20
" آه ما أرق الرياض في الليل " ، الآن فقط ، أظن قائلها قد صدق !
سكتَ الهاتف عن الكلام المباح .. وترك الصوت والصورة لثورة الاتصالات التي حوّلت العالم قريةً صغيرة .. وجعلت من الرياض غرفةً واحدة !
ماذا لو أدرك العشاق الأوائل هذا الزمن .. جميل بثينة وكثير عزة ، وكل عاشقٍ بات وجهُ أخاديدَ حزن ٍ لـ تجافِ الوصل بينه وبين من يعشق .
ماذا لو أفاق المجنون من قبره .. أكانَ يصدق أن باستطاعته أن يضرب موعداً مع ليلى وهي في العراق .. عبر هذا الحاسوب !
سيُصعق ولا ريب ، عشِق طويلاً وحايل حيّها مراراً ولم يطُل منها إلا نظرةً خلف خِمار ..
ليستيقظ الآن في زمنٍ بات يُريه في الليلة الواحدة مالم يره كل عمره !
أي ليلٍ كان يسري والناسُ من حولي نيام !
أي فتنةٍ كنتُ أرفلُ فيها وأترنحُ سكراً من غير شُرب .. سكِرتُ وما دارت بقربي زجاجة !
كانت تعرفُ أن في صمتي لهيباً .. وفي صدري اضطرام .. وكانتْ تتغنج طرباً بما تفعلْ ..
تستلقي على سريرها تاكئةً وجهها بين راحتيها ، تتراقصُ قدميها من الخلف وتقول : ها حدثني عن آخر الروايات والقصص !
يافاتنتي بربكِ كفي عن هذا العبث ، أنتِ تعلمين أن النسيان سيّد هذه اللحظة ..
أحدثكِ عن ماذا ؟! ليس ذا ليلُ الأدب !
صيّرتني شاعراً أرتجزُ البيت سريعاً .. كل ما أقولهُ يتحول لجرسٍ موسيقي ..
وكانتْ أشبهَ بعارضة أزياء .. تأتي وتمضي بكل جديد !
ربما حركتها تضحيتي يوم بعتُ العقد .. وراحت تعوضني بأكثر !
أو ربما حين حدثتها عن الفتيات في المكتبة ، شعرت بالغيرة وأضمرتها في سرها طويلاً ، والآن باتت تعاقبني وكأنها تقول : ها هل يستطِعن مجاراتي ؟
لا لا أحد يجاري سحرك .. ولا حتى القمر المطلّ علينا من سجوف الظلام !
******
كنت في الشقة أول المساء وليس فيها إلا أنا وفهد .. أخذتُ حريتي المطلقة في الحديث وانهمرتُ كالمطر ..أخبرتهُ بكل شي ..
أخبرته ببيتها وأخيها وحتى عن ليل الغواية الذي استجد .. ضحك وهو يهرشً دقنه الملأى وقال :
- ألم أُخبرك أن الكذب أفضل دعايةٍ نبثها عن أنفسنا ؟ أرأيت ، ها هو يخلقُ علاقةً مستديمة وتنازلاتٍ ثمينة !
- من قال لك أني كذبت عليها ؟ لم أكذب مطلقاً
- متأكد ؟ حسناً ، وماذا عن الفتيات الشقيّات في المكتبة ؟ هل حدثتها بذلك دون قصد ؟ أجزمُ أنك قلتها استنهاضًا لغيرتها ليس أكثر !
- ...................
- لا تقنعني أنك لم تبهّر الخبر ، نعم ربما ضحكت لك إحداهنّ بينما رحت تقص على سارة أنها تبعَتك وكانت تنتظر منك أن تطلب منها التعارف وهكذا .. أتستطيع أن تحلف أنك لم تفعل ؟
- ههههههههههه بصراحة ، قلتُ لها أكثر مما حدث في المكتبة
- أرأيت ؟ حين نكذب يا فيصل نخلقُ لأنفسنا بريقاً في أعينِ الآخرين .. كذبتك لا بأس بها ..وانظر ماذا فعلت !
المرة الأخرى حين تأتي بكذبةٍ جيّدة قد تصلُ لأكثر .. بابُ التنازلات هذا يُطلّ على درجٍ سفليٍ طويل .. حين يُفتح مرة ، صدقني لا أحد يدري إلى أين يصلُ النزول !
- يخرب بيتك ! كيف تعرفُ كل هذا يافهد؟!
بدا أن صديقي استطاب المدائح ، فعلتْ فيها فعلته .. أعرفُ وميض عينيهِ حين يتراقصُ زهواً :
- أعرفُ كثيراً لكنك أحمق ياصديقي، تأتي لتحدثني عن أرسطو وأفلاطون وبقيّة الأغبياء وتقول لي قالوا وقالوا .. بالله ماذا أفادوك ؟
انظر إلي، بكلمةٍ واحدة مني حركتُ علاقتك للأمام .. ربما نصيحةٌ أخرى مني وتجد نفسك فجأةً في بيتهم ههههه ،
- هههههه يا لك من حاذق ..
- نعم هذا مبدأي يافيصل : اكذب حتى تمسك بزمام الأمور !
- إذن يافهد تتفق مع الإيرلندي بيريك ؟!
- أوهوه ! عُدنا لأحاديث المثقفين ! ها وماذا يقول هذا الإيرلندي .. بربك إن كان كلاماً فلسفياً فلا تخبرني ،
حقاً يافيصل لا أدري لماذا تكلف نفسك عناء حفظ هذه المقولات بينما أنت الآن تُجالس الحكيم الأول ههههه !
- هههه لا ، اسمع ماذا يقول : الرجل الذي لا يكذبُ على المرأة هو لا يحترم مشاعرها إطلاقاً !
كان يشعل سيجارته ، بعد أن قلتُ له هذه العبارة نفث الهواء البنفجسيّ بعيداً للسقف واخرج اللفافة من فمهِ على الفور :
- أحقاً قال هذا الكلام ؟!
- نعم .. كأنهُ يبرر الكذب مثلك !
- فيصل ، من الآن أخبرك ، أحرق كل الكتب التي لديك وركز على بيريك هذا، يبدو أنه كاتبٌ جيد ، أعاد لي بعض الثقة في المثقفين .. هل لديه أقوال أخرى ؟!
