حاول السائق أن يوضح للضابط اليهودي أن شرطه صعب ويتنافى مع التقاليد العربية .. إلا أن الضابط الحقير أصر على شرطه قائلاً :
هذه مشكلتكم وحلها في أيديكم .. ثم نظر إلى سمر قائلاً بسخرية : أراهن أنها ستفعلها عن طيب خاطر .. فإن لم يكن من أجل وسامة الشاب فسيكون رحمةً ببقية الركاب .. غادر الضابط إلى حيث يقف بقية الجنود خلف المكعبات الأسمنتية وهو يقول : العرب لا يعجزون عن إيجاد المبرر لأي فعل حتى لو كانوا مرغمين عليه
خيم جو من الصمت على ركاب السيارة حتى تحولت إلى قبو من السكون لا يُسمع فيه سوى أنات الطفل الذي تحمله المرأة الجالسة بجوار سمر
تمنت سمر التي ألجمتها صدمة المفاجئة أن تبصق في وجه الضابط أو تشتمه ولكنها لم تستطع .. فهي لم تتخيل يوماً أن يخاطب لسانها لسان أي صهيوني لما تحمله في نفسها تجاههم من كره واحتقار .. فكيف بها ومعنى الكراهية يتجسد أمامها في جسد يشبه الإنسان
لم يكن لدى سمر أي فرصة للحديث كي تقول ما تمنت أن تقوله في ذلك الموقف .. ولم يكن قلبها الذي زادت نبضاته خوفاً وقلقاً أن يسمح لها بأن تقول كلمة واحدة .. فقد كانت تشعر أن دموعها ستسبقها لو فتحت فهما بأي كلمة ... ولهذا.. التزمت الصمت حتى لا يظهر ضعفها أو تخونها العبرات ..فانتهت إلى أن تُخفي خوفها وقلقها وراء صمتها وتُظهر أن ما حدث لا يعنيها في شيء وكأنها لم تسمعه
بدا لسمر أن نفسها قد هدأت حين اكتفت باللامبالاة التي أظهرتها أمام الركاب وأمام مرأى الجنود الواقفين بعيداً خلف دروعهم والذين علت أصواتهم ضحكاً وهم يتغامزون فيما بينهم كأنهم يراهنون على شيء
لكن سرعان ما زال هذا الشعور حين التفت السائق إلى سمر وقال لها: ما رأيك يا ابنتي فالأمر كله الآن بيدك
لم يكد السائق يُنهي جملته حتى شعرت بتسارع أنفاسها ورغبة قوية في البكاء تحاول عبثاً كبح جماحها .. ولكن الرجل العجوز الذي يجلس خلفها رد على السائق قبلها .. مما منحها الفرصة بان تعاود السيطرة على أعصابها مرةً أخرى واكتفت بالإنصات للحوار الدائر بين السائق والعجوز الذي لم يعجبه سؤال السائق وحديثه لسمر
أخيراً استقر الأمر على أن يصبر الجميع ويتركوا أمرهم لله لعل الملل يُصيب الجنود فيتركوهم يغادروا المكان
عاد الصمت مرةً أخرى يسود الموقف حتى قطعه بكاء الصغير الذي ذهبت محاولات أمه لإسكاته أدراج الرياح
استمر الحال على ما هو عليه أكثر من ساعة بين حديث السائق والرجل الجالس بجواره في أمور عادية والذي تبين أنه عقيد في جهاز أمني تابع للسلطة .. وكذلك استمر بكاء الطفل الذي لم ينقطع طوال هذه الساعة مما زاد أمه قلقاً عليه
لم تستطع أم الطفل التي بلغ بها قلقها وجزعها على صغيرها مبلغه .. فوجهت حديثها للسائق قائلةً :
إلى متى سنبقى هكذا ؟ .. ابني مريض و يحتاج لتغيير دماء واليوم موعده ويجب أن أذهب للمستشفى بسرعة
حاول السائق والعقيد أن يهدئا من روع الأم .. ولكن بكاء الصغير كان يمزق قلبها خوفاً عليه ويزداد خوفها أكثر حين يسكت
قررت الأم بأنها ستغادر السيارة وتقطع الحاجز سيراً على الأقدام قائلة لهم : أنها ليست بحاجة إلى بطاقة الهوية التي حجزوها
