21
ها هي شمس اليوم الثالث من القطيعة تدنو للمغيب ، عدتُ لعزلتي مجبراً غير مختار ،
أضعُ يدي خلف رأسي وأتمدد في سريري رانياً للسقف أشبهَ بمحنط !
لم أهاتف سارة منذ خصامنا يوم الجمعة ، لم تتصل ، ولم أعد للشقة منذ اشتباكي مع فهد ... وتغيبتُ عن الكلية هذا اليوم !
أنظر للتقويم مكتوباً عليه " الاثنين " : أي اثنين !؟ ما أنا إلا واحد !
صوتي بلعهُ الصمت ، نظراتي باتت ذابلةً جراء نومي المتقطع ،
كل ماتقلبتُ في نومي ذكرت سارة ورفعتُ الهاتف أبحث عن مكالماتٍ لم يرد عليها فلا أجد !
شككتُ حتى في أمر هاتفي ، ربما فُصِلت عنه الخدمة .. ربما لا يستقبلُ المكالمات لخللٍ فيه ..
أتصلُ من هاتف بيتنا على رقمي وحين يعلو رنينهُ ألعن حظي !
غضِبَتْ مني وباتت مصدومةً فيني ، بالتأكيد تبخر حلمي الذي توقعتهُ قد صار في قبضتي .
لماذا أهنتها ؟ لماذا أخذني الحماسُ لعاداتٍ أرفضها !؟ لماذا استيقظتْ عصبيّتي فجأة .. وأنا الذي كنتُ أدين كل أشكال التفاخر والتعصب !
الإهانة أسوأ ما نوجهه لشخص ، هي صفعةٌ على الخد ينفذها اللسان !
تستحيلُ الحروف وابلاً من الرصاص أشد أحياناً من رصاص الأسلحة ..
أتذكرُ براءتها معي ، شوقها لي، فرحتها بصوتي حين يجيء عبر الهاتف ، وأشفقُ عليها مما سببتهُ من ألم .. بالتأكيد تألمتْ !
مسكينة ، كانتْ تشجعني وتحتفي بي ، صوتها هتوفٌ بإطراء قصصي ، كانت تسألني حتى عن بحثي وماذا أنجزت فيه ، أطيبَ من أن أُسمعها ما تكره !
لماذا فعلتها ؟!
حين كنت أُهاتفها كانت تحلّفني كطفل : هل انتهيتَ من مذاكرتك ؟ كانت كأم ، وكنتُ أحلف لها مستغرباً ...
فـ تقول أخشى أن أكون عائقاً لتحصيلك ، وإلا فالشوق الذي في داخلي أكبر مما لديك !
لماذا كنت حاد النبرة معها !؟ لماذا شككتُ في أخلاقها .. لماذا ؟!
ربما الآن هي تبكي ، بالتأكيد صدمتُها ، نعم ، من السخف تلطيف الأمر .. ليس الأمر إلا صدمة .
أن تقولَ لأحدهم لفظاً إستعلائياً هذا يعني أنك لا تأبهُ له، هذا يعني أن كل أحلامهِ التي رسمها معك ..باتت خيبة !
وأعودُ أندبُ حظي : لماذا أضعتُ الحلم من يدي يوم طويتهُ كحبلٍ مشدود فوق كفي !
ما في هذه الغرفة المظلمة إلا أنا وصوتُ مفاتيح هاتفي حين أمر عليها .. كانت كأنين !
أقلب رسائلها في صندوق الوارد، المسكينة في غضون أسبوع فقط أرسلت لي قرابة السبعين رسالة..
رسائلها تشبهها ، متنوعةٌ تماماً ، حيناً أشعارا وحيناً مجنونة وحيناً سخريتها المحببة وأحياناً أديبة بشذراتٍ مما راقها في الأدب ، وعاطفية أحياناً كثيرة .
كانت كما هيَ تماماً ، تأتي كقبيلةٍ من النساء ، ألفُ أنثى في جسدٍ واحد ، تملأ عينك تماماً بحيث يستحيل أن تبحث عن أخرى !
هل ظلمتها ؟ هل قسوتُ عليها ؟! لا أدري ، أنا فقط متعب ، وحزين ، وهذه الغرفة بل هذا الكون كله لم يعد به من الأكسجين ما يكفي !