- نعم ، يقول : تعرفُ المرأة أننا نكذب في بعض عواطفنا ، لكنها تشاركنا الكذب على نفسها وتصدق !
- شفت فيصل ؟ ماقلت لك انه رهيب بيرك هذا .. بالله مافيه ثالثه ؟
- ويقول : تغفر المرأة القسوة والظلم لكن لا تغفر عدم الإهتمام بمشاعرها ..
قبض على سيجارته بشفتيه وراح يهز رأسه و يصفق :
- هههههههههههههههه أهنيه بيريك هذا ، رائع ، لااااا .. الجيل الصاعد من المثقفين يرفع الراس !
- يا فهد أي جيل صاعد ، شبِع موتاً منذ قرنين !
- إذن ، الرعيل الأول من المثقفين هم الأذكياء ، الجيل الجديد خيّبوا ظني .. قل معي تباً للجدد هههههه
على أصوات ضحكاتنا كان يمضي الوقت سريعاً ..
قررتُ أن أخبره بالأهم ..أعرف أني سأغضبه بالحقيقة ، لكن لا بأس .. مستعدٌ للتوبيخ من استاذي :
- فهد ، هناك سر لم أبح به ،
وهو يزرع السيجارة في المنفضة :
- هاا .. غرد غرد .. مفاجآتك اليوم لن تنقضي ..
- فهد/ أنا أحبها .. نعم أحبها وأخبرتها بذلك ..
تلقى الخبر ببرود !
نفث الدخان في وجهي وقال وهو يبتسم :
- لا أنتَ لا تحبها يا صديقي !
- ماذا؟ اعرفُ نفسي أكثر منك .. عندمـ ..
- يارجل لو كنت تحبها ماتحدثت إليّ عن كل شيءٍ يخصها !
- بل أحبـ ..
- نحنُ نلعب يا صديقي ، تذكر ذلك نحنُ نلعب ، هل ترى سلمان كيف يُحجم عن أسرار بيته بعد أن تزوج ؟ هذا لأنه يحب ..
ألا تذكر أحاديثه عن كل محاولةٍ يعيشها قبل زواجه ؟ أنتَ لا تحبها لكنك تحب الوقت الذي تقضيه معها !
كان يتحدثُ بثقة ، شعرتُ اني شككتُ في أعماقي ، أخذتُ منه الريموت الذي يتنقل به بين القنوات وهو يتحدث وأخبرته :
- لكني أغضبْ حين أفقدُ صوتها .. حين تتأخر مثلاً ، أشعر أن قلبي ينقبض وأن ضحكاتي تتوارى مع الكل ، أحدثُ نفسي عنها كالمجنون..شهيتي نحو الطعام تعتمد على ظروفي معها !
- سلكتُ هذا الدرب قبلك ، أتظن أن هذه الحالة لم تعتريني مع أحدهن يافيصل ؟ صدقني بمجرد ان تأخذ ماتريد ستنسى كل شيء .. الأمر ليس حباً مجرد انجذاب
- نعم أنجذب إليها لأنها تختلف عني في كل شيء ، تتميّز عن كل النساء في مجتمعي ، هي جريئة مثقفة لا تخشى شيئاً .. تخرجُ كثيراً وتمرح .. كل شيءٍ فيها يختلف عني وتوقعت الأمر مجرد انجذاب وفضول .. لكن صدقني يافهد لم يكن كذلك ..
حتى سُمرتها الغريبة عني وعن بيئتي ، هذا اللون الغير معتاد في وجوه أقربائي ، توقعتُ أني منجذبٌ لهذا التناقض ، منجذبٌ لأتطفّل في عالمها الأسمر ، لكن الأمر لم يتوقف هنا .. أنا أحبها وأعني ما أقول ..
- حسناً ، هل تدري أنها تلعبُ بك ؟
- ماذا تقول
- هي لا تحبك صدقني .. هي تتسلى بك ..
- فهد إلزم حدك سـ...
- لا لن ألزم حدي ، سأخبرك بأشنع شيء .. هل تظن أن سيادتك أول من رأى مشاهدها الليلية ههههه ؟..
بربك أيها الجامعي المثقف ماهذا الغباء ؟
أتظن أنك أول من شاهدها مستلقيةً وتتحدث بغنج .. ياصديقي أجننت ؟ صدقني قبلك العشرات .. ربما أنا أحدهم من يدري يا فيصـ ..
كنتُ أمسك بتلابيبه وأضعه على الجدار .. أردتُ أن أضربه أردتُ أن أخبره أنه وقح .. كان كل مافيني يفور غضبًا .. شككني في مشاعري والآن يريد تشكيكي فيمن أحب :
- لا أسمح لك .. هل تفهم لا أسمح لك .. إخرس ولا تقل شيئا
أنزل يدي في غضب وقال لا تسمح .. منذ متى أطلبُ الإذن لأتحدث .. ها قد أخبرتك بالحقيقة ولن أجمّلها في عينك .. ثم انك حرٌ بعد هذا
- نعم أنا حر ، وسأخبرك بحقيقة أمرك ، أنت متفيهق لا أكثر .. تدعي الذكاء تدعي الفطنة أنت لا تفهم شيئا .. و الايرلندي اللعين بيرك هذا الذي تمتدحه قبل قليل .. يقول المرأة أصدق من الرجل لأنها تفكر بقلبها وهو يفكر بعقله ، أنت لا تعرف شيئاً هل تسمعني أنت لا تعرف شيئاً
كان يلتقط إزاراه الذي سقط في الأرض وكنتُ أصفق بالباب خارجاً .. جاءني صوتهُ وأنا أعبر الطريق من النافذة :
- إذن حتى بيرك مغفل ككل المثقفين !
* * *
أقودُ سيارتي مسرعاً عائداً للبيت .. كان الغضب يجللني .. ثورةٌ عارمة تشب في صدري وأطرافي أريد تفريغ حنقي في أي شيء ..
كل سيارةٍ تؤخرني وتتمهل في سيرها كان صوت البوق ينطلق من سيارتي مثلي غاضباً .. كأن الرياض كلها تدري بحنقي ..
نادراً ما أختلف مع فهد .. لا ليس نادراً .. بل أول مرة أرفع يدي تجاهه في عصبيةٍ بادية .. لم نفعلها مذ كنا صغاراً في القرية . .اللعنة ، ماذا يحل بي !