ولكن السائق نبهها أن لا تفعل حتى لا تعرض حياتها وحياة الركاب إلى الخطر
لم تكترث الأم بتنبيه السائق ولا رجاء الركاب .. فقد كان خوفها على طفلها يسيطر على كيانها .. فامتدت يدها إلى مقبض باب السيارة وفتحته كي تهم بالخروج .. وما كادت أن تفعل حتى انطلقت عشرات الرصاصات بجوار السيارة وفوق رؤوس الركاب مما جعلها ترجع إلى مكانها وهي تضم صغيرها في صدرها كأنها تريد حمايته من رصاصات الحقد الأعمى التي أطلقها جندي يجلس في برج مراقبة
لم يكد يرفع ركاب السيارة رؤوسهم حتى أحاط عدد من الجنود بالسيارة مصوبين بنادقهم نحو الركاب .. ثم تقدم ذلك الضابط نحو السيارة سائلاً بالعربية : من فتح الباب ؟
أرادت الأم أن تستدر شفقة الضابط وتخبره أن ابنها مريض وهو بحاجة للعلاج .. ولكن الضابط الذي لم يكترث بتوسلاتها .. هددها إن فعلت ذلك ثانيةً سيقتل طفلها أمام عينها مما جعلها تعتصر صغيرها في حضنها خوفاً عليه ممن نُزعت من قلوبهم الشفقة والرحمة
طلب الضابط من السائق أن يأمر الجميع بإغلاق نوافذ السيارة وأن يعطيه مفاتيح سيارته ثم قال له قبل أن يغادر :
كنت سأكتفي بأي قبلة وأترككم ترحلون .. ولكن بعد عنادكم لن أقبل بأقل من قبلة فرنسية ساخنة .. ثم التفت إلى سمر والشاب الذي يجلس بجوارها قائلاً بسخرية : سيساعدكما الجو الذي ستشعران به بعد قليل على خروج هذه القبلة كما ينبغي
أمر الضابط الصهيوني سائق السيارة أن يرفع هو أيضاً زجاج نافذته وحذره أن كل من سيفتح زجاج نافذته لن يسعفه الوقت كي يندم على فعلته .. ثم طلب من جندي المراقبة بلغته العبرية أن ينتبه لهم جيداً ويطلق النار على كل من يخرج من السيارة
لم تكن تتوقع سمر أن يكون اليهود بهذه الحقارة بالرغم من عشرات القصص التي سمعتها عنهم .. ولم يكن يخطر ببالها ولا حتى في كوابيسها أن يحدث لها هذا الموقف في أي يوم من الأيام .. وبالفعل تمنت أن يكون ما يحدث هو مجرد كابوس ستستيقظ منه وتجد نفسها في بيتها بجانب أختيها
لم يمر الكثير من الوقت حتى تحولت السيارة بسبب إغلاق النوافذ إلى ما يشبه الفرن بسبب أشعة الشمس والحرارة المنبعثة من أجسام الركاب وأنفاسهم .. كانت كل دقيقة تمر داخل السيارة تزيد الموقف سوء .... وكان أكثر المواقف مأساوية هو حال الأم التي بدا وكأنها ستُصاب بانهيار عصبي وهي ترى طفلها يبكي والعرق يتصبب منه بغزارة وهي غير قادرة أن تفعل له شيء
لم يكن حال سمر بأفضل من حالها .. فهي أيضاً شعرت أنها ستُصاب بالجنون من كثرة التفكير فيما لو أجبرها الركاب على أن تنفذ شرط الضابط .. فكانت تخشى أن تفتح فمها أو حتى تطلب من الأم أن تحمل عنها صغيرها بالرغم من شفقتها على حالها .. ولكنها خشيت أن ينطق أحدهم ويفتح معها الموضوع .. فعلى الرغم من أن لا ذنب لها فيما يجري .. إلا أن شعوراً داخلها بالذنب بدأ يتزايد كلما مر الوقت و كلما زاد الموقف مأساوية .. كانت متأكدة أن هذا الشعور أقوى وأعمق عند بقية الركاب خاصةً وقد شعرت ببعض الغمز حين تبادل السائق والعقيد الذي يجلس بجواره الحديث
