توقف المشهد على صراخ وتكبير وبكاء الركاب .. بينما ظل الشاب مُلقى على الأرض دون حراك ينزف الدماء
تقدم الضابط نحو السيارة مطلقاً رصاصة في الهواء ثم صرخ في الركاب بأن يصمتوا
بعد أن ساد الصمت داخل السيارة .. ألقى الضابط بطاقات الركاب في وجه السائق طالباً منه أن يغادر المكان فوراً مهدداً إياه بأنه سيقتل كل من في السيارة إن بقيت دقيقة واحدة
تحركت السيارة لتغادر وكر الأفاعي بإطارها المثقوب كقارب عجوز يترنح بين الأمواج بشراع مكسور
لم يتوقف بكاء الركاب وحسرتهم على الشاب طيلة وقت المسافة التي قطعتها السيارة كي تخرج من هذا الحاجز اللعين .. وما إن خرجت السيارة من طرف الحاجز الآخر حتى أوقفها السائق فهو لن يستطيع المسير بها أكثر من ذلك
على الطرف الأخر من الحاجز تجمعت عشرات السيارات في طابور طويل امتد لمئات الأمتار .. غادر الركاب السيارة حاملين صدمتهم وتجربتهم المريرة مع الحاجز وتفرقوا بين زحام السيارات التي تنتظر دورها لعبور الحاجز نحو الجنوب
قبل أن تبتعد سمر عن السيارة ناد عليها السائق .. وأعطاها هوية الشاب و الكتب التي كانت بحوزته .. طالباً منها أن تبحث عن أهله بما أنهما صعدا السيارة من منطقة واحدة
لم تمانع سمر من قبول المهمة بالرغم من صعوبتها .. وقبل أن ينه السائق حديثه كانت يدها تمتد لتناول منه متعلقات الشاب كمن يتسلم شيء مقدس بالغ الأهمية
تركت سمر السائق ومضت في طريقها تبحث وسط عشرات السيارات المتوقفة عن مكان شاغر كي تعود إلى بيتها حتى وجدت إحدى الحافلات المتوقفة فصعدت إليه لتبدأ رحلة جديدة من العذاب نحو حاجز الموت
ما زالت الصدمة تؤثر على سمر التي تحجرت عيناها بالرغم من رغبتها الشديدة في البكاء .. ومع أن حالها قد لفت نظر إحدى النساء التي دفعها الفضول كي تسألها عن حالها .. لكن سمر لم تكن في وضع يسمح لها بأن تُجيبها أو تتحدث بكلمة واحدة بسبب تأثير الصدمة
كل شيء توقف فجأة عند سمر لدرجة أنها لأول مرة تعرف المعنى الحقيقي لكلمة عجز .. وتأكد لها أنها بين قاب قوسين أو أدنى من الجنون أو أن شللاً سيصيب دماغها الذي تزاحمت به الأفكار في صراع داخلي يدفعها دفعاً نحو الانهيار .. كانت تستغرب وتندهش بشدة لمجرد أنها تسمع أي شخص من الركاب يضحك و كأنه يرتكب أكبر الكبائر أمام الناس دون أي حياء وخجل .. لدرجة أنها شعرت بوحدة شديدة وأن كل هذا العالم أصبح ضدها .. وكلما تمادى تفكيرها نحو هذا الاتجاه أكثر.. تسود الدنيا في عينيها أكثر
زادت عصبية ركاب الحافلة بسبب طول الانتظار وعلت الأصوات من هنا وهناك كل مجموعة تتحدث في أمر ما بصوت أعلى من المجموعة الأخرى لدرجة أن سمر كادت أن تصرخ في الجميع بأعلى صوتها كي يكفوا عن الضجيج
ولكن في هذا الوقت بالذات قفزت في مخيلتها جملة كتبها الشاب على دفتره التي تحمله بين يديها الآن.. فقالت في نفسها ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) وبدأت فعلاً تتلو في سرها آيات من القرآن لطردت كل الأفكار السوداء التي كادت أن تفجر عقلها
لم تصدق سمر نفسها حين عادت إلى البيت .. ولم تكن تعرف أصلاً كيف قطعت المسافة من الطريق العام إلى منزلها .. ومن الذي رآها حين دخلت غرفتها .. وما إن ألقت بنفسها على السرير حتى غرقت في نوبة بكاء لا تنتهي
استيقظت سمر لحظة آذان الفجر كعادتها وما إن همت بالنهوض من فراشها حتى شعرت أن كل خلايا جسمها تصرخ ألماً .. مما جعلها تتراجع عن فكرة النهوض فظلت جالسة في فراشها .. و أدهشها كثيراً حين وجدت أختها الصغرى تنام بجوارها على غير عادة .. وأدهشها أكثر التاريخ الموجود تحت الساعة وكمية الأدوية الكثيرة التي بجوارها .. كل هذا دفعها بأن توقظ أختها التي تنام معها على نفس السرير .. ولكنها شعرت أيضاً أن حجراً ثقيلا يُعيق حركة لسانها .. فمدت يدها نحو أختها كي توقظها ففاجأها أكثر محلول الجلوكوز والإبرة المغروسة في ذراعها .. مما جعلها تسرع في إيقاظ أختها وما إن فعلت حتى قبلتها أختها وخرجت مسرعة من الغرفة تنادي على والدها
بعد أن علمت سمر أنها بقيت غائبةً عن الوعي أكثر من أسبوعين دون أن يعرف أحد سبب علتها باستثناء تخمين أحد الأطباء بأن ما حدث كان نوعاً من الانهيار العصبي بسبب صدمة عصبية أو حدث كبير تعرضت له .. ازدادت دهشتها أكثر وبدأت تبحث عن تفسير لما حدث أو تحاول أن تتذكر ما هو الحدث الذي سبب لها هذه الصدمة
كانت سمر في وضع غاية في الضعف بسبب الألم الذي تشعر به في جسمها وحركة لسانها الثقيلة وعينيها التي ألمهما الضوء .. حتى ذاكرتها بدت لها ضعيفة فهي لا تذكر شيء على الإطلاق
وبعد أن أخبرها والدها بأن هذه الحالة بدأت معها حين عادت من غزة .. قفزت كل ذكريات الحدث التي عاشته يومها دفعةً واحدة في ذهنها .. مما جعلها تُلقي بنفسها في حضن والدها وتغرق في نوبة بكاء شاركاها أختيها فيه دون أن يعلما ما هو السبب