يبدو أن الحب ضربٌ من الحرب كما قال أوفيد .. لم أكن بهذه العصبية من قبل
هل كان محقاً يوم قال عني لا أحب سارة ؟ لا ليس هذا مهماً الآن ، أحقاً لها علاقاتٌ متعددة ؟ يا لغبائي لماذا لم أسأل نفسي يوماً عن هذه الجرأة !
آه ياسارة .. أحقاً هذا الذي يجري في صدري هو الحب .. أم هو اللعب والتصديق كما قال فهد .. فهد هذا الدعيّ الذي يزعم أنه يعرف كل شيء !
آه .. ليت أني عرفتك قبل الروايات والأعمال الرومانسية وقصص الشوق التي أسمعها .. هل أنا الآن أتقمص ؟ هل أحب حقاً أم أني أمثل أدواراً شدتني حين قراءة .لا أدري ..
أخرستُ صوتَ عبدالمجيد .. لم أنتبه له إلا الآن ، أخرجتُ الشريط من المسجل وكأني أعاقبُ سارة مؤقتاً ..
*****
آخر ما ينقصني أن أتعرض لتوبيخ والدي .. آخر ما ينقصني اشتباكٌ عائلي .. تباً لهذه الاجتماعات البروتوكوليّة الزائفة .. كان والدي وإخوتي يتأنقون كيوم عيد ..
يستعدون للذهاب لإجتماع قبيلتنا السنوي .. وأنا الكافر بكل هذا ولا أعبأ به .. كل ما حلّ يوم الإجتماع هذا كان عبئاً عليّ ثم على أمي حين ترانا مختلفين ..
والدي يريدنا كلنا صفاً واحداً خلفه .. كأنه مكاثرٌ بنا القبيلة ومفاخرٌ بنا الجموع !
ليس هناك أحقر من احترام يقوم على الزيف والبهرجة ..
أؤمن بحريتي وأدرك أن الوعي ابن الحرية الأول .. فرض القناعات و القيود استعباد لا أرتضيه ..سنين منذ أعلنت التمرد على هذه الطقوس !
حين ذكرني أبي بالأمر صباحاً لم أوافق ولم أرفض .. كنتُ مشغولاً بسعادتي ولم أفكر في الأمر مجدداً إلا حين دخلت الآن .. تباً !
لستُ أعترف بكل هذا .. ولا أسمحُ لأحدٍ أن يعيشَ أجواءه الزائفة على حسابي ، تباً لهذه التجمعات الغبية ، والمظاهر البراقة و التحذلق الذي يمارسونه عياناً بيانا
صعدت لغرفتي تشيعني دعوات والدي بالثبور واللعنات .. أخبرتهُ أني لن أذهب
- لا أريد الذهاب .. هذه الدعوات لا تستهويني ،
- تروح غصب عليك ،
- لا لن أتحرك ، أرجوك يا أبي ما فيني يكفيني ، ضغط الإختبارات يرهقني لا تزدني
علا صوتُ والدي وانصرفتُ دون مبالاة صاعداً لغرفتي..
تركتهم خلفي حين كان أخي الكبير يحاول تهدأة والدي وأمي تزرعُ في الفناء تهليلاتٍ ومناشداتٍ لأبي أن يدعني وشأني ..
كنت أفكر ، أحقاً كانت كل هذه الفترة على علاقةٍ مع أحدهم ؟
هه وأنا الذي كلما اتصلتُ بها كان الخط يطلبُ دون انقطاع ولا انشغال ولا انتظار فأطمئن لصدقها..
ربما كانت وقتها على تلك الكاميرا اللعينة من يدري !
رحتُ أطلبها .. جاء صوتها ضاحكاً بشوشاً كالعادة .. وكان صوتي من السخف إخفاء نبرته الحانقة ..كنت صامتاً ألقي بإجاباتٍ مقتضبة ..
- فيصل ماذا بك ؟!
- لا شيء لا شيء ،
- غريب اتصالك هذا الوقت ، الساعة الآن السابعة ، ليست عـادتـ ..
- حسناً مع السلامة
- فيصل ماذا بك .. أنا أتحدث من قال لك بإني متضايقة ؟
سعيدة بسماع صوتك لكني أخبرك أن الوقت أبكر مما عودتني فقط
اللعينة ، تقول إنها سعيدة ! وهل تستطيع أن تقول غير هذا ،
- أين أنتِ الآن
- في غرفتي .. أقرأ روايـ..
- جالسة ع النت ؟!
- لا ، اقول لك أقرأ رواية
هه أأنا غبي لهذه الدرجة لأصدق ! في غرفتك و تملكين أدوات الاتصال مع كل العالم و تتفرغين للرواية !
- أي رواية
- بين القصرين التي أعطيتني
- في أي فصل وصلتِ ؟
- انتصفتْ في الثامن والعشرين حتى الآن ، جميلة جـ
- ما رأيك في الفتاة اللعوب جارة فهمي ، فهمي طالب الحقوق ، هل تصدقين أنها تحبه ؟
- لا أدري ، أشعرُ أنها تتسلى به فقط ، رآها شقيقه كمال تحادث الجنود الإنجليز .. يبدو أنها ليست صادقة في حبه
- كل الفتيات هكذا !
- لا طبعاً !
قالتها بلهجةٍ نزقة !
- كلهم يدعون الحب ويمثلونه ، أتعلمين ؟ لو كنتُ مكان فهمي لرميتُ الورد وأغصان اللبلاب التي تزرعها أمه في السطح ، على وجهها حين تنشر الغسيل وتتغنج له
- أوه لماذا ؟
- لأنها حقيرة ، تافهة ، تدعي الحب وهو منها براء .. وفهمي هذا اللعين غبي ـ كيف يصدق بالحب في مجتمعٍ شرقي يكفرُ به ، كل مايحدث مجرد هوس وتطبيق لأعمال رومانسية مُشاهدة !
- لكنها كل ماشاهدتهُ يقرأ في سطح المنزل خرجتْ بسعادة تدعي الغسيل، هذا يا فيصل أول خيوط الحب في علاقتهم ، ربما هي في طور الحب أظنها معجبةٌ به جداً
إيه .. دافعي عنها ، لأنكِ مثلها .. ربما !