وسط هذه المشاعر المختلطة من الخوف والقلق سرحت سمر في الشاب الذي يجلس بجوارها .. كانت تتمنى في قرارة نفسها أن تعرف فيما يفكر وما وجهة نظره في الأمر .. وكان يخجلها كثيراً مجرد الشعور انه ينظر إليها على الرغم من أنها لم تلتفت إليه ولا مرة منذ أن صعد إلى السيارة .. ولكن كان يطمئنها كثيراً الآيات القرآنية التي كان يخططها على جلدة كتابه حين كانت تختلس النظر إلى ما يكتب وهي مطرقة برأسها .. ولعل هذه الآيات وبعض كلمات الذكر التي كان يقوم بكتابتها جعلتها تكون فكرة عنه بأنه على خلق .. و ليس من الشباب المستهترين وهذه الفكرة بعثت في نفسها إلى حد ما شيء من الطمأنينة
انخلع قلب سمر من مكانه حين أخرجتها كلمات الشاب من شرودها موجهاً حديثه لها .... ولأنها لم تسمع جيداً .. حاولت أن تستجمع شجاعتها لتستفسر منه عن ما قاله فالتفت برأسها دون أن ترفع نظرها قائلةً له : …عفواً ؟
لأول مرة منذ أن صعدت سمر السيارة تفتح فمها لتنطق بكلمة .. ولكن الكلمة خرجت من فهما مرتعشة تعبر بوضوح عن ما يدور بداخلها .. هي نفسها لم تكن تتصور أن تخونها الحروف بهذه الطريقة في هذه الكلمة البسيطة وكأنها تسمع صوتها لأول مرة في حياتها
أعاد الشاب طلبه مرة أخرى قائلاً : لو سمحت ناوليني الطفل أحمله عن أمه قليلاً
امتدت يد سمر وهي تسمي باسم الله نحو الطفل الذي لم يتوقف عن البكاء ولم يكن أمام أمه الخائفة إلا أن تسلمه لسمر عن طيب خاطر أمام نظرات رجاءها
استلم الشاب من يد سمر الطفل وبدأ في وضع يده على رأسه يتمتم بكلمات خفيفة بدت كأنها قرآن .. العجيب أن الطفل توقف عن البكاء وبدأ يبتسم للشاب ويحاول أن يمد يده نحو وجهه .. وبدورها الأم أيضاً هدأت نفسها كثيراً حين رأت ابنها يتجاوب مع لعب الشاب الذي بدأ يحرك بركبته رتاج نافذة السيارة حتى دخل نسيم من الهواء البارد غير الجو الموجود في السيارة إلى حد ما
يبدو أن لك خبرة كبيرة مع الصغار .. فالطفل لم يسكت مع أمه وسكت معك
الشاب ضاحكاً من ملاحظة العجوز .. لدينا في المنزل جيش من الأطفال فلما لا تكون لي خبرة
العجوز .. ما شاء الله .. هل هم أخوتك ؟
الشاب .. لا يا جدي .. هم أبناء أخوتي فأنا أصغر أخوتي وجميعهم قد تزوجوا مبكراً حسب تقاليد العائلة .. لذلك فبيتنا مليء بالأطفال
السائق وقد شعر أن تيار من الهواء البارد بدأ يدخل السيارة .. لو سمحت يا أستاذ أغلق النافذة حتى لا تعرضنا للمشاكل
الشاب .. لو سمحت أنت أخفض صوتك حتى لا يعرفوا أن النافذة مفتوحة
السائق وقد أخفض صوته .. فعلتك هذه ستعرضنا جميعاً للخطر .. أرجوك أغلق النافذة قبل أن يراها الجنود
الشاب .. يا سيدي صعب أن يروا النافذة من ناحيتي ..كما أن بخار الماء الذي تكون على الزجاج المواجه لهم يصعب عليهم رؤيتنا .. عد أنت للنوم وحاول أن تخفض صوتك حتى لا ينتبه الجنود .. وليت الأستاذ الذي يجلس بجوارك يقوم بفتح جزء بسيط من النافذة التي بجواره
العقيد .. أرى أنك بدأت توجه الأوامر وكأنك القبطان ..أنسيت أنك سبب ما نحن فيه
الشاب مستغرباً .. وما دخلي أنا بما حدث ؟!!