أتهادى بين رسائلها ، كل رسالةٍ منها كانت تذيّلها بإسمها ، يالنرجسيتها الجميلة ، تعشق اسمها حقاً !
كانت تختمُ رسائل الشوق بـ " سارة/سارونة" ، وأي بيتٍ يأتي ممهوراً بهذا الإسم فهو جميلٌ وإن كان ركاكة !
ليس كل ماكانت تكتبه لي منقول ، كثيراً مما تكتبه لي كان من تدوين حرفها .. وأروح أقرأ :
- " زوج رحاب عاد من باريس ، ستعودُ لمنزلها ، مقاطعاتها لنا كل ليل ودخولها المتكرر غرفتي سيزول منذ اليوم ..
لا أدري أين أصلُ معك يافيصل، كنتُ أحب مجيء أختي كثيراً، كانت تؤنسُ وحدتي ، لماذا أفرحُ بمغادرتها الآن ماذا جرى ؟! سارة "
هه ، رجعتْ رحاب أو لم ترجع .. الأمر انقضى !
وأمضي بين الرسائل بحثاً، و أقرأ :
- " اذا طلعت من القاعة كلمني ، لا أريد أن أنام قبل سماع صوتك ، صحيح ان صوتك ليس جميلاً لكن المشكى الى الله ما أنا إلا مجنونة هههههه ، سارونة "
وأتذكر حين كنت أضحكْ في القاعة وأنا أقرأها ، يا لسخريتها اللاذعة المحببة ، كنتُ كتبت لها من تحت الطاولة :
" يبدو أني مثل فريد الأطرش، أصواتنا ليست جميلة لكن شعبيتنا هائلة ! "
ردت على الفور برسالةٍ تكتبها من سريرها وتبعثها لي في قلب القاعة :
- " فريد يتميز في العزف لهذا ربما اشتهر ، لا لست مثله سيد نرجسي ، الرواج الذي يلقاه صوتك عندي شبيه برواج شعبولا، حتى الآن مازال غير مفهوم !"
هل كانت قادرةً على إضحاكي بسهولة لأنها بارعة ، أم لأني أستلطفُ كل شيءٍ يجيء منها ؟! لا .. هي حقاً لاتُجارى في المرح !
ويمشي إبهامي عبر بريدها متنقلا ً :
- " لا تحسب اني دالهٍ عنك ناسيك ، دقات قلبي كلها تقول وينك، سارة "
أذكر جيداً متى وصلني هذا البيت ، كانت كتبته لي يوم أغلقتُ الهاتف بعد أن بلغت فاتورته الحد الأئتماني ، يا ألله ، كنا في أوج انسجامنا حينها ..
..و صارحنا بعضنا بالحب ذاك الليل ! ، دقات قلبي كلها تقول وينك ، حسناً ، الآن ياترى هل تقول هذا البيت ، هه لا أظن !
وأبدأ الهواجس والتفكير ، عبثاً أحاول مقاومة السرحان فيها ، كان كل شيءٍ يرمي بي في أتونها لأفكر :
بالتأكيد هاتفتْ صديقتها هيفاء ، بالتأكيد قالت لها بأني صُدِمت في فيصل الذي حدثتك عنه طويلاً ياصديقة .
هه وصديقتُها ككل البنات الأخريات، لاتعرفُ التهدأة ، فقط تعرف أن تزيد النار حطباً .
تلوكني الألسن ربما ، أو ربما هيَ وحيدةٌ تبكي الآن ، لا ! بل ربما هي في نزهةٍ مع سائقها تلف الرياض على أنغام راشد !
أحقاً هذه ثلاثة أيام !؟ تراودني نفسي عن الإتصال بها فأستعصم : " يبدو أني صفحةٌ طويت " .
ترددتُ كثيراً على مكتبتي في ركن الغرفة ، حاولتُ التماهي مع كتبي ، حاولتُ أن أصدق المتنبي بأن خير جليس في الزمان كتابُ وليس سارة !
كل ما في مكتبتي صار عصياً على القراءة ، مابالي عاجزٌ عن إتمام سطر !
أذائقتي باتت صعبةُ الإرضاء أم أني بتّ أميّاً فجأة ؟!
آه يا عزلتي القديمة ، وأيامي الخوالي أين أنتِ؟!