- الإعجاب شيء ، الحب شيءٌ آخر ، أنتِ لا تفهمين شيئًا !
صرختْ بحدة :
- فيصل اشفيك !
- لا شيء ، مجرد خلاف بسيط مع والدي .. متوتر بعض الشيء
- لا حول ولاقوة الا بالله .. ماذا حدث ؟!
- فقط يريدُ أن يجبرني على ما لا أريد .. هذه الإجتماعات الكبيرة والمناسبات الرسمية لا تستهويني وهو يصر أن يسوقني إليها !
- اجتماعات ماذا ؟
- قبيلتنا تجتمعُ سنوياً في قاعةٍ فسيحة ويحضرها الأمراء وشيوخ القبائل ورجال الدولة ، كل سنة يتكرر هذا الخلاف مع والدي لا جديد
- ههههههه عجيبين انتم !
لحظة ماذا قالت !؟
- كيف ؟!
- لا أدري يا فيصل ، أشعر بهذه الإجتماعات شيء سخيف ، " طهبلة " ليس أكثر !
- لماذا تقولين " أنتم "
- لأننا ولله الحمد أرفعُ من هذا الأمر .. بصراحة لا أكاد أصدق أن هذا المجتمع المنفتح وهذه الحضارة والحياة المدنية لم تغيّر في العقول شيئاً .. عندما أمر على قنوات الإبل والشعر في الفضائيات أشعر بالشفقة !
- حسناً .. ولماذا تشعرين بالشفقة
- فيصل ، بربك !
أُناس شبعوا موتاً و انتهى زمنهم والبعض مازال يترنم بأسمائهم ويفتخر بهم ! أليس سخيفاً أن تعيش على أنقاض الماضي وتفخر بما ليس لك فيه يد !
- ولكن هؤلاء نسيج متصل ، حيّهم وميّتهم .. انتِ تتعصبين لعبدالمجيد لراشد وهم لا يمتون لكِ بقرابة ، أتلومين أحداً إن تعصب لأحد أجداده وصار يفخر به
- نعم فيصل ، أتعصب لمطرب لنادي لكن لا أدعي فخراً بإنتمائي له ، مجرد قناعات وأذواق أنافح عنها وأصر عليها أنها أصوب من غيري ..
إنما لا أرى في الأمر فوقيةُ على أحد ! هؤلاء ، يظنون أنهم شعب الله المختار وأنهم الأرفع .. بينما لا يرفعُ النسب شيئاً .. العلم الأخلاق الثقافة المال .. غير هذا هراء
- سارة من هم هؤلاء ؟
- أنتم !
- نحن من
- أنتم القبائليون .. تتفاخرون بذواتكم كثيراً ولا أدري لماذا
- حسناً ألا تفتخرين بنسبك بأجداداك بـ ..
- فيصل من قال لك أصلاً أني أنتمي لقبيلة !
- ..............
- لا أعرف إلا اسم والدي وجدي ويكفيني ، أعتد بنفسي بعائلتي الصغيرة بأخلاقي ثقافتي .. لا أرى في الرجوع للماضي واجتراره إلا إفلاس .
- سارة ، إنتبهي ، انا أرفض هذه التجمعات نعم ، أنتقد ما يحدث فيها من بذخ نعم .. لكن لا تتطاولي ..
- فيصل أتطاول على ماذا ؟ بربك لا تصدمني وتقول أن الأمر قد ساءك .. إذا كنتَ أنت المثقف الأديب تؤمن بهذا السخف إذن ماذا يقول الجهلة إذن
- ســـــارة !
- ماذا هل صدمك الخبر الذي قلت لك ؟ نعم لا أنتمي لقبيلة والحمدلله .. أتحللُ من كل هذه القيود التي تكبلون بها أنفسكم ..
أعيش حياتي كما أريد لا أحد يتحكم بمصيري ويفرض علي قناعا...
- نعم ، تتحكمين .. في هذه صدقتي ، سائق يلف بك الرياض .. كاميرا كل ليل ، أحاديث الحب .. نعم !
-فيصل ماذا تريد أن تقول ، هذه الأحاديث العائمة لا تعجبني
- أنتِ تعلمين ...
- أعلم ماذا ؟ والله ظلمتني، كل ما في الأمرِ أن فرحي بك يدفعني للجنون قسراً .. والله ظلمتني !
- أوهووه !
- ياللأسى حقاً ! حسناً أنا أعلم ، دعني أخبرك إذن :
هؤلاء الذين غضبت لأجلهم لن ينفعوك بشيء صدقني ..
وهؤلاء الذين يتحمس لهم والدك هم أول من سيتخلى عنه لو احتاج ..أنت تدرك هذا .
أنت مثقف لكن تتعامى صدقني ، تدرك ان هذا التعصب من الأغنياء للدين والعادات والموروث يحميهم من الفقراء السذّج ليس إلا .. لا يقيمون وزناً لأحد ولا للمؤسسة ذاتها ..
يرفلون في النعيم في الإعلام في القنوات بالمشالح والعرضات وأنت وغيركم تصنعون مجدهم .. هل التفتوا لك ؟ انظر عندما احتجت ماذا فعلت ؟ سرقتَ امك
-اللعنة ـ تعيريني بأني سرقتُ أمي ؟؟؟
- لا فيصل ، ارجوك ليس هذا قصدي .. أقول أنهم فقط لا يسألـون عنـ..
- ياللوقاحة حقاً ..
- فيصل لاتفهمني خطأً أنت مشوش الذهـ
- أتعلمين لماذا سرقتها .. دعيني أخبرك لماذا سرقـ ..
أخذت تصرخ :
- فيصل أرجوك والله لم أقصد شيئاً .. لا أعيّرك افهـ ...
- الشرهة مو عليك يا ...
- يا أيش ؟
- .....................
- قُلها يا ولد الحسب والنسب !
- ...................
-ألو ، فيصل قلها ؟ يا ماذا ؟!
- ........
- لا تجب، طيب يا فيصل ..شكراً يجي منك أكثر
ارتعد صوتها ثم أغلقتْ الهاتف !
رميتُ به ِ في الأرض وأنا أصرخ :
بالطقااااااااااق
ألقيتُ رأسي على فراشي وأنا ألعن كل شي .. كل شيء !