العقيد .. لقد رأيت نظراتك الاستفزازية وأنت تنظر لذلك الضابط بتحدي أثناء التفتيش .. وأنا متأكد أن نظراتك تلك هي سبب ما نحن فيه
الشاب .. أخيراً وجدت سبب ما نحن فيه !!.. وما يدريك أنها نظراتي .. ربما هي أنفاسي أو لعلها أمي التي أنجبتني .. ثم قال ساخراً .. أعتقد أن المشكلة في أبي .. فلولا أنه تزوج أمي ما أنجبتني لأكبر ثم أصعد في هذه السيارة فيحجزوها
ضحك الصبي في الكرسي الخلفي من حديث الشاب وبدا أنه تشفى في العقيد ثم قال : أيضاً في هذا الحق عليك يا أخي .. فلو كنت رفضت زواج والدك من أمك لما حدث ما حدث
لكزت العجوز الصبي بيدها كي يصمت .. فاستدار الشاب إليه مازحاً
صدقني يا أخي لم يستشيرني أحد في هذا الزواج فلقد تم دون علم مني
أفلتت ضحكة من سمر رغماً عنها حاولت أن تخفيها بسعال مصطنع .. ولكن السائق لمحها في المرآة فقال :
جيد أن الأخت تعرف الضحك فقد كنت أظن أنها لا تسمع لأنها لم تتحدث بكلمة واحدة طيلة الوقت بالرغم من أن ما نحن فيه وما سيحدث متوقف كله عليها
كاد قلب سمر أن يتوقف بعد حديث السائق .. فعلى ما يبدوا أنها بداية المساومة على تنفيذ الشرط .. وما هي لحظات حتى اسودت الدنيا في عينيها خاصةً والعقيد قد تدخل في الأمر بمحاضرة طويلة عن العقلانية والانحناء للعاصفة و تنازل بسيط لن يضر
حاول العقيد وهو يتحدث مع السائق أن يقنع الفتاة قائلاً :
يمكنهم أن يفعلوا هذا من باب التمثيل كما يحدث في الأفلام .. وهذا لن يضرهم في شيء خاصةً ونحن نعرف أنهم مجبرين عليه وليس بإرادتهم
كان هذا ما تخشاه سمر .. فهاهي خطة الصهاينة الأوغاد تؤتي ثمارها بأول محاولة ضغط غير مباشرة كي تنفذ الشرط .. لم تستطع سمر الواثقة من نفسها والتي حسبت نفسها أقوى من ذلك بكثير أن ترد على كلمة واحدة من حديث العقيد للسائق .. وللوهلة الأولى شعرت أن ضعفها أكبر مما تصورت والذي بدا وضاحاً في دموعها التي بدأت تنساب من عينيها رغماً عنها .. خاصةً والعجوز الذي وقف معها في بداية الأمر صمت ولم يرد على كلمة واحدة من الحديث الدائر بين العقيد والسائق الذي يؤيده في كلامه
لكن الشاب الذي شعر بدموع سمر المطرقة رأسها وهي تتساقط في صمت على حقيبتها أراد أن يضع حداً لهذا الحوار فقال :
وفروا حديثكم هذا وانزعوا فكرة أن نقوم بإذلال أنفسنا بأيدينا .. فهذا لن يحدث حتى لو كانت نهايته الموت
تفاجئ الجميع من كلمات الشاب التي خرجت حاسمة وحازمة .. فخاطبه العقيد بنبرة ود قائلاً له :
يا بني .. نحن مغلوبون على أمرنا وطيلة الوقت أحاول أن أتصل بأحد دون جدوى لعله يجد لنا مخرجاً من هنا .. ولكن يبدو انهم يضعون جهاز للتشويش على الاتصالات في هذا المكان .. فلا تظن أننا نستسهل الأمر ونطالبكم بتنفيذه لمجرد أنهم طلبوا ذلك .. فنحن الآن لم يعد أمامنا خيار إلا أن ننهي هذه المأساة بأي طريقة
الشاب .. المأساة هي أن نستجيب للذل ونتعامل معه وكأنه جزء من يومياتنا فُرض علينا .. فأي معنى لهذه الحياة إن كنا نعيشها مغمسة بالذل .. و ثق تماماً أن ما يطلبه هذا الحقير لن يكون آخر المطاف .. فما ستتعود عليه اليوم وتعتبره أمر مفروض عليك .. سيجبرك أن تزيد عليه كي يشعر بإذلالك أكثر