اشتقتُ لعزلتي ، للسلام الذي يسكن روحي ،
شتقتُ للكتب المنثورة في غرفتي أنهلُ منها تاركاً خلفي كل شيء !
اشتقتُ للكتابة ، للتركيز في المذاكرة ، اشتقت حتى للخروج بسيارتي في الرياض لبضع الوقت مع موسيقى بيتهوفن وأنغام ام كلثوم .
تركت الكتب وفتحتُ مجلداً يضم اقتباساتٍ لأجمل ما قرأت، لربما جملةٌ تشد أزري أو حكمةٌ من يدري ،ربما دوّنتها لتكون ذخراً في هذه الضائقة ..
تصفحتُ مجلدي النفيس ووقعت عيني على هذه العبارة :
" أنت لا تستطيع منع طيور الحزن من الطيران على رأسك، لكن يمكنك أن تمنعهم من بناء الأعشاش في شعرك .. حكمة صينية "
يا للحكماء الساذجين حقاً ، يبدو أنهم يطلعون على الناس من فوق هم لا يعيشون معهم ، يتخذون جانباً محايداً ويبدأون التنظير والثرثرة !
صاحبها لو عاش الحزن والضيق حقاً ما كان قالها ، لكنهُ رأى حزيناً بالجوار فآثر تدوين جملةٍ رنانة على حسابه بدلاً من مواساته !
الحزن ياغبي أشبه بدلو ماء يُهراق عليك ، مهما فعلتَ لا بد أن يرى عليك الناس آثار البلل .
قبل أن أركب هذا الموج اللاطم ، كنتُ أخرج من الكلية وليس هناك مايشغلني ، أنام قسطاً مريحاً ثم أستيقظ لأقرأ .
أخرج وحدي وأسهر وحدي وأتسكع وحدي ، كطائرٍ يستمتعُ بالتحليق وحده ، ترك السرب يمضي بعيداً وانشق عنه .
كنتُ نادراً ما أُشرك في أوقاتي أحد ! يا لذاك الوقت البعيد ، مهلاً ، أحقاً هو بعيدٌ جداً أم أني أراهُ كذلك ؟!
كانت حياتي أشبهَ بحالة سلام ، الآن ليس هنا إلا الحرب والدمار والأشلاء !
أذكر عزلتي القديمة فـ يهتفُ في سمعي صوتُ أسمهان : " يا ليالِي البِشرِ يا تيك الليالي، أين أنتِ الآن مني؟! " !
وأرى ما أحدثهُ دخول سارة في حياتي ، فتهتفُ أسمهان بأغنيتها الأخرى : " تلك الليالي اللواتي سبّبن سقمي ، ياليلةُ بعدها عيناي لم تنمِ ! "
أفتحُ كتاباً فأرميه ، والآخر كذلك ، عبثاً أحاول القراءة ،لم يعد يستهويني الأمر الآن ، يشب في صدري حريقٌ يأكل تركيزي !
تباً للفيلسوف الألماني شابينهاور ، كنتُ أصدقه طويلا ً :
" لا تمر بالمرء محنة إلا وتخففها ساعاتُ القراءة " ، كنتُ أصدقه ، كنتُ أهرعُ لمكتبتي كل حزة ضيق وأجد الأمر كما قال تماماً .
حسناً سيد شايبنهاور : هل تعرفُ سارة ؟ هل جربت الإختلاف مع سارة ؟
أو هل رأيت عينا سارة ؟
لا .. إذن فلتصمت !
يومضُ هاتفي ويعلو رنينه ، أترك ركن المكتبة وأنطلقُ ناحية سريري ، قلبي يحدثني أنها سارة ، أدركتها الشفقة ربما !
أرفعُ الهاتف وأتراخى بارداً ، ثاوي العزم .. فهد !
ماذا يريد ؟ لم يتصل منذ تشاجرنا ؟ الآن ماذا يريد ؟!
يبدو أنه تنازل وآثر البدء بالمصافحة ، لا أريدُ التنازل منه ، سألتقيهِ متى شئت .. أريدُ سارة !
لم أجبْ ، تركتهُ يضيء حتى غرق في الظلام :
أنت يا فهد سبب كل شيء ، أليس جزاءً عادل !