أشعرها قرب والدها وأختيها منها بالأمان .. وهدأت أكثر حين بدأ والدها يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ماسحاً على رأسها وهو يتلو آيات من القرآن بصوت يغالب فيه نفسه عن البكاء
بعد أن هدأت سمر وحكت لوالدها وأختيها عن ما حدث لها في حاجز محفوظة بدت الدهشة على وجوه الجميع حين قال لها والدها بأن الشاب صاحب الهوية لم يمت وحتى أنه لم يُصاب .. وأدهشها أكثر حين قال لها أنه سأل عن الشاب عن بعد وأنه لم يجد أي شخص يزكيه بكلمة حسنة
فهمت سمر من والدها أنهم حين وجدوا الهوية في حقيبتها أصاب والدها القلق وقام بالسؤال عن صاحب الهوية فوجده شاب مستهتر لا تنطبق عليه كلمة واحدة من أخلاق الشاب التي ذكرتها سمر .. بل أنه لم يكن من سكان هذه المنطقة ولكن من وسط المدينة
فهمت سمر أن خلالاً ما قد حدث بشأن الهوية ولكنها لم تصدق ولو للحظةٍ واحدة أن الوصف الذي قاله والدها عن صاحب الهوية يمكن أن ينطبق على أخلاق الشاب الذي قتله اليهود أمام عينيها .. وبالرغم من أنها حاولت أن تعرف أي شيء عن ما حدث من خلال متابعة كل صفحات الجرائد التي صدرت أثناء غيبوبتها .. وتابعت أيضاً كل أسماء الشهداء الذين سقطوا في تلك الفترة ولكنها لم تصل إلى أي شيء يوصلها لحقيقة ما حدث
في مستشفى الشفاء بغزة
هل هو بخير ؟
الطبيب ..نعم .. لقد تخطى مرحلة الخطر وحين أفاق من غيبوبته اتصلنا بكم
ولكن لماذا لم تتصلوا بنا طوال هذه الفترة ؟
الطبيب .. لقد أحضرته سيارة الإسعاف منذ أسبوعين من على الحاجز غائباً عن الوعي و في حالة خطرة للغاية بسبب الدماء الكثيرة التي نزفها .. ولم نتعرف على اسمه إلا حين أفاق وأخبرنا هو بنفسه .. لأنه عندما وصلنا لم يكن معه ما يُستدل به على هويته
هل أستطيع أن أراه الآن ؟
الطبيب .. نعم يمكنك ذلك فقد زال عنه الخطر وحالته تتحسن بسرعة .. ولكن لا ترهقه كثيراً
كيف حالك اليوم يا حسام .. أخيراً جاء من يسأل عنك
حسام .. الحمد لله على كل حال
بعد أن غادر الطبيب ..كان اللقاء مؤثر جداً بين حسام وأخيه الذي لم يره منذ أن حدث له ما حدث في الحاجز .. وبعد أن حكى حسام باختصار لأخيه ما حدث ... سأله عن والدته و والده .. فأخبره أنهم لم يعلموا أي شيء عنه حتى هذه اللحظة كما أن والدته كانت تشعر بأن شيئاً قد حدث له مما تسبب في تردي وضعها الصحي .. وعلى الرغم من القلق الكبير الذي عاشته العائلة طوال أكثر من أسبوعين بسبب انقطاع أخباره .. إلا أن الجميع اتفق على أن يتم السؤال عنه في أضيق الحدود حتى لا تُثار أي شبهة حول اختفاءه
دخل الطبيب إلى الغرفة موجهاً حديثه لحسام بأن لا يتحدث كثيراً حتى لا يزول تأثير المسكن بسرعة ولكن حسام رجا الطبيب بأن يسمح له بالتحدث في الهاتف كي يكلم أمه بنفسه ويطمئنها .. ولكن الطبيب أصر على رفضه لعدم جواز استخدام الهاتف في غرفة العناية المركزة
طلب حسام من أخيه أن يحكي فقط لصديقه عمر عن ما حدث .. وشدد على أن يبقي أمر وجوده داخل المستشفى سراً حتى لا يتسرب الخبر إلى أمه قبل ان يحدثها هو بنفسه فيطمئن قلبها .. فهو يخشى عليها من الصدمة لو نقل أحداً لها الخبر دون أن تسمع صوته
بعد أن خرج أخو حسام من غرفة العناية المركزة سأل الطبيب عن حال أخيه بالتفصيل .. فأخبره أنهم استأصلوا له إحدى كليتيه وأخرجوا من جسده سبعة رصاصات .. ولكنه طمأنه أن بنيان جسمه سيساعده على التماثل للشفاء بسرعة كما أنه يتوقع أن يقرر الأطباء غداً خروجه من غرفة العناية المكثفة
في اليوم التالي خرج حسام بالفعل من غرفة العناية المركزة ولم يمر الكثير من الوقت حتى زاره أحد أصدقائه من غزة برفقة شاب آخر لا يعرفه
تهللت أسارير حسام حين رأى صديقه أيمن وكاد أن ينهض كي يعانقه ولكنه بقي في مكانه بسبب الألم الذي شعر به
كان لقاء حسام بأيمن حميم وغير عادي تبادلا فيه كعادتهم النكات .. ومع كل سؤال يطرحه أيمن .. كانت نظرات حسام تتنقل بتساؤل بينه وبين الشاب المرافق لأيمن .. حتى فهم أيمن هذه النظرات فقال :
أعرفك بأخيك في الله الأخ طارق حميد من مخيم النصيرات وهو أحد رجال كتائب القسام الذين نركن عليهم في المهمات الصعبة
بدا الحرج على وجه طارق وقبل أن يعلق واصل أيمن حديثه قائلاً :
وهذا أخوك في الله حسام أحد أفراد وحدة مكافحة الإرهاب القسامية
طارق ضاحكاً .. أول مرة أسمع بأن هناك وحدة مكافحة إرهاب تابعة للكتائب .. هل تقصد أن مهمتها تفريق المظاهرات
حسام .. الآن عرفت أنك من الفريق حقاً .. فروح الدعابة وباء يُصيب كل من يدخل الفريق القسامي
أيمن موجهاً حديثه لطارق .. الحقيقة أنه تم تأسيسها حديثاً ولكن ليس لتفريق المظاهرات .. فنحن نطمح أن تكون عملياتها من النوع الذي يصنع المظاهرات وخاصةً مظاهرات الفرح والبهجة
طارق .. نسأل الله تعالى أن تكون أعمالنا خالصة لوجهه تعالى