العقيد .. أنت شاب .. وما يدفعك لقول هذا حمية الشباب كما أنك قادر على تحمل الوضع المفروض علينا .. ولكن .. ماذا عن هذه الأم المسكينة وطفلها المريض .. ماذا عن الرجل العجوز وزوجته الكبيرة في السن .. بعد قليل ستجد هذا الصبي يطلب الذهاب إلى الحمام .. وهذه الفتاة التي خرجت لجامعتها سيسأل عنها أهلها ويقلقون إن تأخرت أكثر من ذلك .. كل ما أطلبه منك قليلاً من العقلانية .. وأن تنظر للأمور نظرة مستقبلية
قاطعه الشاب قائلاً : .. نعم .. نظرت نظرة مستقبلية .. فوجدت أن حياة الذل والهوان هي الموت الحقيقي .. ولذلك لن أقبل بهذه الحياة حتى لو فُرضت علي .. فالموت بكرامة أفضل من حياة نتجرع فيها مرارة الذل .. فكيف بهذه الحياة ونحن ننساق فيها كي نذل أنفسنا بأيدينا .. ألا تعساً لهذه الحياة ومن يرضى بها
العقيد وكاد بلغ به الغضب مبلغه
كنا نقول حديثك هذا أيام الشباب .. ولكن التجربة أثبتت لنا أننا لو جارينا الأمور بعيداً عن هذه الشعارات لكان أفضل لنا .. وما تسميه الآن إذلال ستطلق عليه غداً صلف الاحتلال وغطرسته .. فنحن لا نملك من أمرنا شيئا وما نحن فيه فُرض علينا رغما عنا لا بإرادتنا
السائق وقد اقتنع بحديث العقيد .. فقال للشاب :
يا بني لا تعقد الأمور أكثر مما هي معقدة واستمع لرأي سيادة العقيد فهو لديه خبرة بالحياة أكثر منك .. ثم أن …
قطع السائق حديثه حين تحركت ناقلة الجند التي تقف أمام السيارة ودخلت سيارة أجرة جديدة إلى منطقة الحلابات للتفتيش
صمت الجميع وهم يراقبون الجنود الذين اتخذوا وضع الاستعداد بحماية أنفسهم خلف مكعبات الأسمنت مصوبين بنادقهم نحو السيارة الأخرى .. بينما نزل منها الركاب واحداً تلو الآخر وجميعهم يرفعون أيديهم فوق رؤوسهم استجابةً للنداء عبر مكبر الصوت
قام الجنود بتفتيش السيارة الجديدة بنفس الأسلوب.. وبعد أن تأكدوا أن السيارة وركابها خالية من أي مطلوبين أو مسلحين خرج الضابط من مكانه الحصين يتحدث مع سائق السيارة الأخرى بعد أن عاد الركاب إليها
بعد قليل نزل راكب من السيارة يبدو على مظهره وهندامه انه محاضر في الجامعة .. ثم توجه إلى ناقلة الجند المصفحة وهو يرفع يده إلى أعلى .. فطلب منه أحد المتواجدين في الناقلة عبر مكبر الصوت أن يقوم بتنظيف الدبابة بملابسه
حاول الرجل الذي لم يكن صوته مسموع أن يتفاهم مع قائد الناقلة ولكن الأخير وجه مدفعه الرشاش نحوه وقام بإطلاق صلية من الرصاص بالقرب منه على الأرض جعلت ركاب السيارتين يخفضون رؤوسهم ويحتمون ببعض من الرصاص
رفع ركاب السيارة رؤوسهم بعد أن توقف إطلاق النار ليجدوا أن زجاج السيارة الأمامي قد تكسر بالكامل بسبب الحصى الذي تناثر جراء إطلاق الرصاص ... وحين وجهوا أنظارهم نحو الرجل الذي ارتمى أرضاً ظنوا في البداية انه قد مات .. ولكنه قام حين صرخ به الجندي عبر مكبر الصوت لينفذ ما أمره به … فقام وخلع جاكيت بدلته واقترب من الدبابة العملاقة وبدأ يمسح ما تطال يده بها وسط ضحكات الجنود وسخريتهم