" آه ما أرق الرياض في الليل " ، الآن فقط ، أظن قائلها قد صدق !
سكتَ الهاتف عن الكلام المباح .. وترك الصوت والصورة لثورة الاتصالات التي حوّلت العالم قريةً صغيرة .. وجعلت من الرياض غرفةً واحدة !
ماذا لو أدرك العشاق الأوائل هذا الزمن .. جميل بثينة وكثير عزة ، وكل عاشقٍ بات وجهُ أخاديدَ حزن ٍ لـ تجافِ الوصل بينه وبين من يعشق .
ماذا لو أفاق المجنون من قبره .. أكانَ يصدق أن باستطاعته أن يضرب موعداً مع ليلى وهي في العراق .. عبر هذا الحاسوب !
سيُصعق ولا ريب ، عشِق طويلاً وحايل حيّها مراراً ولم يطُل منها إلا نظرةً خلف خِمار ..
ليستيقظ الآن في زمنٍ بات يُريه في الليلة الواحدة مالم يره كل عمره !
أي ليلٍ كان يسري والناسُ من حولي نيام !
أي فتنةٍ كنتُ أرفلُ فيها وأترنحُ سكراً من غير شُرب .. سكِرتُ وما دارت بقربي زجاجة !
كانت تعرفُ أن في صمتي لهيباً .. وفي صدري اضطرام .. وكانتْ تتغنج طرباً بما تفعلْ ..
تستلقي على سريرها تاكئةً وجهها بين راحتيها ، تتراقصُ قدميها من الخلف وتقول : ها حدثني عن آخر الروايات والقصص !
يافاتنتي بربكِ كفي عن هذا العبث ، أنتِ تعلمين أن النسيان سيّد هذه اللحظة ..
أحدثكِ عن ماذا ؟! ليس ذا ليلُ الأدب !
صيّرتني شاعراً أرتجزُ البيت سريعاً .. كل ما أقولهُ يتحول لجرسٍ موسيقي ..
وكانتْ أشبهَ بعارضة أزياء .. تأتي وتمضي بكل جديد !
ربما حركتها تضحيتي يوم بعتُ العقد .. وراحت تعوضني بأكثر !
أو ربما حين حدثتها عن الفتيات في المكتبة ، شعرت بالغيرة وأضمرتها في سرها طويلاً ، والآن باتت تعاقبني وكأنها تقول : ها هل يستطِعن مجاراتي ؟
لا لا أحد يجاري سحرك .. ولا حتى القمر المطلّ علينا من سجوف الظلام !
******
كنت في الشقة أول المساء وليس فيها إلا أنا وفهد .. أخذتُ حريتي المطلقة في الحديث وانهمرتُ كالمطر ..أخبرتهُ بكل شي ..
أخبرته ببيتها وأخيها وحتى عن ليل الغواية الذي استجد .. ضحك وهو يهرشً دقنه الملأى وقال :
- ألم أُخبرك أن الكذب أفضل دعايةٍ نبثها عن أنفسنا ؟ أرأيت ، ها هو يخلقُ علاقةً مستديمة وتنازلاتٍ ثمينة !
- من قال لك أني كذبت عليها ؟ لم أكذب مطلقاً
- متأكد ؟ حسناً ، وماذا عن الفتيات الشقيّات في المكتبة ؟ هل حدثتها بذلك دون قصد ؟ أجزمُ أنك قلتها استنهاضًا لغيرتها ليس أكثر !
- ...................
- لا تقنعني أنك لم تبهّر الخبر ، نعم ربما ضحكت لك إحداهنّ بينما رحت تقص على سارة أنها تبعَتك وكانت تنتظر منك أن تطلب منها التعارف وهكذا .. أتستطيع أن تحلف أنك لم تفعل ؟
- ههههههههههه بصراحة ، قلتُ لها أكثر مما حدث في المكتبة
- أرأيت ؟ حين نكذب يا فيصل نخلقُ لأنفسنا بريقاً في أعينِ الآخرين .. كذبتك لا بأس بها ..وانظر ماذا فعلت !
المرة الأخرى حين تأتي بكذبةٍ جيّدة قد تصلُ لأكثر .. بابُ التنازلات هذا يُطلّ على درجٍ سفليٍ طويل .. حين يُفتح مرة ، صدقني لا أحد يدري إلى أين يصلُ النزول !
- يخرب بيتك ! كيف تعرفُ كل هذا يافهد؟!
بدا أن صديقي استطاب المدائح ، فعلتْ فيها فعلته .. أعرفُ وميض عينيهِ حين يتراقصُ زهواً :
- أعرفُ كثيراً لكنك أحمق ياصديقي، تأتي لتحدثني عن أرسطو وأفلاطون وبقيّة الأغبياء وتقول لي قالوا وقالوا .. بالله ماذا أفادوك ؟
انظر إلي، بكلمةٍ واحدة مني حركتُ علاقتك للأمام .. ربما نصيحةٌ أخرى مني وتجد نفسك فجأةً في بيتهم ههههه ،
- هههههه يا لك من حاذق ..
- نعم هذا مبدأي يافيصل : اكذب حتى تمسك بزمام الأمور !
- إذن يافهد تتفق مع الإيرلندي بيريك ؟!
- أوهوه ! عُدنا لأحاديث المثقفين ! ها وماذا يقول هذا الإيرلندي .. بربك إن كان كلاماً فلسفياً فلا تخبرني ،
حقاً يافيصل لا أدري لماذا تكلف نفسك عناء حفظ هذه المقولات بينما أنت الآن تُجالس الحكيم الأول ههههه !
- هههه لا ، اسمع ماذا يقول : الرجل الذي لا يكذبُ على المرأة هو لا يحترم مشاعرها إطلاقاً !
كان يشعل سيجارته ، بعد أن قلتُ له هذه العبارة نفث الهواء البنفجسيّ بعيداً للسقف واخرج اللفافة من فمهِ على الفور :
- أحقاً قال هذا الكلام ؟!
- نعم .. كأنهُ يبرر الكذب مثلك !
- فيصل ، من الآن أخبرك ، أحرق كل الكتب التي لديك وركز على بيريك هذا، يبدو أنه كاتبٌ جيد ، أعاد لي بعض الثقة في المثقفين .. هل لديه أقوال أخرى ؟!