وبتذكر فهد تشب فيني أسئلةٌ كان هوَ من زرعها :
هل سارة تحبني فعلا ً ؟ هل الحب مجرد كلمةٍ هكذا نلفظها ونعتنقها مصدقين ؟ أم نحن نتقمصُ الحب ؟!
هل جرأتها مبررة ؟ رباه كيف تفعل كل هذا ؟!
في المحل أول مرة كانت تحدثني بثقة ؟ هي من بدأ الحديث عن رواية أحلام ، و هي أول من بدأ الإتصال ، وهي أول من عرض اللقاء المدبر ،
بل هي من علمتني أن في هذا الحاسوب ألفُ طريقةٍ للمواعيد واللقاءات ، ثم راحتْ تحادثني صوتاً وصورة ، قبل أن أتهمها بشناعة !
حين سألتها ، أخبرتني أن صديقتها كانت في ماليزيا : "عرفتُ منها كيف نتحادث بهذه الطريقة " .
صوتُ بكائها يرن في أذني يوم قالت " ظلمتني يا للأسى ظلمتني " ، ترن كناقوس !
كانتْ تقول بأنها متفاجأةُ حتى من نفسها وأن فرحتها بي تدفعها لما لم تتوقع أن تفعله يوماً : " ألم يقل صديقك ديستويفسكي سننبهرُ من أنفسنا ذات يوم حين تنطلق " !
يا لطيبتها أم يا لجرأتها ؟!
يا لشوقها واحتراقها الساذج للحب أم يا لـ.. لا ! ، سارة أكبر ، أنقى ، ماهذه الأفكار المسممة ، شيءٌ في داخلي يقولُ بصدقها !
لماذا يافهد أيقظت فيني أسئلةً لا أملك إجابتها ؟ لا أملك أم أني أخشى إجاباتها ، أووووه اللعنة ماذا أقول أبتّ مجنوناً اكلم نفسي !
لماذا أبقى حبيس غرفتي ، هل أبحثُ عن الجنون!
حملتُ نفسي و خرجتْ ..
********
أغلقتُ باب الشقة داخلاً وأصواتُ الأصدقاء ترحب ، وحدهُ فهد كان ينظر للتلفاز مستلقياً في صمتْ ، حاولتُ التصنع والإحتفاء بترحيبهم وأظني نجحت .
ينتظرون مباراة الهلال ، وأنا أنتظر اتصالاً !
الهلال اليوم على المحك في مباراة النهائي ، وأنا على المحك مع حلمي !
يتحدثون عن النقص الحاد في صفوف الهلال وأتحدثُ عن النقص الكبير الذي اعترى حياتي !
وفهد صامتْ ، هذا اللعين الذي غربل حياتي صامت ، الآن صمتّ يافهـد ؟!
يحادثهم ولا يلتفتُ في الحديث تجاهي ، أمازال غاضباً ؟ لماذا إذن راح يطلبني قبل ساعة !
يهتفون لهدف الهلال الأول ، ولا شيء في داخلي يشعر بالفرح ، هه كنت قديماً أصرخ ، أدخل في نوبة هيستيريا مع كل هجمة ، الآن ما عاد يشغلني الأمر !
ويتلقى الهلال هدفاً من الخصم ، ولا شيء يشعر بالحزن في داخلي ، كل الحزن سارة !
عيون فهد تختلسُ النظرات إليّ، فإذا التقت نظراتنا أزاح بصرهُ بعيداً كما لو كان غير مهتم .
يالصديقي المسكين ، يا صديق العمر يا لك من مضحك ، في عينيك يبدو الإهتمام وتتصنع اللامبالاة هه !
هل هو نادم ، أم أن شحوبي أرعبه ؟
حسناً ، يبدو أنه قلقٌ عليّ ، الأمر واضح .. وأوضحُ من ذلك مرأى العتب في عينيّ يا صديقي ، لا بد أنك أدرَكْتهُ منذ قدِمتْ !
وأسأل نفسي ، هل سارة تشاهد الآن المباراة ؟!
كانت قد أخبرتني أنها باتت مهتمةً جداً للرياضة وأصبحتْ تعرف بشأنها الكثير : " فيصل أريد مواكبة اهتماماتك " هكذا كانت تقول !
كانت تبحث في النت عن أغنيات فريد أم كلثوم ، تشتري الكتب التي أحب وتقرأ المجلات الدورية التي أقرأ : " أريد أن أعيش تفاصيلك " ..
