .. وكنت أسمع نبض قلبها وتسمع نبض قلبي !
ودفعاً للحديث سألتها : خائفة ؟ هزت رأسها بـ لا ...لكن لم تقلها .
كان وجهها شاحباً تماماً ، ونحيلةٌ للحد الذي خِلتها سمراء أخرى ..
تباً ليدي التي تفضح توتري ، عبثاً استطعت كبح جماح رعشتها، قالت لي ذات مرة : أحب منظر العروق في يدك !
ماهذه الرعشة يايدي ، هل جرى الشيطان في عروقك الآن مجرى الدم وبدأ تحريضك !
كلما أطرقتُ برأسي ظننتنيي في حلم ، و كلما رفعته ، رأيت سارة ثم ازدردت ريقي غير مصدق!
ترتدي بنطلون جينز أسود .. تيشيرت أبيض ، وشعرها منسدلٌ للوراء عليها مسحة حزنٍ جعلتها أشهى !
كانت بسيطة ً جداً لكنها أنيقة للحد الذي ترمي بأبجديتك في التيه وعبثاً تحاول بدأ الحديث معها ..
جلست وقدمت لي مغلفاً أنيقاً .. فتحته وكان يضم درعاً فيه مباركةٌ لي
"مبروك أ.فيصل "
شكرتها .. وبدت بسمتها الشاحبة ، وذكرت ديكنز يوم قال السعادة أهم أدة تجميل ، وأردت أن أقول له حتى الحزن يجعل سارة أجمل !
وجلست أتأملها طويلا ً ..
- سارة أتعلمين لماذا جئت بكِ هنا ؟!
- لماذا
- أريد أن تحدثيني بكل شيء .. كل شيء
- فيصل
- لم أطلب منك ذلك في الهاتف ، أردتُ أن أكون بجوارك حين تتحدثين
أتظنين أني غبي لا أعرف نبرة الحزن في صوتك !؟
- آه يا فيصل .. دعنا عن هذا الحديث الآن ..
جاءت وجلست بجواري .. وضعت رأسها على كتفي ..وهمست لي :
- هل صحيح يافيصل ، أننا الآن نعيش بين هذه الجدران سويةً .. وهذا السقف يغطينا معاً
أخبرني أني لا أحلم .. أرجوك
- لا لستِ تحلمين ، أنظري انا هنا ..
مررتُ يدي على خصلاتها .. ورفَعَتْ عينيها إلي ..
..
- نعم ؟!
- افتح الباب
وفتحته ، ثم لا أدري ماذا حدث ..
آخر ما أستطيع تذكره ،
أن موعدنا امتلأ برائحة المسك ودهن العود ..ورجالٌ غاضبون يسألوني في حزم !
وعرفتُ أني أقل من حماية أنثى أحبها ..
وعرفت أن الرياض تمهل شجعانها ولا تهملهم !
وسمعت سارة تصرخ باسمي .. وبكيتْ ..
وذكرتُ حزنها ومصيري و مصيرها .. وبكيت أكثر ..
كنت أضع قميصي فوق رأسي والناس ينظرون .. وأصم أذني عن صراخ حبيبتي .. كان يخترق سمعي !
ورحت أبكي ..
وانطلقت كل سيارةٍ بقلب .. نحن القلبان الذين جئنا في سيارةٍ واحدة معاً !
ولمحتها في هودجٍ احمر ، ليس الفيرانيّ الذي أحب ..
وانهارت أحلامي و بكيت ..
أردت أن أصرخ في الجميع أحبها لم أؤذيها .. كل مابيننا حب، ولكن لن يصغوا وسيظنوني كأي ذئبٍ مفترس .
صرختها بإسمي شقت أذني .. وكنت أقل من أن تطلب نجدتي ..
وبكيت أكثر ..
وأخذت ارقب الأرصفة والشوارع وهي تمر بسرعة ، وشتمت الرياض وشتمت نفسي .. وذكرت سارة وحزن سارة وبكيت أكثر ..
لم يرحمني أحد ..ولن يرحمها أحد ،
لو عرفتُ أني سأكون في هذه السيارة الغريبة كعاجز عن دفع الأذى والفضيحة عن محبوبته ،
لو حسبت حساب أمري هذا ..
كنت أحضرت سم الزرنيخ معي .. وابتلعته الآن ، أي هوانٍ كنتُ فيه وأنتِ تصرخين بإسمي وأعجز عن إجابة !
ورأيتُ الرياض على حقيقتها وأنا مكومٌ في الخلف بين اثنين لا أعرفهم .. وعرفت أنها تخاتل العشاق ولا ترحمهم ..
وشعرتُ بها هازئةً بحزني ..
وعرفت ان الرياض مدينة لا ترحم عشاقها .. بل تسفكهم على قوارع طرقاتها ..
وأنها لا تشجع المتمردين على كسر خصوصيةٍ كنت أظنها لا تُريدها .. بل كانت تؤمن بخصوصيتها وتعاقب المتطاولين عليها !
ورأيتُ الأرصفة والبنايات والسيارات المتكدسة في الشوارع كلها تلوك إسمي، كانت تمر سريعاً أمام عيني ..
وأغمضتُ عيني..وقلت ليت الحياة كابوسٌ نُفيق منه فجأة .. وفتحتُ عيني .. وعرفتُ أني انتهيت ..
لماذا لم أنتبه لرائحة المطر الموحشة هذا المساء .. كان نذير خيبة ..
ولماذا لم أقرأ رقم الغرفة جيداً " 13 " كان رقم الشؤم عالمياً
لماذا حين كنت قريباً من سارة حد القُبلة ، دب البعد فجأة ! يالسخرية الرياض
ورحت أبكي .. وأعادت ذاكرتي اللعينة صوت صرختها بإسمي .. صرختها الخائفة .. وعجزي عن إنقاذها من حريقٍ سيندلع في سُمعتها ..
وبكيت أكثر ، لم يواسيني أحد ..
من وشى بي ، متى تبعوني .. لست أدري..
كانوا يرددون من حولي كلمةً أدمتني، يكتبونها في أوراق تخصني وتخصها ،
وأعرف أنها لن تنتهي عند لحظة حزني هذه :
خلوة .. خلوة غير شرعية !