- نعم ، يقول : تعرفُ المرأة أننا نكذب في بعض عواطفنا ، لكنها تشاركنا الكذب على نفسها وتصدق !
- شفت فيصل ؟ ماقلت لك انه رهيب بيرك هذا .. بالله مافيه ثالثه ؟
- ويقول : تغفر المرأة القسوة والظلم لكن لا تغفر عدم الإهتمام بمشاعرها ..
قبض على سيجارته بشفتيه وراح يهز رأسه و يصفق :
- هههههههههههههههه أهنيه بيريك هذا ، رائع ، لااااا .. الجيل الصاعد من المثقفين يرفع الراس !
- يا فهد أي جيل صاعد ، شبِع موتاً منذ قرنين !
- إذن ، الرعيل الأول من المثقفين هم الأذكياء ، الجيل الجديد خيّبوا ظني .. قل معي تباً للجدد هههههه
على أصوات ضحكاتنا كان يمضي الوقت سريعاً ..
قررتُ أن أخبره بالأهم ..أعرف أني سأغضبه بالحقيقة ، لكن لا بأس .. مستعدٌ للتوبيخ من استاذي :
- فهد ، هناك سر لم أبح به ،
وهو يزرع السيجارة في المنفضة :
- هاا .. غرد غرد .. مفاجآتك اليوم لن تنقضي ..
- فهد/ أنا أحبها .. نعم أحبها وأخبرتها بذلك ..
تلقى الخبر ببرود !
نفث الدخان في وجهي وقال وهو يبتسم :
- لا أنتَ لا تحبها يا صديقي !
- ماذا؟ اعرفُ نفسي أكثر منك .. عندمـ ..
- يارجل لو كنت تحبها ماتحدثت إليّ عن كل شيءٍ يخصها !
- بل أحبـ ..
- نحنُ نلعب يا صديقي ، تذكر ذلك نحنُ نلعب ، هل ترى سلمان كيف يُحجم عن أسرار بيته بعد أن تزوج ؟ هذا لأنه يحب ..
ألا تذكر أحاديثه عن كل محاولةٍ يعيشها قبل زواجه ؟ أنتَ لا تحبها لكنك تحب الوقت الذي تقضيه معها !
كان يتحدثُ بثقة ، شعرتُ اني شككتُ في أعماقي ، أخذتُ منه الريموت الذي يتنقل به بين القنوات وهو يتحدث وأخبرته :
- لكني أغضبْ حين أفقدُ صوتها .. حين تتأخر مثلاً ، أشعر أن قلبي ينقبض وأن ضحكاتي تتوارى مع الكل ، أحدثُ نفسي عنها كالمجنون..شهيتي نحو الطعام تعتمد على ظروفي معها !
- سلكتُ هذا الدرب قبلك ، أتظن أن هذه الحالة لم تعتريني مع أحدهن يافيصل ؟ صدقني بمجرد ان تأخذ ماتريد ستنسى كل شيء .. الأمر ليس حباً مجرد انجذاب
- نعم أنجذب إليها لأنها تختلف عني في كل شيء ، تتميّز عن كل النساء في مجتمعي ، هي جريئة مثقفة لا تخشى شيئاً .. تخرجُ كثيراً وتمرح .. كل شيءٍ فيها يختلف عني وتوقعت الأمر مجرد انجذاب وفضول .. لكن صدقني يافهد لم يكن كذلك ..
حتى سُمرتها الغريبة عني وعن بيئتي ، هذا اللون الغير معتاد في وجوه أقربائي ، توقعتُ أني منجذبٌ لهذا التناقض ، منجذبٌ لأتطفّل في عالمها الأسمر ، لكن الأمر لم يتوقف هنا .. أنا أحبها وأعني ما أقول ..
- حسناً ، هل تدري أنها تلعبُ بك ؟
- ماذا تقول
- هي لا تحبك صدقني .. هي تتسلى بك ..
- فهد إلزم حدك سـ...
- لا لن ألزم حدي ، سأخبرك بأشنع شيء .. هل تظن أن سيادتك أول من رأى مشاهدها الليلية ههههه ؟..
بربك أيها الجامعي المثقف ماهذا الغباء ؟
أتظن أنك أول من شاهدها مستلقيةً وتتحدث بغنج .. ياصديقي أجننت ؟ صدقني قبلك العشرات .. ربما أنا أحدهم من يدري يا فيصـ ..
كنتُ أمسك بتلابيبه وأضعه على الجدار .. أردتُ أن أضربه أردتُ أن أخبره أنه وقح .. كان كل مافيني يفور غضبًا .. شككني في مشاعري والآن يريد تشكيكي فيمن أحب :
- لا أسمح لك .. هل تفهم لا أسمح لك .. إخرس ولا تقل شيئا
أنزل يدي في غضب وقال لا تسمح .. منذ متى أطلبُ الإذن لأتحدث .. ها قد أخبرتك بالحقيقة ولن أجمّلها في عينك .. ثم انك حرٌ بعد هذا
- نعم أنا حر ، وسأخبرك بحقيقة أمرك ، أنت متفيهق لا أكثر .. تدعي الذكاء تدعي الفطنة أنت لا تفهم شيئا .. و الايرلندي اللعين بيرك هذا الذي تمتدحه قبل قليل .. يقول المرأة أصدق من الرجل لأنها تفكر بقلبها وهو يفكر بعقله ، أنت لا تعرف شيئاً هل تسمعني أنت لا تعرف شيئاً
كان يلتقط إزاراه الذي سقط في الأرض وكنتُ أصفق بالباب خارجاً .. جاءني صوتهُ وأنا أعبر الطريق من النافذة :
- إذن حتى بيرك مغفل ككل المثقفين !
* * *
أقودُ سيارتي مسرعاً عائداً للبيت .. كان الغضب يجللني .. ثورةٌ عارمة تشب في صدري وأطرافي أريد تفريغ حنقي في أي شيء ..
كل سيارةٍ تؤخرني وتتمهل في سيرها كان صوت البوق ينطلق من سيارتي مثلي غاضباً .. كأن الرياض كلها تدري بحنقي ..
نادراً ما أختلف مع فهد .. لا ليس نادراً .. بل أول مرة أرفع يدي تجاهه في عصبيةٍ بادية .. لم نفعلها مذ كنا صغاراً في القرية . .اللعنة ، ماذا يحل بي !