حكى حسام لأيمن ما حدث معه بالتفصيل في الحاجز وكان طارق يتابع باهتمام بالغ وكأنه يقرأ الحروف من فم حسام قبل أن يسمعها
طارق .. حين كنت داخل الحاجز ألم تلاحظ أي ثغرة يمكن النفاذ منها لتنفيذ عملية
حسام .. للأسف الموقع محصن بصورة مبالغ فيها وكل مرة كنت أمر منه أحاول أن أجد ثغرة فيه ولكن دون جدوى .. وحتى حين أجد منفذ .. يكون العمل فيه صعب للغاية بسبب اتخاذ الجبناء من المسافرين عبر الحاجز دروعاً لهم
أيمن .. ولكن لماذا حاولت استفزاز الجنود بالرغم من أنك تعلم أن هذا ممكن أن يعرضك لكشف هويتك الحقيقية
طارق .. هل الأخ حسام مطلوب ؟
حسام مجيباً على تساؤل طارق .. ليس بالضبط ولكن بسبب التحركات وبعض الظروف التي مرت بي تستطيع أن تقول أني ورقة محروقة في منطقتي وهذا يعطيك مؤشر أن الصهاينة قد يكونون على علم بما نفعل لذلك استخدم هوية مزيفة إذا دعت الحاجة للذهاب إلى غزة
أيمن .. وبدلاً من أن تحافظ على هويتك المزيفة قمت بهذا العمل الذي لولا إرادة الله لكنت الآن إما من الشهداء أو من الأسرى
حسام .. مشهد عشرة جنود يقفون أمامك دون دروع أو دبابات مغر للغاية .. فهذا المشهد لا نراه أبداً في القطاع .. لذلك خطرت لي فكرة أن استفزهم حتى أستطيع الاقتراب من أحدهم أو هو يقترب مني فأخطف سلاحه وتكون العملية جاءت لوحدها بدون أي تخطيط
طارق .. وهل سيكون لديك الوقت كي تجرد الجندي من سلاحه وتستخدمه ؟
حسام .. لم أكن أنوي تجريده من سلاحه .. كنت سأستخدمه وهو معلق في رقبته وسيساعدني وجوده بجواري على تلقي بعض الرصاصات نيابة عني حتى أكون أفرغت مخزن سلاحه فيهم واعتمدت كثيراً في خطتي على عنصر المفاجئة ولكن مع الأسف لم يقترب منهم أي واحد مني
طار ق .. فكرتك جيدة إلى حد ما ولكنها تحتاج لجسم قوي كي لا يتأثر بحركة الجندي الذي ستستخدم سلاحه حين يحاول أن يخلص نفسه منك
أيمن .. من هذه الناحية يمكنك أن تطمئن .. فحسام يتمتع بقدرات قتالية عالية كما أن جسمه قوي جداً .. ثم قطع حديثه وضحك ناظراً لحسام وقال .. أقصد كان قوي
حسام غامزاً .. لن يمر الكثير من الوقت مع طعام أمي حتى يعود أقوى مما كان
استمر الحديث بين حسام وطارق وايمن الذي رتب كل شيء بخصوص تواجد حسام في المستشفى وتطوع طارق الذي أعجبته شخصية حسام وارتاح له كثيراً بأن يلازمه في غرفته طوال فترة مكوثه في المستشفى
استطاع حسام أن يتحدث مع والدته على الهاتف وأخبرها أنه بخير وأنه سيغادر المستشفى قريباً .. وبالرغم من إصرار حسام على أن لا تأتي أمه أو أبيه من خان يونس إلى غزة بسبب الحاجز .. إلا أنها كانت تأتي دائماً بالرغم من ظروفها الصحية وكبر سنها
خلال مدة مكوث حسام في المستشفى توطدت العلاقة كثيراً بينه وبين طارق ونشأت بينهما صداقة حميمة للغاية من نوع فريد .. نوع قسامي
بعد أن تماثل حسام للشفاء أصر طارق أن يقيم عنده في البيت فترة من الوقت ولكن حسام أصر أن يبدأ بها طارق أولاً ثم يردها له فيما بعد
استطاع حسام أخيراً أن يعود إلى بيته واكتشف أن والده قام بتأثيث شقته التي بناها له كي يتزوج فيها .. كان حسام يعلم بنيته والده الذي يرى أن الرجل لا يصبح رجلاً مسئول عن تصرفاته إلا حين يتزوج .. وكان يعلم أيضاً أن والده غير راضي عن تصرفاته لأنه يعتبر ما يظن أن حسام يفعله هو شيء من التهور والاندفاع الغير محسوب عواقبه
كلف والد حسام أمه أن تقنعه هذه المرة بضرورة الإسراع في الزواج .. مشدداً على أنه سيغضب عليه إن لم ينفذ طلبه .. وحاولت الأم بدورها أن تقنع ابنها برغبة والده ورغبتها كذلك .. ولكن حسام كان يراوغ معها كعادته مما جعل الأب يتدخل بشكل مباشر
أخوتك تزوجوا كلهم وهم أصغر منك في السن .. وهاهم يعيشون سعداء مستقرين وكل فيهم لديه أسرة
حسام يرد على كلام والده .. أنا لا أمانع في الزواج ولكن ليس الآن .. بعد الجامعة على الأقل .. كما أن ….
الوالد مقاطعاً .. أي جامعة التي تتحدث عنها ؟.. أنت تدرس عام وتجلس دون دراسة عامين .. ثم حتى لو حصلت على الشهادة فماذا ستفعل بها وأنت لديك عملك .. أم أن العمل معي ومع أخوتك لا يروق لك
حسام .. على العكس تماماً .. حتى حين أحصل على الشهادة سأبقى أعمل معكم كما أنا ولكن ..
والد حسام مقاطعاً مرةً أخرى .. أنا اعرف ماذا يدور في رأسك وكل ما تقوله لن يقنعني .. وبالنسبة لي ستكون آخر مرة أتحدث معك في مثل هذا الأمر .. وثق تماماً أنها ستكون في أي أمر آخر .. لقد جهزت لك شقتك كما فعلت مع أخوتك وأفضل .. وليس أمامك الآن إلا أن تختار رضاي أو سخطي
ظل حسام صامتاً خشية أن يقول كلمة تُزعج والده .. ولكن والد حسام شعر أن حسام لم يقتنع بكلامه فخاطبه بنبرة الأب الخائف على ابنه قائلاً :
يا بني صدقني أنا أبحث عن مصلحتك ويهمني أمرك .. كما إني أخشى أن أموت دون أرى أبنائك .. أ كثير عليك لو نفذت لي هذا الطلب وأنت الذي كنت دائماً الابن البار المطيع ؟..