تناولت الأم من الشاب طفلها الذي استيقظ مفزوعاً على صوت الرصاص واحتضنته بلهفة مشفقةً عليه .. بينما انهمك السائق والعقيد بإزالة زجاج السيارة الذي تناثر عليهما .. وبالرغم من استياء السائق لما حدث لسيارته إلا أن الجو في السيارة تحسن كثيراً بعد أن سقط زجاج السيارة الأمامي بكامله
انطلقت اللعنات والشتائم والدعاء على اليهود من ركاب السيارة في همهمة ساخطة منخفضة ..كان جميعهم ينظرون بإشفاق إلى ذلك الرجل الذي يحاول جاهداً تنظيف الدبابة ببدلته من أكوام الوحل العالق بها
استمر المشهد ربع ساعة ثم طلبوا منه أن يعود للسيارة .. وبسبب ارتباكه .. أخطأ في السيارة وتوجه ناحية السيارة الأخرى مما جعل الجنود يضحكون أكثر .. فقال له أحدهم عبر مكبر الصوت إلى السيارة الأخرى يا###
شعرت سمر بشعور الرجل الذي بدت عينيه غارقة في الدموع حين اقترب من السيارة .. وكان واضحاً عليه تأثير الجرح العميق الذي مُنيت به كرامته حين امتهنها الجبناء المختبئين حلف دروعهم ورشاشاتهم الثقيلة
الآن فقط عرفت سمر شعور من يفجر جسده وسط الصهيانة
والآن فقط عرفت أن كل ما كان يُقال عن جرائمهم وخستهم لم يكن يوفيهم حق وصفهم
كم تمنت سمر أن يكون لديها حزام ناسف تفجر به نفسها فيهم وتفجر غضبها وحنقها معه ..
كانت تشعر أن كل خلية في جسدها تريد الانفجار غضباً وحنقاً وكرهاً .. ولقلة حيلتها وضعفها.. لم تجد نفسها ودون رغبةً منها إلا أن تضع يدها على وجهها وتنفجر باكية بمرارة لم تشعر بها في حياتها من قبل
يبدو أن بكاء سمر قد أثر في المرأة التي تجلس بجوارها فحاولت أن تخفف عنها ولكنها انهارت بدورها في البكاء تماماً كما فعلت العجوز
حاول العقيد مرةً أخرى أن يروج لفكرته في إنهاء الأمر وكان يضرب المثل بالرجل الذي نفذ ما طلبوه منه وهاهو الآن خارج الحاجز وبين أبناءه
طلب منه الشاب بغضب أن يصمت أو يذهب للجنود ويعرض عليهم أن يرقص عارياً بديلاً عن طلبهم السابق مما جعل العقيد يستشيط غضباً ويلتفت كي يضرب الشاب ولكن الشاب امسك يده واعتصرها بقبضته قائلاً له بحزم : إياك أن تجرب هذا معي
لم يكن أمام العقيد إلا الاستجابة والسكون خاصةً وقد شعر بالألم الشديد في يده وكأن قبضة من حديد قد أطبقت على معصمه
السائق .. ألا ترون أننا في موقف لا يسمح لنا بالشجار
الشاب .. قل لعقيدك هذا الكلام فهو يريدنا أن ننفذ ما يطلبه منا الجنود حتى لو استخدم معنا القوة لنستجيب لعقلانتيه
السائق .. يا بني أنت مازلت صغيراً ولا تعرف في الدنيا كما نعرف نحن
ونحن في سنك كنا مثلك ولم نكن نلتفت لنصائح الأكبر منا .. ولكن بعد أن كبرنا تبين لنا أن رأي الكبار أفضل من عنفواننا وجلدنا
قاطعه العجوز الذي كان يغالب النعاس موجهاً حديثه للسائق : .. بما أني أكبر منكما فأنا أقول لك أن الشاب معه حق في كل كلمة قالها .. واقترح عليكما إن كنتما لا تصبران .. أن تطلبا من الضابط أن ترقصان عاريين أو تنظفا لهم الأحذية
السائق مقاطعاً .. يا شيخ إن كانت لديك كلمة حسنة فقلها أو اصمت
ثم تابع السائق حديثه قائلاً : .