حسناً هل تشاهد هذه المباراة الهامة الآن ؟ ألم يخطر في بالها وهي تشاهد القمصان الزرقاء أن مشجعاً متعصباً للهلال اسمه فيصل يشاهدهم في ذات اللحظة !
أم ياتُراها نسيَت ؟
لا لم تنس، بالتأكيد ذكرتني الآن وبكتْ ، يا للصفعة التي وجهتُ لها .. يا للمسكينة !
صفّر الحكم ، انتهت المباراة العصيبة التي حضرتها ولم أحضرها!
سلمان يتقافز مع صالح ويلتفتان نحوي فأتجمّل وأشاركهم فرحةً غابت عني للمرة الأولى ..
محمد يهتفُ في كل العمارة بإسم الهلال كالمجنون ، وأصواتُ الشقق من فوقنا وتحتنا يدوّي فيها هتاف الفوز وحمى الفرح تجتاح المكان ،
فهد يتلقى التهاني سعيداً وعينهُ ترقُبُني ! احتضن صالح ومحمد وسلمان وخطى تجاهي خطوتين وأحجم حين رآني قاعداً ، شعرتُ بتردده ..
لماذا أخسر الصداقة بعد أن خسرتُ الحب !
لماذا أهنتُ سارة وأكرر ذات الأمر مع صديق العمر ، كنتُ أرى تردده تجاهي ومقولة فولتير ترن في أذني :
" لولا الصداقة الحقة مات الناس ، بها يضاعف المرء نفسه ويحيا في نفوس الآخرين " ، لماذا أعاقب صديقي أكثر من ذلك !
قمتُ حين كان قد اقتنع بتجاهلي له ، لم يصدق ..عاد و احتضنني وكأنه للتو سعِد حقاً .. صار يصرخُ في أذني بجنون " جبنا الكاس .. جبناااااااه " وكنت أبتسم له في صمت ،
وبين الصرخات الضاجة في المكان راح يهمس في أذني " حقك علي يابوسويرة " فانتفضت على وقع الإسم .. " راحتْ سارة " هكذا أجبتهُ في سري !
هدأ الصخب وتحلل المكان مما أثقل كاهله من ضيوف ، كلهم ذهبوا وبقيتُ وحيداً مع فهد ، أشبه بطفلين تشاجرا ثم عادا للصلح ، كنت أقص له كل شيء وأنا أدعي اللامبالاة !
ألم أسرق أمي ؟ ألم أرفع صوتي لأول مرة وأختلف مع والدي ؟ ألم أنحط لأشتم سارة وأهينها ؟
ألم أتخاصم مع شقيقي مساء الأمس حين طلب مني إحضار ابناءه من قريبتهم ، " لستُ سائقاً لديك " ، لم أكن بهذه الصفاقة من قبل .
كل شيء فيني يتغيّر للأسوأ ، إذن لن تكون وحيداً يافهد ، هيا أشركني السُقيا !
سترى اليوم ، لن تكون مجرد رشفات ولن يكون أول انحطاط أرتمي فيه ..
أخفيتُ عنه خبر انتهاء علاقتي بسارة ، لم أستطع أن أقول له : أهانت أهلي فأهنتُها ، شعرتُ أن في الأمر عاراً .. وخفتُ أن يزيدني وهو القادر !
أستمع له والكأس اللعين يزيد ليس ينقص ، ما أسوأ ما أحمله الآن ؟ أليس عقلي ؟ إذن فليغب قسراً ألا تباً للتفكير والأسئلة ..
أين الليالي القديمة ، أين العزلة الماضية ، كل شيءٍ بات بعيداً كبعد الإيمان عن جلستنا هذه ، نسكبُ وينتفي عنا مؤقتاً كرداءٍ ينسلّ مرتفعاً لفوق !
وأسألُ قلبي أين الراحة التي كنت أنعم بها ؟ ولا أجد جواباً بين صبٍ وشرب .
كنتُ أبحث عن أي علاقةٍ لأكون سعيداً كغيري ، الآن أحسدُ صالح وهو يندبُ حظه ضاحكاً " يبدو أن الحلال مكتوبٌ لي، كلما نظرت لأنثى صدت عني " ..