كان واضحاً من أن والد حسام مصمم هذه المرة على تزويج حسام خاصةً بعد ما حدث له .. فهو يشعر أن حسام يقوم بشيء ما يعرض حياته للخطر .. ويرى أن حسام لن يعقل عن طيشه إلا بالزواج
بعد انتهاء مناقشة حسام مع والده .. خرج من البيت لزيارة صديقه عمر الذي عرف بمجرد رؤية حسام أن هماً أو مشكلة تواجه حسام فسأله قائلاً : .. ما بك ؟
حسام .. أبي مصمم هذه المرة أكثر من أي وقت مضى على موضوع الزواج
عمر .. لا أعرف ما سبب رفضك لفكرة الزواج و وضعك يساعدك على تأسيس بيت وأسرة
حسام .. أنت تعلم أننا نتعرض للموت كثيراً فهل من هم في مثل حالنا يمكنهم أن يؤسسوا أسرة وهم يعلمون أن حياتهم دائماً في خطر
عمر .. و هل اطلعت على الغيب وعرفت ميقات أجلك ؟
حسام .. أعلم أن الأعمار بيد الله .. ولكن أن تربط حياتك المعرضة دائماً بالخطر بحياة إنسان دون أن يعرف أن هذا الارتباط سيعرضه هو أيضاً للخطر يعتبر أنانية .. وطبعاً من غير المعقول أن تقول لمن سترتبط بها أنك أحد أفراد الكتائب
عمر وهو يبتسم .. كلامك يعني أن كل المجاهدين المتزوجين أنانيين .. ولعلك تقصدني بحديثك
حسام .. طبعاً لا أقصدك .. فأنت حين تزوجت كان الجميع يعلم أنك مطلوب كما أن لكل واحداً منا ظروفه وحساباته
عمر .. وما هي حساباتك بالضبط ؟
حسام .. لا أخفيك سرا أنني أتسائل : لو أن الله رزقني بأطفال ثم استشهدت كيف سيكون حالهم وحال أمهم من بعدي ..أفكر في هذا كثيراً خاصةً حين أشاهد اليتامى والأرامل هنا وهم يقضون أيامهم أمام هذه الجمعية وأمام هذه المؤسسة كي يحصلوا على ما يسد رمقهم .. فأقول في نفسي : طالما أن وجهتي نحو الشهادة فلماذا أترك من يعاني من بعدي
عمر .. ليس أنت من تقول في نفسك هذا .. بل هو الشيطان حين يوسوس لك .. كأنك نسيت أننا نسير على نهج قدوتنا صلى الله عليه وسلم .. وهو القائل من رغب عن سنتي فليس مني .. أم نسيت أن قائد المجاهدين كان متزوج و يجاهد في الصفوف الأولى .. ثم أن كلامك هذا يعني أن الزواج والإنجاب يتوقف على القاعدين عن الجهاد ..ألم تقل قبل قليل لو أن الله رزقني بأطفال !!.. فمادمت تعرف أن الله رزقك إياهم .. أيليق بك وأنت تؤمن بالله أن تظن أن من خلقهم سينساهم
حسام .. أعترف أن الحق معك في كل كلمة قلتها .. ولكن كلما شاهدت هؤلاء اليتامى وما يؤول له حالهم …
عمر مقاطعاً .. اليتامى والأرامل في كل مكان .. في فلسطين وغيرها .. بجهاد وبدون جهاد اليتامى في كل مكان .. وكم من يتامى يعيشون في هذه الدنيا وأهاليهم مازالوا أحياء .. كما أن اليتم لا يقتصر على أبناء المجاهدين وحدهم دون غيرهم
عاد حسام إلى المنزل بعد حوار طويل مع عمر فوجد أمه مستيقظة في انتظاره تسأله عن ما حدث بينه وبين والده .. وانتهى الحديث مع والدته بقوله افعلوا ما تروه مناسباً
في الصباح كان والد حسام يبدو عليه الفرح والسرور .. ربما لأن زوجته أخبرته بموافقة حسام على فكرة الزواج فطلب منها أن تقوم بالبحث له عن عروس في أقرب فرصة قبل أن يُغير رأيه
لم يعد ذلك المشهد الذي كانت تراه سمر من نافذة غرفتها كما كان في السابق .. فكل شيء تغير في عينيها منذ ذلك الحادث على الحاجز .. فبدا لها المشهد أشبه بلوحة سريالية لونتها فرشاة الهذيان والقلق والصمت .. تنتحب فيها الألوان بعويل جدائل سعف النخيل ويحيط بها إطار التوجس الظنون
كانت تعي أن ما هي فيه مجرد تجربة وليس نهاية العالم .. ولكن في كل مرة تحاول أن تخلص نفسها من هذه الحالة تجد أن وحدتها وضعفها يزداد أكثر
وكان هذا الضعف هو أكثر ما تكرهه .. خاصةً وأن شعورا بالذنب تجاه ذلك الشاب الذي لم تعرف عنه أي شيء يلازمها باستمرار .. فكلما حاولت نسيان الأمر تقفز صورة ذلك الشاب في ذهنها لحظة أن تحدى الجنود ورفض الانصياع إلى أوامرهم .. وبالرغم من أنها تحاول أن تستمد من هذا المشهد شعوراً بالتحدي والصمود .. كان هو نفس المشهد يُعيد إليها الشعور بالذنب كأنها السبب فيما حدث له
هل ستبقين هكذا طويلاً
كانت هذه كلمات والدها الذي لم تشعر بقدومه حين دخل غرفتها بالرغم من استئذانه
سمر .. أهلاً أبي .. ماذا قلت ؟
الوالد .. كنت أقول إلى متى ستبقين هكذا شاردة الذهن تقضين أغلب وقتك في غرفتك .. حتى الجامعة انقطعت عنها بالرغم من حماسك لها
سمر .. معك حق يا أبي .. ابتداءً من الغد إن شاء الله سأذهب إلى الجامعة .. أما عن المادة الأخرى في غزة .. فيمكنني تأجيلها حتى يهدئ الحال أو ينسحبوا كما يزعمون
الوالد .. هناك أمر أريد أن أفاتحك به بالرغم من علمي بموقفك منه
سمر .. تفضل يا أبي
الوالد .. غداً سيزورنا عمك أبو هشام هو وزوجته ومعهم ابنهم أصغر أبنائهم
سمر .. نعم فهمت .. ولكن أنت تعلم أني أؤجل هذا الأمر حتى انتهي من الدراسة
الوالد .. نعم أعرف .. ولكن كما تعلمين أن عمك أبو هشام من أكبر رجال العائلة وهو ابن عم أبي كذلك .. أي أنه في مقام عمي ..ولا أستطيع أن أقول له : لا تأتي .. خاصةً وهو لم يفاتحني في الموضوع صراحة .. ولكن واضح حسب تقاليدنا أنهم سيأتون كي يراك العريس وتريه ثم تبدأ بعدها المراسم الرسمية في التقدم لطلب يد العروس