اقسم إن طلب مني ذلك لفعلت .. أنت لا تقدر الظرف فنحن في مكان حياتنا فيه بلا قيمة .. ويمكنهم ببساطة أن يقتلونا .. وما أسهل أن يلفقوا الأسباب التي ستتناقلها وسائل الإعلام وكأنها حقائق دامغة .. يا بني حين قال الضابط أننا سنبقى هنا يوم أو يومين أو أسبوع فهو لم يتحدث من فراغ .. بل هو يعني ما يقول ..فلا أحد يحاسبه هنا
العقيد .. الأسبوع الفائت قتلوا على الحاجز طفلة وهي في حضن أمها وتناثرت دماغ الطفلة على الركاب وأمها التي كانت ذاهبة لتسجلها في المدرسة لأول مرة .. وعلى الرغم من هذه الجريمة وفظاعتها .. لم تكن إلا مجرد رقم مع الشهداء أو جملة تمر في شريط الأخبار
احتضنت الأم التي سمعت كلام العقيد طفلها الصغير وازداد خوفها عليه لمجرد تصورها هذا المشهد
الشاب .. ألا تكف عن هذا الأسلوب .. هل سيتأخر أجلنا أو يتقدم لمجرد أن نستجيب لهم أو نرفض .. اعلم أيها العقيد أننا جميعنا سنموت في وقت معلوم ومحدد .. ولكننا مُخيرين إما أن نموت بشرف أو نختار ميتة الجبناء
العقيد .. وماذا تقترح علينا أن نفعل أيها المتحذلق المتحمس ؟
الشاب .. أقترح أن نصبر و ندعو الله على يقين بأن يخرجنا من هذه المحنة .. واعتبروا أن ما يحدث لنا هو مجرد ابتلاء بسيط بالنسبة لما يحدث لنساء وأطفال ورجال وشيوخ في المعتقلات والسجون .. ترى .. هل لو كنت معتقلاً وطلبوا منك أن تتعاون معهم مقابل خروجك من المعتقل الذي هو أسوأ بألف من مرة من حالنا هل كنت ستقبل ؟!
العقيد .. لا تفلسف الأمور فهذه ليست كتلك
الشاب .. بل هذه تؤدي إلى تلك .. وأنت وأمثالك أكثر الناس معرفة بهذا الأمر
طال الحديث بين الشاب والعقيد وانتهى وكلاهما لم يقنع الآخر بوجهة نظره .. ولكن السائق التقى مع العقيد في حوار طويل اختلط فيه صديد الفكر الواهم بصدأ العقول في حديث تناول قدرات اليهود وإمكانياتهم متجاهلين قدرة الله وإرادته ضمن عملية الحساب والتقدير
قطع العقيد والسائق حوارهما حين اقترب من السيارة عدد من الجنود بينهم الضابط يحيط بيده خصر مجندة تساويه في الرتبة
يبدو أن الملل قد أصابه أو أنه خسر الرهان مع جنوده فاقترب من السائق قائلاً بسخريته المقيتة :
أما زالت العروس ترفض منح حبيبها قبلة ؟
السائق برجاء .. صدقني أيها الضابط لن ينفذا هذا الطلب حتى لو متنا جميعاً .. فهذا عيب كبير في تقاليدنا والناس عندنا يفضلون الموت على أن يفعلوا مثل هذه…
قاطعه الضابط غاضباً هذه المرة .. ينفذان ؟!! .. من الذي ينفذان .. هل تقصد أن الشاب لن يسمح لها بتقبيله هو أيضاً ؟
العقيد .. لو سمحت يا كبتن .. أنا عقيد في السلطة وهذه بطاقتي ومعنا طفل مريض يجب أن يذهب إلى المستشفى الآن وعجوز مريض و…..
