16
كل المحيطين بي يعلمون أني قاريءٌ نهِم .. لكن، وحدها سارة من باتت تعرفُ أني أحاول الكتابة !
أخبرتها بذلك دون الخوض في التفاصيل ..
لديّ قصص وخواطر وقصائد تختبيء في جنباتِ دفاتري .. لم يطلع عليها سواي .. مغرمٌ بالقصة وأكتبها سراً ..
في داخلي شيءٌ يخبرني أن ما أكتبه ليس إلا سخفًا وهُراء .. كنتُ أقرأ ما أكتبُ فلا أجرؤ على إبدائه لأحد ..
عندما عرفتْ سارة أن لديّ نصوصًا تتلحّف سماء أدارجي منذ سنتين راحت تصرّ أن أقرأها عليها ..
خجِلتْ .. أشعر أن كتاباتي محض هراء !
أخبرتني بصوتها المُقنع جداً أنّ الكتابة والشعر والرسم و كل فن، ليست جزءاً من شخصيّاتنا نخجلُ منه إن لم يكن جيّدا ً
هي يا فيصل محاولات ، ليست صفةً خَلقية ولا خُلقيةً حتى تخجل من كونها سيئة .. قد تزيدُنا رفعة إن نجحنا فيها إنما لا تحط من قدرنا إن فشلنا!
أخبرتُها أن الكتابة بالنسبةِ لي أمرٌ أقدسُ من ذلك بكثير .. وأن تركيبتي النفسيّة تجعلُ من أي نقدٍ يوجّهُ لي أشبهَ بعداء !
أحب كتابة القصص لكن أخجلُ من نشرها لأني أعرفُ قيمتها في الأدب وجوهرها ونظرة النقاد لها بحزم حين تُكتب !
ألم يقل والتر الن أن القصة هي الفن الوحيد الذي يمنحنا من المعرفة ما لا يمنحنا إياه أي نوع أدبي آخر ؟
ألم يقل عنها بأنها فنٌ يبسط الحياة أمامنا في امتداد وعمق وتنوع ؟!
كلما كتبتُ شيئاً قرنتهُ بهذه الجملة ... وبتّ متشككاً في قيمة ما كتبتْ .
توقعتُها سوف تنسى الأمر برمّته .. لكنها كل ليلٍ كانت تطلب أن أقرأ لها ..
وكنتُ أدير دفة الحديث بعيداً تجنباً لإصرارها ..
قبل يومين .. قالت لي ما رأيك أن نلعب ؟! قلتُ ماذا !؟
راحت تتكلمُ عن سرعة البديهة ..
- ما عليك إلا أن تختاَر حرفاً لي وسأقول على الفور إسماً وحيواناً ونباتاً وجماداً ودولةً تبدأ بهذا الحرف !
وأختارُ لك حرفاً وتأتي بذلك .. من كان الأسرع فينا هو الفائز !
- إمم حسناً .. يبدو أن الأمر مشوّق ، لكن حذارِ .. خصمُكِ ليس عادياً !
- أووه ، تُعجبني النرجسيّة ، تخلقُ التحدي ، إذاً مارأيكَ بمزيدٍ من أجواء الحماسِ نُضفيهِ على لعبتنا !؟
- حد الله بيني وبين القمار سيدتي ههههه
- هههه لا ليس قماراً سيد نرجسي ، حين أنتصرُ عليك حقق لي طلباً أطلبهُ منك .. وأنتَ لكَ ما تطلبهُ إن انتصرتَ وسأفعل !
- رائع يا ساره رائع .. هذا ما أُريده .. التشويق ، إذاً من الآن جهّزي نفسكِ لاستقبال طلبي ، أنتِ في هذه اللعبة مسحوقةٌ تماماً ها أنا أخبركِ من الآن !
ضحِكتْ طويلا ً من ثقتي ، من دعاباتي من طريقة كلامي .. ثم طلبتْ مني أن أبدأ ، إختارتْ لي حرف الصاد ..
هتفتُ سريعاً بإسم صالح ، توقفتُ قليلاً وقلتُ "صبّار" ، أرهقني البحث عن جماد حتى اهتديتُ إلى صابون فشرقتْ بالضحك !