سمر .. أول مرة أعرف أن عمي أبو هشام له ابن لم يتزوج بعد .. فعلى حسب علمي أنه يزوج أبنائه وهم في سن صغير
الوالد .. هو لديه ابن لم يتزوج فعلاً .. وإن رفضته فلن ألومك .. لأنه حسب ما يشاع عنه يعمل في صفوف المقاومة .. وأظن أنه أُصيب مؤخراً في عملية ولو أن أهله يقولون : أنه أُصيب برصاصة طائشة فوق سطح منزله
سمر .. عموماً رفضي لن يكون لهذا السبب ففكرة الزواج عندي مؤجلة حتى انتهي من الدراسة
الوالد .. عمتك تقول أن الشاب على خلق ومشهود له بأنه من خيرة أبناء العائلة وعلى ما أذكر أن اسمه حسام
تقدم الضابط نحو السيارة مطلقاً رصاصة في الهواء ثم صرخ في الركاب بأن يصمتوا
بعد أن ساد الصمت داخل السيارة .. ألقى الضابط بطاقات الركاب في وجه السائق طالباً منه أن يغادر المكان فوراً مهدداً إياه بأنه سيقتل كل من في السيارة إن بقيت دقيقة واحدة
تحركت السيارة لتغادر وكر الأفاعي بإطارها المثقوب كقارب عجوز يترنح بين الأمواج بشراع مكسور
لم يتوقف بكاء الركاب وحسرتهم على الشاب طيلة وقت المسافة التي قطعتها السيارة كي تخرج من هذا الحاجز اللعين .. وما إن خرجت السيارة من طرف الحاجز الآخر حتى أوقفها السائق فهو لن يستطيع المسير بها أكثر من ذلك
على الطرف الأخر من الحاجز تجمعت عشرات السيارات في طابور طويل امتد لمئات الأمتار .. غادر الركاب السيارة حاملين صدمتهم وتجربتهم المريرة مع الحاجز وتفرقوا بين زحام السيارات التي تنتظر دورها لعبور الحاجز نحو الجنوب
قبل أن تبتعد سمر عن السيارة ناد عليها السائق .. وأعطاها هوية الشاب و الكتب التي كانت بحوزته .. طالباً منها أن تبحث عن أهله بما أنهما صعدا السيارة من منطقة واحدة
لم تمانع سمر من قبول المهمة بالرغم من صعوبتها .. وقبل أن ينه السائق حديثه كانت يدها تمتد لتناول منه متعلقات الشاب كمن يتسلم شيء مقدس بالغ الأهمية
تركت سمر السائق ومضت في طريقها تبحث وسط عشرات السيارات المتوقفة عن مكان شاغر كي تعود إلى بيتها حتى وجدت إحدى الحافلات المتوقفة فصعدت إليه لتبدأ رحلة جديدة من العذاب نحو حاجز الموت
ما زالت الصدمة تؤثر على سمر التي تحجرت عيناها بالرغم من رغبتها الشديدة في البكاء .. ومع أن حالها قد لفت نظر إحدى النساء التي دفعها الفضول كي تسألها عن حالها .. لكن سمر لم تكن في وضع يسمح لها بأن تُجيبها أو تتحدث بكلمة واحدة بسبب تأثير الصدمة
كل شيء توقف فجأة عند سمر لدرجة أنها لأول مرة تعرف المعنى الحقيقي لكلمة عجز .. وتأكد لها أنها بين قاب قوسين أو أدنى من الجنون أو أن شللاً سيصيب دماغها الذي تزاحمت به الأفكار في صراع داخلي يدفعها دفعاً نحو الانهيار .. كانت تستغرب وتندهش بشدة لمجرد أنها تسمع أي شخص من الركاب يضحك و كأنه يرتكب أكبر الكبائر أمام الناس دون أي حياء وخجل .. لدرجة أنها شعرت بوحدة شديدة وأن كل هذا العالم أصبح ضدها .. وكلما تمادى تفكيرها نحو هذا الاتجاه أكثر.. تسود الدنيا في عينيها أكثر
زادت عصبية ركاب الحافلة بسبب طول الانتظار وعلت الأصوات من هنا وهناك كل مجموعة تتحدث في أمر ما بصوت أعلى من المجموعة الأخرى لدرجة أن سمر كادت أن تصرخ في الجميع بأعلى صوتها كي يكفوا عن الضجيج
ولكن في هذا الوقت بالذات قفزت في مخيلتها جملة كتبها الشاب على دفتره التي تحمله بين يديها الآن.. فقالت في نفسها ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) وبدأت فعلاً تتلو في سرها آيات من القرآن لطردت كل الأفكار السوداء التي كادت أن تفجر عقلها
لم تصدق سمر نفسها حين عادت إلى البيت .. ولم تكن تعرف أصلاً كيف قطعت المسافة من الطريق العام إلى منزلها .. ومن الذي رآها حين دخلت غرفتها .. وما إن ألقت بنفسها على السرير حتى غرقت في نوبة بكاء لا تنتهي
استيقظت سمر لحظة آذان الفجر كعادتها وما إن همت بالنهوض من فراشها حتى شعرت أن كل خلايا جسمها تصرخ ألماً .. مما جعلها تتراجع عن فكرة النهوض فظلت جالسة في فراشها .. و أدهشها كثيراً حين وجدت أختها الصغرى تنام بجوارها على غير عادة .. وأدهشها أكثر التاريخ الموجود تحت الساعة وكمية الأدوية الكثيرة التي بجوارها .. كل هذا دفعها بأن توقظ أختها التي تنام معها على نفس السرير .. ولكنها شعرت أيضاً أن حجراً ثقيلا يُعيق حركة لسانها .. فمدت يدها نحو أختها كي توقظها ففاجأها أكثر محلول الجلوكوز والإبرة المغروسة في ذراعها .. مما جعلها تسرع في إيقاظ أختها وما إن فعلت حتى قبلتها أختها وخرجت مسرعة من الغرفة تنادي على والدها
بعد أن علمت سمر أنها بقيت غائبةً عن الوعي أكثر من أسبوعين دون أن يعرف أحد سبب علتها باستثناء تخمين أحد الأطباء بأن ما حدث كان نوعاً من الانهيار العصبي بسبب صدمة عصبية أو حدث كبير تعرضت له .. ازدادت دهشتها أكثر وبدأت تبحث عن تفسير لما حدث أو تحاول أن تتذكر ما هو الحدث الذي سبب لها هذه الصدمة
كانت سمر في وضع غاية في الضعف بسبب الألم الذي تشعر به في جسمها وحركة لسانها الثقيلة وعينيها التي ألمهما الضوء .. حتى ذاكرتها بدت لها ضعيفة فهي لا تذكر شيء على الإطلاق