أوّاه يا ليتني كنت مكانه !
لا أدري من قال : أن تعيش حالة حب هذا يعني أنك تعيش الحياة ، خطأ ، لا بالتأكيد أخطأ /
في الحب لا نملك الخيار لأن نعود لطريقنا الذي كنا نسلكه قديماً ، هذه ليست حرية والحرية إن غابت ليس ثمة حياة !
الأمر يختلف عندما نعيش بدون حب ، حينها نملك حق الخيار أن نستمر هكذا أو البحث عنه ثم المضي معهُ بعيداً .. تباً لفلسفتي ..
ياللفلسفة التي أقوم بها والكأس يُدفع في جوفي جعبة واحدة !
هاتفي يومض في هذا المكان الآثم ، يلوح رقم بيتنا ، بالتأكيد هي أمي تسألني الرجوع قبل أن يعلم أبي بتأخري :
لا يا أمي أرجوكِ كفي عن الاتصال !
مجرد الرد عليكِ هنا إهانة ، هذا المكان لا يليق بصوتك ، أنتِ أنبل من هذه الرائحة التي لن تصلك حتى ، عودي لسجادتكِ واتركيني لا تتصلي أرجوك !
ويعاود الرنين فأشعر بانكسار قلبي ، يا أماه يكفي !
وأتذكر وجهها فأتلمض ملوحة الدمع بين شفاهي ، ماذا تريدين ؟ ابتعدي يا أمي عن مكان خزيي ، صوتي الثقيل سيقتلك يا أماه عودي للنوم واتركيني ..
طفأ الوميض ولم تعاود الرنين ، وشعرتُ أني أهوي بعيداً ، وأخذتُ أتخيل رعبها عليّ وعجزي عن الإجابة كأبكم ..
وذكرتُ سارة فسكبتُ أكثر !
نغلق الباب خلفنا ونمضي في الممر نتلمس الدرب كأننا أطفالٌ للتو يتعلمون المشي !
أطفال القرية وحثالة المدينة ، هزيع الليل الأخير يُغرق العاصمة في الهدوء ، ألوان النوافذ استحالت زرقاء بعد الفوز ..
و الشعارات والأعلام تكسو أرض الشارع والعمارة ، ونحنُ نضحك من لا شيء ، ربما أنفسنا !
انطلقتُ بسيارتي ناعساً متعباً كطائرٍ بللّهُ المطر، أين أمضي وكل المدى قد سُد في عيني ؟!
كالمجنون أهاتف عبدالمجيد وراشد "أين من أحضرَتْكم هنا ثم غابت ! "
أتمهلُ في السير وأكاد لا أبصر ، كل شيءٍ في هذه الرياض مبكي ، حتى الساهرون الفرحون بأعلامهم أكاد لا أراهم ،
أليس من المفترض أن تكون ليلة فرح .. لماذا يحدث كل هذا لي ؟!
رأيتُ الدروب الموحشة ، والإسفلت القاتم كأشد مما كان قبل ، ورأيت ماذا ؟ رأيتُ أكثر :
صندوقٌ يلوح أمامي ، يتراقص فيه لونٌ أحمر وأزرق ، يا لحظي .. يا للخيبة التي تأتي دفعة ً واحدة !
آخر ما ينقصني نقطة تفتيش ، بدأت أضحك انتظاراً لدوري ، وضعتُ رأسي على الكرسي وضحكتُ بصوتٍ عال، ضحكةٌ تشبه الدمع يا يا أقداري الموحشة ..
توقفتُ أمامهم ، طلبوني وأعطيتْ ، أتوارى عن عيونهم وعبثاً أفعل ..
هذه بطاقتي رُدت إليّ .. وهذه استمارة السيارة قد تأكدوا منها ، نظروا لي طويلا ً وتهامسوا ثم نزلتُ بأمرهم :
- ارفع سبابتك عشر ثواني ..
يا لهواني ، مابالها لم تثبت ولا حتى ثانيتن ، وركبتُ معهم وملوحة الدمع تزداد .. في أي دهماء ألقيتُ نفسي ؟
ها أنا أنحط والفضائح تشرع بابها نحوي أن تعال !
وهتفتُ في داخلي باسم سارة .. ضج صوتي في أعماقي ولم يجبني أحـد !
يتبع .......