تقافزتْ الحيوانات من رأسي ولم أجد إلا صرصار فدوّت ضحكاتها مجدداً ، وبعد مشقة ، قلتُ صوفيا البُلغار وأنهيتُ الحرف في زمنٍ لا بأس به ..
حين جاء دوري ، توقعتُ أن تتلكأ أكثر مني ..
كنتُ أفكر في طلبي حين أنتصر أكثر من تفكيري في الحرف الذي أُعطيه لها ..حسناً ماذا عن الفاء ؟ أتنطقُ إسمي ؟؟
- حرف الفاء هيّا ابدأي أيتها المهزومة!
- فيصل فراشة فلفل فستان فرنسا ها مارأي السيّد مغرور !
لم تتكلف أكثر من سبع ثوان .. كانت تقول مارأي المغرور وهيَ تُغالب ضحكاتها ، سحقتني كما تفعل في كل شؤونها معي !
سحقتني أول مرةٍ رأيتها ، ثم في المحل مجدداً يوم أهدتني هديّتها ، يسحقني صوتها كل مره .. إذاً لا بأس أن أعترف بسحقي هنا مجدداً في هذه اللعبة !
العظماء وحدهم من يعترفون بالخسارة دون مكابره :
- السّيد مغرور يهنئك ، تفضلي ماذا لديكِ لأجيب !؟
- إقرأ عليّ قِصصك !
اللعنة ..
لم تتردد .. ألقَتها على الفور كما لو كان أمرُ اللعبة مدبراً لأجل هذا الطلب ..
إلتزمت الصمت .. وراح صوتها يلح :
- سيّد نرجسي إنتبه، المؤمنون على وعودهم !
كنتُ أفكر في التنفيد من عدمه .. بقيتُ متردداً حتى عاودَت شيطنتها !
راحت تُمارس شقاوتها اللعينة :
- " كأني سامعتهم يقولون كلمة الرجّال وحدة .. عموماً بكيفك خلها ثنتين ! "
ها هي ساره .. هكذا تَتعفرتْ !
هكذا تجيدُ العزف على أوتاري الحساسة .. تعرف متى تستخدم شقاوتها ومتى تأتي بكل رزانتها ومتى تُصغي ومتى تنطلق في الحديث ..
ها هي تستفزني لأنطلق !
- أليس هناك ما يسمى الصالونات الأدبيه ؟ الأمسيات القصصية ؟ هيّا فيصل لنجعل هذه الليلة أمسيةً للقاص الكبير سيد نرجسي الخاسر !
نطقت جملتها الأخيرة وهيَ تُحاول ألاّ تضحكْ .. كانت تُغالب نفسها عن ذلك .
- لن أتوب عن النرجسية لكني سأتوب عن لعبة الحروف !
هنا فلَت عنان الضحك من يدها ..راحت تضحك كالسكرانة .. ما أجمل ضحكاتها وما أحبرني بها ..
شقيةٌ جداً هذا اليوم فاتنتي .. لم يكن لي بداً إلا أن أجيب ..
رحتُ أقص عليها نصاً كتبته قبل سنتين وأكثر ، يتحدثُ عن رجلٍ يكفر بالبكاء ، مات أخوه ومرضت أمه وفجعت أخته في مولودها ولم يبكِ ..
حينَ سقطَ في السوق وكان الناس ينظرون إليه .. إنهار فجأة .. كانت سقطتهُ قشةً قصمت ظهر التجلّد !
أقرأها متفاعلاً مع أحداثها ولغتي وسردي ونسيتُ أنها على الخط تسمعْ ... حين قلت " تمّت " دوّى صفيرها بجنون شاقاً هدأة الليل ..
صرختْ كمراهقٍ لا يأبهُ بأحد !
صفّقت كأن البيت يخلو إلا منها .. يا للمجنونة ألا تخشى أن يسمعها أحد!؟
أو أن غُرفهم ليست كالغرف الصغيرة المتجاورة في بيوتنا نحنُ البسطاء ..