وبعد أن أخبرها والدها بأن هذه الحالة بدأت معها حين عادت من غزة .. قفزت كل ذكريات الحدث التي عاشته يومها دفعةً واحدة في ذهنها .. مما جعلها تُلقي بنفسها في حضن والدها وتغرق في نوبة بكاء شاركاها أختيها فيه دون أن يعلما ما هو السبب
أشعرها قرب والدها وأختيها منها بالأمان .. وهدأت أكثر حين بدأ والدها يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ماسحاً على رأسها وهو يتلو آيات من القرآن بصوت يغالب فيه نفسه عن البكاء
بعد أن هدأت سمر وحكت لوالدها وأختيها عن ما حدث لها في حاجز محفوظة بدت الدهشة على وجوه الجميع حين قال لها والدها بأن الشاب صاحب الهوية لم يمت وحتى أنه لم يُصاب .. وأدهشها أكثر حين قال لها أنه سأل عن الشاب عن بعد وأنه لم يجد أي شخص يزكيه بكلمة حسنة
فهمت سمر من والدها أنهم حين وجدوا الهوية في حقيبتها أصاب والدها القلق وقام بالسؤال عن صاحب الهوية فوجده شاب مستهتر لا تنطبق عليه كلمة واحدة من أخلاق الشاب التي ذكرتها سمر .. بل أنه لم يكن من سكان هذه المنطقة ولكن من وسط المدينة
فهمت سمر أن خلالاً ما قد حدث بشأن الهوية ولكنها لم تصدق ولو للحظةٍ واحدة أن الوصف الذي قاله والدها عن صاحب الهوية يمكن أن ينطبق على أخلاق الشاب الذي قتله اليهود أمام عينيها .. وبالرغم من أنها حاولت أن تعرف أي شيء عن ما حدث من خلال متابعة كل صفحات الجرائد التي صدرت أثناء غيبوبتها .. وتابعت أيضاً كل أسماء الشهداء الذين سقطوا في تلك الفترة ولكنها لم تصل إلى أي شيء يوصلها لحقيقة ما حدث
في مستشفى الشفاء بغزة
هل هو بخير ؟
الطبيب ..نعم .. لقد تخطى مرحلة الخطر وحين أفاق من غيبوبته اتصلنا بكم
ولكن لماذا لم تتصلوا بنا طوال هذه الفترة ؟
الطبيب .. لقد أحضرته سيارة الإسعاف منذ أسبوعين من على الحاجز غائباً عن الوعي و في حالة خطرة للغاية بسبب الدماء الكثيرة التي نزفها .. ولم نتعرف على اسمه إلا حين أفاق وأخبرنا هو بنفسه .. لأنه عندما وصلنا لم يكن معه ما يُستدل به على هويته
هل أستطيع أن أراه الآن ؟
الطبيب .. نعم يمكنك ذلك فقد زال عنه الخطر وحالته تتحسن بسرعة .. ولكن لا ترهقه كثيراً
كيف حالك اليوم يا حسام .. أخيراً جاء من يسأل عنك
حسام .. الحمد لله على كل حال
بعد أن غادر الطبيب ..كان اللقاء مؤثر جداً بين حسام وأخيه الذي لم يره منذ أن حدث له ما حدث في الحاجز .. وبعد أن حكى حسام باختصار لأخيه ما حدث ... سأله عن والدته و والده .. فأخبره أنهم لم يعلموا أي شيء عنه حتى هذه اللحظة كما أن والدته كانت تشعر بأن شيئاً قد حدث له مما تسبب في تردي وضعها الصحي .. وعلى الرغم من القلق الكبير الذي عاشته العائلة طوال أكثر من أسبوعين بسبب انقطاع أخباره .. إلا أن الجميع اتفق على أن يتم السؤال عنه في أضيق الحدود حتى لا تُثار أي شبهة حول اختفاءه
دخل الطبيب إلى الغرفة موجهاً حديثه لحسام بأن لا يتحدث كثيراً حتى لا يزول تأثير المسكن بسرعة ولكن حسام رجا الطبيب بأن يسمح له بالتحدث في الهاتف كي يكلم أمه بنفسه ويطمئنها .. ولكن الطبيب أصر على رفضه لعدم جواز استخدام الهاتف في غرفة العناية المركزة
طلب حسام من أخيه أن يحكي فقط لصديقه عمر عن ما حدث .. وشدد على أن يبقي أمر وجوده داخل المستشفى سراً حتى لا يتسرب الخبر إلى أمه قبل ان يحدثها هو بنفسه فيطمئن قلبها .. فهو يخشى عليها من الصدمة لو نقل أحداً لها الخبر دون أن تسمع صوته
بعد أن خرج أخو حسام من غرفة العناية المركزة سأل الطبيب عن حال أخيه بالتفصيل .. فأخبره أنهم استأصلوا له إحدى كليتيه وأخرجوا من جسده سبعة رصاصات .. ولكنه طمأنه أن بنيان جسمه سيساعده على التماثل للشفاء بسرعة كما أنه يتوقع أن يقرر الأطباء غداً خروجه من غرفة العناية المكثفة
في اليوم التالي خرج حسام بالفعل من غرفة العناية المركزة ولم يمر الكثير من الوقت حتى زاره أحد أصدقائه من غزة برفقة شاب آخر لا يعرفه
تهللت أسارير حسام حين رأى صديقه أيمن وكاد أن ينهض كي يعانقه ولكنه بقي في مكانه بسبب الألم الذي شعر به
كان لقاء حسام بأيمن حميم وغير عادي تبادلا فيه كعادتهم النكات .. ومع كل سؤال يطرحه أيمن .. كانت نظرات حسام تتنقل بتساؤل بينه وبين الشاب المرافق لأيمن .. حتى فهم أيمن هذه النظرات فقال :
أعرفك بأخيك في الله الأخ طارق حميد من مخيم النصيرات وهو أحد رجال كتائب القسام الذين نركن عليهم في المهمات الصعبة
بدا الحرج على وجه طارق وقبل أن يعلق واصل أيمن حديثه قائلاً :
وهذا أخوك في الله حسام أحد أفراد وحدة مكافحة الإرهاب القسامية
طارق ضاحكاً .. أول مرة أسمع بأن هناك وحدة مكافحة إرهاب تابعة للكتائب .. هل تقصد أن مهمتها تفريق المظاهرات
حسام .. الآن عرفت أنك من الفريق حقاً .. فروح الدعابة وباء يُصيب كل من يدخل الفريق القسامي
أيمن موجهاً حديثه لطارق .. الحقيقة أنه تم تأسيسها حديثاً ولكن ليس لتفريق المظاهرات .. فنحن نطمح أن تكون عملياتها من النوع الذي يصنع المظاهرات وخاصةً مظاهرات الفرح والبهجة