يبدو أن الحب ضربٌ من الحرب كما قال أوفيد .. لم أكن بهذه العصبية من قبل
هل كان محقاً يوم قال عني لا أحب سارة ؟ لا ليس هذا مهماً الآن ، أحقاً لها علاقاتٌ متعددة ؟ يا لغبائي لماذا لم أسأل نفسي يوماً عن هذه الجرأة !
آه ياسارة .. أحقاً هذا الذي يجري في صدري هو الحب .. أم هو اللعب والتصديق كما قال فهد .. فهد هذا الدعيّ الذي يزعم أنه يعرف كل شيء !
آه .. ليت أني عرفتك قبل الروايات والأعمال الرومانسية وقصص الشوق التي أسمعها .. هل أنا الآن أتقمص ؟ هل أحب حقاً أم أني أمثل أدواراً شدتني حين قراءة .لا أدري ..
أخرستُ صوتَ عبدالمجيد .. لم أنتبه له إلا الآن ، أخرجتُ الشريط من المسجل وكأني أعاقبُ سارة مؤقتاً ..
*****
آخر ما ينقصني أن أتعرض لتوبيخ والدي .. آخر ما ينقصني اشتباكٌ عائلي .. تباً لهذه الاجتماعات البروتوكوليّة الزائفة .. كان والدي وإخوتي يتأنقون كيوم عيد ..
يستعدون للذهاب لإجتماع قبيلتنا السنوي .. وأنا الكافر بكل هذا ولا أعبأ به .. كل ما حلّ يوم الإجتماع هذا كان عبئاً عليّ ثم على أمي حين ترانا مختلفين ..
والدي يريدنا كلنا صفاً واحداً خلفه .. كأنه مكاثرٌ بنا القبيلة ومفاخرٌ بنا الجموع !
ليس هناك أحقر من احترام يقوم على الزيف والبهرجة ..
أؤمن بحريتي وأدرك أن الوعي ابن الحرية الأول .. فرض القناعات و القيود استعباد لا أرتضيه ..سنين منذ أعلنت التمرد على هذه الطقوس !
حين ذكرني أبي بالأمر صباحاً لم أوافق ولم أرفض .. كنتُ مشغولاً بسعادتي ولم أفكر في الأمر مجدداً إلا حين دخلت الآن .. تباً !
لستُ أعترف بكل هذا .. ولا أسمحُ لأحدٍ أن يعيشَ أجواءه الزائفة على حسابي ، تباً لهذه التجمعات الغبية ، والمظاهر البراقة و التحذلق الذي يمارسونه عياناً بيانا
صعدت لغرفتي تشيعني دعوات والدي بالثبور واللعنات .. أخبرتهُ أني لن أذهب
- لا أريد الذهاب .. هذه الدعوات لا تستهويني ،
- تروح غصب عليك ،
- لا لن أتحرك ، أرجوك يا أبي ما فيني يكفيني ، ضغط الإختبارات يرهقني لا تزدني
علا صوتُ والدي وانصرفتُ دون مبالاة صاعداً لغرفتي..
تركتهم خلفي حين كان أخي الكبير يحاول تهدأة والدي وأمي تزرعُ في الفناء تهليلاتٍ ومناشداتٍ لأبي أن يدعني وشأني ..
كنت أفكر ، أحقاً كانت كل هذه الفترة على علاقةٍ مع أحدهم ؟
هه وأنا الذي كلما اتصلتُ بها كان الخط يطلبُ دون انقطاع ولا انشغال ولا انتظار فأطمئن لصدقها..
ربما كانت وقتها على تلك الكاميرا اللعينة من يدري !
رحتُ أطلبها .. جاء صوتها ضاحكاً بشوشاً كالعادة .. وكان صوتي من السخف إخفاء نبرته الحانقة ..كنت صامتاً ألقي بإجاباتٍ مقتضبة ..
- فيصل ماذا بك ؟!
- لا شيء لا شيء ،
- غريب اتصالك هذا الوقت ، الساعة الآن السابعة ، ليست عـادتـ ..
- حسناً مع السلامة
- فيصل ماذا بك .. أنا أتحدث من قال لك بإني متضايقة ؟
سعيدة بسماع صوتك لكني أخبرك أن الوقت أبكر مما عودتني فقط
اللعينة ، تقول إنها سعيدة ! وهل تستطيع أن تقول غير هذا ،
- أين أنتِ الآن
- في غرفتي .. أقرأ روايـ..
- جالسة ع النت ؟!
- لا ، اقول لك أقرأ رواية
هه أأنا غبي لهذه الدرجة لأصدق ! في غرفتك و تملكين أدوات الاتصال مع كل العالم و تتفرغين للرواية !
- أي رواية
- بين القصرين التي أعطيتني
- في أي فصل وصلتِ ؟
- انتصفتْ في الثامن والعشرين حتى الآن ، جميلة جـ
- ما رأيك في الفتاة اللعوب جارة فهمي ، فهمي طالب الحقوق ، هل تصدقين أنها تحبه ؟
- لا أدري ، أشعرُ أنها تتسلى به فقط ، رآها شقيقه كمال تحادث الجنود الإنجليز .. يبدو أنها ليست صادقة في حبه
- كل الفتيات هكذا !
- لا طبعاً !
قالتها بلهجةٍ نزقة !
- كلهم يدعون الحب ويمثلونه ، أتعلمين ؟ لو كنتُ مكان فهمي لرميتُ الورد وأغصان اللبلاب التي تزرعها أمه في السطح ، على وجهها حين تنشر الغسيل وتتغنج له
- أوه لماذا ؟
- لأنها حقيرة ، تافهة ، تدعي الحب وهو منها براء .. وفهمي هذا اللعين غبي ـ كيف يصدق بالحب في مجتمعٍ شرقي يكفرُ به ، كل مايحدث مجرد هوس وتطبيق لأعمال رومانسية مُشاهدة !
- لكنها كل ماشاهدتهُ يقرأ في سطح المنزل خرجتْ بسعادة تدعي الغسيل، هذا يا فيصل أول خيوط الحب في علاقتهم ، ربما هي في طور الحب أظنها معجبةٌ به جداً
إيه .. دافعي عنها ، لأنكِ مثلها .. ربما !