هناك في قُصور تلك النواحي ، كل غرفةٍ بينها وبين الأخرى مسافةٌ تحجب تفاصيلها عن الأخرى !
- برافو فيصل.. يا مجنون .. هات نص ثاني أرجوك !
على هذا التشجيع رحتُ أتألق كنجمٍ يطوي أرض الملعب مدفوعاً بهتاف أنصاره ..
قرأتُ لها أكثر من خمس قصص .. وفي كل نهاية قصة تُكيل ليَ المديح وتثني ..
طلبَتْ مني أن أعرضها على الدكتور في الكليّة .. أصرّت أن أفعل :
- إذا لي عندك خاطر قدمها ، صدقني سيصفق لك أكثر مما فعلت !
لكِ خاطرٌ يأبى عليّ التردد .. خطوةٌ فكرتُ فيها طويلاً كنتُ أحتاج من يدفعني لها .. وفعلتْ ساره .
***
صبيحة الأمس .. فعلتُ لها ذلك .. عرضتُ كتاباتي على د.ثابت المتخصص في اللغة والنقد إضافةً لكونهِ قاصاً وشاعر ..
فعلتُ ذلك مدفوعاً بتشجيع ساره .. و مسكوناً بالهم الذي في داخلي عن الكتابة والقصة ..
كنتُ أتمنى طويلاً أن أعرض ما أكتب على أحد الضليعين في هذا المجال ، ألف مرةٍ كنت أقرر .. ثم أحجم في كل مرة!
إتجهتُ إلى غرفة الدكتور بعد أن قال لي في نهاية المحاضرة : فيصل أريد أن تمرني في المكتب قليلا ً ..
كنتُ متوتراً .. هاتفتُ سارة من قلب الجامعة .. أجابتني وقد أفاقتْ من النوم على اتصالي :
- صباح الخير ساره ، آسف أزعجتك
- هلا فيصل لا بالعكس
- الدكتور طلبني لإجتماع في مكتبه ، أشعرُ بالتوتر لا أدري ماذا سيقول ، إسمعيني ، من الآن أخبرك ، إن قال عن نصوصي ليست جيّدة لن أكتب مرةً أخرى ..
كنت أتكلم بنبرةٍ عصبيّة .. وكانت تخفف عني كما لو تربت على كتفي :
- أولاً أنت مبدع شاء من شاء وأبى من أبى ، ثانياً لا تتكلم قبل أن تذهب إليه وتسمع منه .. صدقني أنتَ تكتبُ بإتقان لا داعي لهذا الخوف
- حسناً حسناً .. عودي للنوم سـ
- لا لن أنام سأنتظركْ !
على الكرسيّ المقابل للدكتور ثابت كنتُ أجلس كرجلٍ ينتظرُ العفو أو الإعدام .. وكان مشغولاً عني بأوراقٍ يتأملها ويضع يده على فمهِ في صمتٍ تام ..
يبدو أنه يقرأني للمرة الأخيرة قبل أن يطلق رصاصته ، أزال نظارته ، تراخى للوراء مستريحاً على ظهر كرسيّه ، وصوّب نظره تجاهي :
- قلت لي إنك لم تنشرْ من قبل ، حسناً .. كم عُمر هذه النصوص ؟
- بعضها قبل ثلاث سنين، بعضها قبل أشهر .. آخر نص كـ
قاطعني في حزمهِ المعتاد :
- لماذا لم تنشر ؟
- في الحقيقة يا دكتور ، أحب الكتابة جداً ، أُقبلُ عليها بشغف ، أُروّح بها عن نفسي وأتحللُ من كل شيء ، جعلتُها سراً خشيةَ سماع كلمةِ ناقدٍ تكرهني في ما أحب ..
قلتُ لنفسي طويلاً أن هكذا أفضل .. نعم ربما في قراري بعض الجُبن .. إنما صدقني أن أكون جباناً خيراً من خسارة ما أحب ..
أن أبقى متشككاً بشأن نجاحي خيرٌ من أن أسمع نبأ فشلي ، هكذا أقنعتُ نفسي ..