طارق .. نسأل الله تعالى أن تكون أعمالنا خالصة لوجهه تعالى
حكى حسام لأيمن ما حدث معه بالتفصيل في الحاجز وكان طارق يتابع باهتمام بالغ وكأنه يقرأ الحروف من فم حسام قبل أن يسمعها
طارق .. حين كنت داخل الحاجز ألم تلاحظ أي ثغرة يمكن النفاذ منها لتنفيذ عملية
حسام .. للأسف الموقع محصن بصورة مبالغ فيها وكل مرة كنت أمر منه أحاول أن أجد ثغرة فيه ولكن دون جدوى .. وحتى حين أجد منفذ .. يكون العمل فيه صعب للغاية بسبب اتخاذ الجبناء من المسافرين عبر الحاجز دروعاً لهم
أيمن .. ولكن لماذا حاولت استفزاز الجنود بالرغم من أنك تعلم أن هذا ممكن أن يعرضك لكشف هويتك الحقيقية
طارق .. هل الأخ حسام مطلوب ؟
حسام مجيباً على تساؤل طارق .. ليس بالضبط ولكن بسبب التحركات وبعض الظروف التي مرت بي تستطيع أن تقول أني ورقة محروقة في منطقتي وهذا يعطيك مؤشر أن الصهاينة قد يكونون على علم بما نفعل لذلك استخدم هوية مزيفة إذا دعت الحاجة للذهاب إلى غزة
أيمن .. وبدلاً من أن تحافظ على هويتك المزيفة قمت بهذا العمل الذي لولا إرادة الله لكنت الآن إما من الشهداء أو من الأسرى
حسام .. مشهد عشرة جنود يقفون أمامك دون دروع أو دبابات مغر للغاية .. فهذا المشهد لا نراه أبداً في القطاع .. لذلك خطرت لي فكرة أن استفزهم حتى أستطيع الاقتراب من أحدهم أو هو يقترب مني فأخطف سلاحه وتكون العملية جاءت لوحدها بدون أي تخطيط
طارق .. وهل سيكون لديك الوقت كي تجرد الجندي من سلاحه وتستخدمه ؟
حسام .. لم أكن أنوي تجريده من سلاحه .. كنت سأستخدمه وهو معلق في رقبته وسيساعدني وجوده بجواري على تلقي بعض الرصاصات نيابة عني حتى أكون أفرغت مخزن سلاحه فيهم واعتمدت كثيراً في خطتي على عنصر المفاجئة ولكن مع الأسف لم يقترب منهم أي واحد مني
طار ق .. فكرتك جيدة إلى حد ما ولكنها تحتاج لجسم قوي كي لا يتأثر بحركة الجندي الذي ستستخدم سلاحه حين يحاول أن يخلص نفسه منك
أيمن .. من هذه الناحية يمكنك أن تطمئن .. فحسام يتمتع بقدرات قتالية عالية كما أن جسمه قوي جداً .. ثم قطع حديثه وضحك ناظراً لحسام وقال .. أقصد كان قوي
حسام غامزاً .. لن يمر الكثير من الوقت مع طعام أمي حتى يعود أقوى مما كان
استمر الحديث بين حسام وطارق وايمن الذي رتب كل شيء بخصوص تواجد حسام في المستشفى وتطوع طارق الذي أعجبته شخصية حسام وارتاح له كثيراً بأن يلازمه في غرفته طوال فترة مكوثه في المستشفى
استطاع حسام أن يتحدث مع والدته على الهاتف وأخبرها أنه بخير وأنه سيغادر المستشفى قريباً .. وبالرغم من إصرار حسام على أن لا تأتي أمه أو أبيه من خان يونس إلى غزة بسبب الحاجز .. إلا أنها كانت تأتي دائماً بالرغم من ظروفها الصحية وكبر سنها
خلال مدة مكوث حسام في المستشفى توطدت العلاقة كثيراً بينه وبين طارق ونشأت بينهما صداقة حميمة للغاية من نوع فريد .. نوع قسامي
بعد أن تماثل حسام للشفاء أصر طارق أن يقيم عنده في البيت فترة من الوقت ولكن حسام أصر أن يبدأ بها طارق أولاً ثم يردها له فيما بعد
استطاع حسام أخيراً أن يعود إلى بيته واكتشف أن والده قام بتأثيث شقته التي بناها له كي يتزوج فيها .. كان حسام يعلم بنيته والده الذي يرى أن الرجل لا يصبح رجلاً مسئول عن تصرفاته إلا حين يتزوج .. وكان يعلم أيضاً أن والده غير راضي عن تصرفاته لأنه يعتبر ما يظن أن حسام يفعله هو شيء من التهور والاندفاع الغير محسوب عواقبه
كلف والد حسام أمه أن تقنعه هذه المرة بضرورة الإسراع في الزواج .. مشدداً على أنه سيغضب عليه إن لم ينفذ طلبه .. وحاولت الأم بدورها أن تقنع ابنها برغبة والده ورغبتها كذلك .. ولكن حسام كان يراوغ معها كعادته مما جعل الأب يتدخل بشكل مباشر
أخوتك تزوجوا كلهم وهم أصغر منك في السن .. وهاهم يعيشون سعداء مستقرين وكل فيهم لديه أسرة
حسام يرد على كلام والده .. أنا لا أمانع في الزواج ولكن ليس الآن .. بعد الجامعة على الأقل .. كما أن ….
الوالد مقاطعاً .. أي جامعة التي تتحدث عنها ؟.. أنت تدرس عام وتجلس دون دراسة عامين .. ثم حتى لو حصلت على الشهادة فماذا ستفعل بها وأنت لديك عملك .. أم أن العمل معي ومع أخوتك لا يروق لك
حسام .. على العكس تماماً .. حتى حين أحصل على الشهادة سأبقى أعمل معكم كما أنا ولكن ..
والد حسام مقاطعاً مرةً أخرى .. أنا اعرف ماذا يدور في رأسك وكل ما تقوله لن يقنعني .. وبالنسبة لي ستكون آخر مرة أتحدث معك في مثل هذا الأمر .. وثق تماماً أنها ستكون في أي أمر آخر .. لقد جهزت لك شقتك كما فعلت مع أخوتك وأفضل .. وليس أمامك الآن إلا أن تختار رضاي أو سخطي
ظل حسام صامتاً خشية أن يقول كلمة تُزعج والده .. ولكن والد حسام شعر أن حسام لم يقتنع بكلامه فخاطبه بنبرة الأب الخائف على ابنه قائلاً :
يا بني صدقني أنا أبحث عن مصلحتك ويهمني أمرك .. كما إني أخشى أن أموت دون أرى أبنائك .. أ كثير عليك لو نفذت لي هذا الطلب وأنت الذي كنت دائماً الابن البار المطيع ؟..