- الإعجاب شيء ، الحب شيءٌ آخر ، أنتِ لا تفهمين شيئًا !
صرختْ بحدة :
- فيصل اشفيك !
- لا شيء ، مجرد خلاف بسيط مع والدي .. متوتر بعض الشيء
- لا حول ولاقوة الا بالله .. ماذا حدث ؟!
- فقط يريدُ أن يجبرني على ما لا أريد .. هذه الإجتماعات الكبيرة والمناسبات الرسمية لا تستهويني وهو يصر أن يسوقني إليها !
- اجتماعات ماذا ؟
- قبيلتنا تجتمعُ سنوياً في قاعةٍ فسيحة ويحضرها الأمراء وشيوخ القبائل ورجال الدولة ، كل سنة يتكرر هذا الخلاف مع والدي لا جديد
- ههههههه عجيبين انتم !
لحظة ماذا قالت !؟
- كيف ؟!
- لا أدري يا فيصل ، أشعر بهذه الإجتماعات شيء سخيف ، " طهبلة " ليس أكثر !
- لماذا تقولين " أنتم "
- لأننا ولله الحمد أرفعُ من هذا الأمر .. بصراحة لا أكاد أصدق أن هذا المجتمع المنفتح وهذه الحضارة والحياة المدنية لم تغيّر في العقول شيئاً .. عندما أمر على قنوات الإبل والشعر في الفضائيات أشعر بالشفقة !
- حسناً .. ولماذا تشعرين بالشفقة
- فيصل ، بربك !
أُناس شبعوا موتاً و انتهى زمنهم والبعض مازال يترنم بأسمائهم ويفتخر بهم ! أليس سخيفاً أن تعيش على أنقاض الماضي وتفخر بما ليس لك فيه يد !
- ولكن هؤلاء نسيج متصل ، حيّهم وميّتهم .. انتِ تتعصبين لعبدالمجيد لراشد وهم لا يمتون لكِ بقرابة ، أتلومين أحداً إن تعصب لأحد أجداده وصار يفخر به
- نعم فيصل ، أتعصب لمطرب لنادي لكن لا أدعي فخراً بإنتمائي له ، مجرد قناعات وأذواق أنافح عنها وأصر عليها أنها أصوب من غيري ..
إنما لا أرى في الأمر فوقيةُ على أحد ! هؤلاء ، يظنون أنهم شعب الله المختار وأنهم الأرفع .. بينما لا يرفعُ النسب شيئاً .. العلم الأخلاق الثقافة المال .. غير هذا هراء
- سارة من هم هؤلاء ؟
- أنتم !
- نحن من
- أنتم القبائليون .. تتفاخرون بذواتكم كثيراً ولا أدري لماذا
- حسناً ألا تفتخرين بنسبك بأجداداك بـ ..
- فيصل من قال لك أصلاً أني أنتمي لقبيلة !
- ..............
- لا أعرف إلا اسم والدي وجدي ويكفيني ، أعتد بنفسي بعائلتي الصغيرة بأخلاقي ثقافتي .. لا أرى في الرجوع للماضي واجتراره إلا إفلاس .
- سارة ، إنتبهي ، انا أرفض هذه التجمعات نعم ، أنتقد ما يحدث فيها من بذخ نعم .. لكن لا تتطاولي ..
- فيصل أتطاول على ماذا ؟ بربك لا تصدمني وتقول أن الأمر قد ساءك .. إذا كنتَ أنت المثقف الأديب تؤمن بهذا السخف إذن ماذا يقول الجهلة إذن
- ســـــارة !
- ماذا هل صدمك الخبر الذي قلت لك ؟ نعم لا أنتمي لقبيلة والحمدلله .. أتحللُ من كل هذه القيود التي تكبلون بها أنفسكم ..
أعيش حياتي كما أريد لا أحد يتحكم بمصيري ويفرض علي قناعا...
- نعم ، تتحكمين .. في هذه صدقتي ، سائق يلف بك الرياض .. كاميرا كل ليل ، أحاديث الحب .. نعم !
-فيصل ماذا تريد أن تقول ، هذه الأحاديث العائمة لا تعجبني
- أنتِ تعلمين ...
- أعلم ماذا ؟ والله ظلمتني، كل ما في الأمرِ أن فرحي بك يدفعني للجنون قسراً .. والله ظلمتني !
- أوهووه !
- ياللأسى حقاً ! حسناً أنا أعلم ، دعني أخبرك إذن :
هؤلاء الذين غضبت لأجلهم لن ينفعوك بشيء صدقني ..
وهؤلاء الذين يتحمس لهم والدك هم أول من سيتخلى عنه لو احتاج ..أنت تدرك هذا .
أنت مثقف لكن تتعامى صدقني ، تدرك ان هذا التعصب من الأغنياء للدين والعادات والموروث يحميهم من الفقراء السذّج ليس إلا .. لا يقيمون وزناً لأحد ولا للمؤسسة ذاتها ..
يرفلون في النعيم في الإعلام في القنوات بالمشالح والعرضات وأنت وغيركم تصنعون مجدهم .. هل التفتوا لك ؟ انظر عندما احتجت ماذا فعلت ؟ سرقتَ امك
-اللعنة ـ تعيريني بأني سرقتُ أمي ؟؟؟
- لا فيصل ، ارجوك ليس هذا قصدي .. أقول أنهم فقط لا يسألـون عنـ..
- ياللوقاحة حقاً ..
- فيصل لاتفهمني خطأً أنت مشوش الذهـ
- أتعلمين لماذا سرقتها .. دعيني أخبرك لماذا سرقـ ..
أخذت تصرخ :
- فيصل أرجوك والله لم أقصد شيئاً .. لا أعيّرك افهـ ...
- الشرهة مو عليك يا ...
- يا أيش ؟
- .....................
- قُلها يا ولد الحسب والنسب !
- ...................
-ألو ، فيصل قلها ؟ يا ماذا ؟!
- ........
- لا تجب، طيب يا فيصل ..شكراً يجي منك أكثر
ارتعد صوتها ثم أغلقتْ الهاتف !
رميتُ به ِ في الأرض وأنا أصرخ :
بالطقااااااااااق
ألقيتُ رأسي على فراشي وأنا ألعن كل شي .. كل شيء !
يتبع ....