ربما تقول لي إن الفشل طريق النجاح ، لا ليس لأمثالي يادكتور .. حين أفشلُ مرة فإني أموت سبعين مرة قبل النهوض مجدداً ..
وأعرف ماذا ستقول ، النقد لا علاقة له بالشخص بل يطولُ النتاج الأدبي .. لكن صدقني ، أرتبطُ بحروفي رباطاً مقدساً لا فِكاك عنه !
- جيّد ، هذا قرارُك ..ولكن لماذا أقدمتَ على الإستشارة الآن ..
فكرتُ سراً وأنا أبتسم :
هل أخبره عن تلك السمراء التي شجعتني ، وعن تلك الأمسية الليليّة الناجحة التي صفقَتْ لي فيها طويلاً ..
ما موقفه لو قلت له عن نصوصي التي لاقت التصفير والإستحسان فجراً ! هه سـ يُجنّ ولا شك ..
- أنت تعلم يا دكتور ، لم يبقَ على التخرج شيء ، إن لم أحسم أمري بشأن الكتابة الآن فلن أحسمه أبداً !
أحياناً .. لا شيء إلا المواجهة ! إمّا أن أسمع أني كاتبٌ جيّد وأستمر .. أو لأسمع خبر فشلي وأهتمّ بأموري الأخرى بعيداً عن سماء الأدب..
- حسناً ، بالأمس قرأتُ نصوصك الخمسة التي قدمت إليّ ..
لا ينبغي أن تكون بكل هذه الحساسيّة ، آمن بموهبتكْ يابنيّ.. ما قرأتهُ كان مذهلاً يا فيصل !
- ماذا !؟
- لديك لغةٌ محكمة ، أفكارك جميلة ، سردك يأتي منساباً كما ينبغي ، فقط لديك هفواتٌ إملائية ونحويّة كدرتني قليلاً ماعدا ذلك فإني أصفق لك !
- أشكرك .. أشكرك يا دكتور أنتَ لا تعرف كم يـ..
- إن كانت هذه بداياتك كما تقول، حقاً لا أعرف أين ستصل ، أؤكد لك أن المستقبل أمامك واعد ، فقط ركز على الإملاء والنحو رجاءاً ، وسأسعدُ بنصوصك القادمة ..
خرجتُ من مكتب الدكتور منتشياً .. أردتُ أن أصرخ في الجميع أني " كاتب " !
لست قارئاً فقط .. أنا كاتب وأسألوا الدكتور ثابت ..
أنا موهوب .. أنا لستُ فقط قارئاً .. شكراً سارة
تذكرتها .. كنتُ أخرج هاتفي لأحدثها في السيب المقابل لغرفة الدكتور :
- ساره.. قال لي مذهل !
- أرأيت ؟ لأنك مذهل .. هوَ لم يأتِ بجديد
- قال إني مستقبلي واعد .. كان صمتهُ مريعاً ... لكنه حين نطق .. كان صوتهُ وتراً زريابياً ..
- بالله صِف لي هيئته، أشعرُ أنه كالحكماء والفلاسفة ذوي اللحى الكثيفة والنظارات المقعّرة !
كان الدكتور يخرج من غرفتهِ فأخذتُ أضحك من وصفها له ، كان نقيض ذلك تماماً .. مفاجآتها لا تنقضي :
-فيصل ،
- هلا
- هل تذكر تلك اللعبة التي لعبت معك لأنتزع منك طلب القراءة لي ؟
- الحيوان الإسم الجماد ..نعم، ماذا بشأنها ؟!
- كانت إجابات كل الحروف أمامي مكتوبة ، نقلتها من النت ! حين طلبتَ حرف الفاء كنتُ أقرأ لستُ أفكر .. آسفة للغش سيّد نرجسي .. كنتُ محمومةً لقراءة ما كتب فيصل !
- سارة أحبك !
- .........................
***
أنهيتُ المكالمة فور إدراكي بما تفوّهت به ! أغلقتُ الهاتف نهائياً ..
أضعُ يدي على فمي مشدوهاً و أمشي في الممر كالمجنون متمتماً يحادث نفسه:
-" يا ألله !ماذا قُلت ..!! "
يتبع...