كان واضحاً من أن والد حسام مصمم هذه المرة على تزويج حسام خاصةً بعد ما حدث له .. فهو يشعر أن حسام يقوم بشيء ما يعرض حياته للخطر .. ويرى أن حسام لن يعقل عن طيشه إلا بالزواج
بعد انتهاء مناقشة حسام مع والده .. خرج من البيت لزيارة صديقه عمر الذي عرف بمجرد رؤية حسام أن هماً أو مشكلة تواجه حسام فسأله قائلاً : .. ما بك ؟
حسام .. أبي مصمم هذه المرة أكثر من أي وقت مضى على موضوع الزواج
عمر .. لا أعرف ما سبب رفضك لفكرة الزواج و وضعك يساعدك على تأسيس بيت وأسرة
حسام .. أنت تعلم أننا نتعرض للموت كثيراً فهل من هم في مثل حالنا يمكنهم أن يؤسسوا أسرة وهم يعلمون أن حياتهم دائماً في خطر
عمر .. و هل اطلعت على الغيب وعرفت ميقات أجلك ؟
حسام .. أعلم أن الأعمار بيد الله .. ولكن أن تربط حياتك المعرضة دائماً بالخطر بحياة إنسان دون أن يعرف أن هذا الارتباط سيعرضه هو أيضاً للخطر يعتبر أنانية .. وطبعاً من غير المعقول أن تقول لمن سترتبط بها أنك أحد أفراد الكتائب
عمر وهو يبتسم .. كلامك يعني أن كل المجاهدين المتزوجين أنانيين .. ولعلك تقصدني بحديثك
حسام .. طبعاً لا أقصدك .. فأنت حين تزوجت كان الجميع يعلم أنك مطلوب كما أن لكل واحداً منا ظروفه وحساباته
عمر .. وما هي حساباتك بالضبط ؟
حسام .. لا أخفيك سرا أنني أتسائل : لو أن الله رزقني بأطفال ثم استشهدت كيف سيكون حالهم وحال أمهم من بعدي ..أفكر في هذا كثيراً خاصةً حين أشاهد اليتامى والأرامل هنا وهم يقضون أيامهم أمام هذه الجمعية وأمام هذه المؤسسة كي يحصلوا على ما يسد رمقهم .. فأقول في نفسي : طالما أن وجهتي نحو الشهادة فلماذا أترك من يعاني من بعدي
عمر .. ليس أنت من تقول في نفسك هذا .. بل هو الشيطان حين يوسوس لك .. كأنك نسيت أننا نسير على نهج قدوتنا صلى الله عليه وسلم .. وهو القائل من رغب عن سنتي فليس مني .. أم نسيت أن قائد المجاهدين كان متزوج و يجاهد في الصفوف الأولى .. ثم أن كلامك هذا يعني أن الزواج والإنجاب يتوقف على القاعدين عن الجهاد ..ألم تقل قبل قليل لو أن الله رزقني بأطفال !!.. فمادمت تعرف أن الله رزقك إياهم .. أيليق بك وأنت تؤمن بالله أن تظن أن من خلقهم سينساهم
حسام .. أعترف أن الحق معك في كل كلمة قلتها .. ولكن كلما شاهدت هؤلاء اليتامى وما يؤول له حالهم …
عمر مقاطعاً .. اليتامى والأرامل في كل مكان .. في فلسطين وغيرها .. بجهاد وبدون جهاد اليتامى في كل مكان .. وكم من يتامى يعيشون في هذه الدنيا وأهاليهم مازالوا أحياء .. كما أن اليتم لا يقتصر على أبناء المجاهدين وحدهم دون غيرهم
عاد حسام إلى المنزل بعد حوار طويل مع عمر فوجد أمه مستيقظة في انتظاره تسأله عن ما حدث بينه وبين والده .. وانتهى الحديث مع والدته بقوله افعلوا ما تروه مناسباً
في الصباح كان والد حسام يبدو عليه الفرح والسرور .. ربما لأن زوجته أخبرته بموافقة حسام على فكرة الزواج فطلب منها أن تقوم بالبحث له عن عروس في أقرب فرصة قبل أن يُغير رأيه
لم يعد ذلك المشهد الذي كانت تراه سمر من نافذة غرفتها كما كان في السابق .. فكل شيء تغير في عينيها منذ ذلك الحادث على الحاجز .. فبدا لها المشهد أشبه بلوحة سريالية لونتها فرشاة الهذيان والقلق والصمت .. تنتحب فيها الألوان بعويل جدائل سعف النخيل ويحيط بها إطار التوجس الظنون
كانت تعي أن ما هي فيه مجرد تجربة وليس نهاية العالم .. ولكن في كل مرة تحاول أن تخلص نفسها من هذه الحالة تجد أن وحدتها وضعفها يزداد أكثر
وكان هذا الضعف هو أكثر ما تكرهه .. خاصةً وأن شعورا بالذنب تجاه ذلك الشاب الذي لم تعرف عنه أي شيء يلازمها باستمرار .. فكلما حاولت نسيان الأمر تقفز صورة ذلك الشاب في ذهنها لحظة أن تحدى الجنود ورفض الانصياع إلى أوامرهم .. وبالرغم من أنها تحاول أن تستمد من هذا المشهد شعوراً بالتحدي والصمود .. كان هو نفس المشهد يُعيد إليها الشعور بالذنب كأنها السبب فيما حدث له
هل ستبقين هكذا طويلاً
كانت هذه كلمات والدها الذي لم تشعر بقدومه حين دخل غرفتها بالرغم من استئذانه
سمر .. أهلاً أبي .. ماذا قلت ؟
الوالد .. كنت أقول إلى متى ستبقين هكذا شاردة الذهن تقضين أغلب وقتك في غرفتك .. حتى الجامعة انقطعت عنها بالرغم من حماسك لها
سمر .. معك حق يا أبي .. ابتداءً من الغد إن شاء الله سأذهب إلى الجامعة .. أما عن المادة الأخرى في غزة .. فيمكنني تأجيلها حتى يهدئ الحال أو ينسحبوا كما يزعمون
الوالد .. هناك أمر أريد أن أفاتحك به بالرغم من علمي بموقفك منه
سمر .. تفضل يا أبي
الوالد .. غداً سيزورنا عمك أبو هشام هو وزوجته ومعهم ابنهم أصغر أبنائهم
سمر .. نعم فهمت .. ولكن أنت تعلم أني أؤجل هذا الأمر حتى انتهي من الدراسة
الوالد .. نعم أعرف .. ولكن كما تعلمين أن عمك أبو هشام من أكبر رجال العائلة وهو ابن عم أبي كذلك .. أي أنه في مقام عمي ..ولا أستطيع أن أقول له : لا تأتي .. خاصةً وهو لم يفاتحني في الموضوع صراحة .. ولكن واضح حسب تقاليدنا أنهم سيأتون كي يراك العريس وتريه ثم تبدأ بعدها المراسم الرسمية في التقدم لطلب يد العروس
سمر .. أول مرة أعرف أن عمي أبو هشام له ابن لم يتزوج بعد .. فعلى حسب علمي أنه يزوج أبنائه وهم في سن صغير
الوالد .. هو لديه ابن لم يتزوج فعلاً .. وإن رفضته فلن ألومك .. لأنه حسب ما يشاع عنه يعمل في صفوف المقاومة .. وأظن أنه أُصيب مؤخراً في عملية ولو أن أهله يقولون : أنه أُصيب برصاصة طائشة فوق سطح منزله
سمر .. عموماً رفضي لن يكون لهذا السبب ففكرة الزواج عندي مؤجلة حتى انتهي من الدراسة
الوالد .. عمتك تقول أن الشاب على خلق ومشهود له بأنه من خيرة أبناء العائلة وعلى ما أذكر أن اسمه حسام