قاطعه الضابط قائلاً له : أخرس .. لا تتحدث بدون إذن .. ثم وجه حديثه للمجندة بالعبرية فضحكت برقاعة وكأن الأمر قد راق لها لتقول للشاب :
ألا تعجبك الفتاة ؟!! لماذا ترفض أن تقبلك .. هل هي فروسية العرب التي اندثرت أم هو الخجل
لم يرد الشاب على المجندة وبدا وكأنه لم يسمع شيئا مما جعلها تسأل السائق هل هو أصم ؟
نظر السائق إلى الشاب .. ثم قال للمجندة إنه يصلي فقد فات موعد صلاة الظهر
المجندة .. ولماذا لا تصلي أنت أيضاً ؟ .. أم أن له دين غير دينكم
السائق محاولاً تلطيف الجو مركناً على رتبة المجندة وكأنها قالت نكتة فقال :
.. لا لا .. هو نفس الدين .. ولكن يمكننا أن نصلي في أي وضع لو كنا مسافرين .. وكذلك يسمح لنا ديننا بأن نجمع بين الصلوات لو كان هناك ظروف
المجندة .. تسأل الضابط بالعبرية .. أليست صلاة المسلمين فيها حركات مثل .. وبدأت تُقلد بسخرية حركات المسلمين في الصلاة وسط ضحكات الجنود
انتهى الشاب من صلاته وأثناء تسليمه لمح سمر التي وضعت يدها على وجهها وكأنها غارقة في نوبة بكاء لا تنتهي
فسأله الضابط ما اسمك
الشاب .. اسمي عندكم في البطاقة
المجندة .. هل أنت حماس
الشاب .. لا
المجندة .. حسناً .. يمكنني أن أقنع رافي بتغيير الأدوار وبدلاً من إن تقبلك هي .. قبلها أنت .. ولا أظن أنها ستمانع خاصةً وأنت شاب وسيم
الشاب .. أولاً هي لن تسمح لي بهذا .. أما عن نفسي .. فما من قوة على الأرض يمكنها أن تجبرني على أن أفعل شيء كهذا ..فوفروا على أنفسكم طول الانتظار واذهبوا بمطالبكم القذرة إلى الجحيم
يبدو أن المجندة لم تفهم ما قاله الشاب.. ولكنها شعرت من تعبيرات وجهه أنه يشتمها فسألت الضابط أن يترجم لها فقال لها
لم أفهم أنا أيضاً
فأخبرها السائق أنه لم يقل شيء سوى أنه لن ينفذ شرطكم
لم تقتنع المجندة بكلام السائق .. فنادت على أحد الجنود والذي يبدو عليه أنه درزي فقالت للشاب : أعد ما قلته أمام زياد لو كنت رجلاً حقاً
اقترب زياد الدرزي من السيارة سائلاً الشاب بخشونة
مالذي قلته قبل قليل ؟
لم يكترث الشاب بسؤال الجندي الدرزي .. فقال لها نفس الجملة السابقة ولكن هذه المرة بعبرية سليمة ثم زاد عليها أكثر .. مما جعل السائق يرجوه أن يصمت
التفت الضابط إلى جنوده قائلاً
مرحا مرحا .. يبدو أننا وقعنا الليلة على صيد من النوع العنيد .. لن تكون هذه الليلة مملة كالليلة السابقة .. ثم وجه حديثه للشاب طالباً إياه أن ينزل من السيارة رافعاً يده لأعلى
نزل الشاب من السيارة وكل البنادق التي بحوزة الجنود مصوبة نحوه .. فطلب منه الضابط وهو يصرخ أن يرفع يده لأعلى ويتقدم نحوهم .. وضع الشاب يده فوق رأسه ودار حول السيارة ليتقدم نحو الجنود .. ثم صرخ فيه الضابط بأن يتوقف
توقف الشاب وهو يتمتم بكلمات سمعها الضابط ولكنه لم يفهما .. فقال له : ماذا تقول ؟
الشاب .. دع الكلب الدرزي زياد يترجم لك هذه المرة
استشاط زياد غضباً وهرول نحو الشاب وهو يسبه ويشتمه .. ولكن الضابط استوقفه وطلب منه أن لا يقترب منه .. وبالرغم من استفزاز الشاب للجندي الدرزي بشتائم أخرى إلا أن الدرزي لم يتحرك من مكانه .. بل تراجع للخلف وكأنه شاهد شيء في عين الشاب جمد الدماء في عروقه
طلب الضابط من الشاب بعصبية أن يدير وجهه نحو السيارة ويرفع ملابسه لأعلى .. فأدار الشاب وجهه باتجاه السيارة … ولأول مرة تشاهد سمر وجه الشاب بوضوح .. ولكنها شعرت أن هذا الوجه لم يكن غريباً عليها وأنها شاهدته من قبل ولكنها لا تذكر أين
بدأ الضابط يصرخ في الشاب وقد زادت عصبيته أكثر طالباً منه أن يرفع ملابسه لأعلى
كان واضحاً من أن العناد قد بلغ بالشاب مبلغه .. فأنزل يده من فوق رأسه وهو ينظر إلى السماء بشموخ وكبرياء .. وبدلاً من أن يستجيب لصراخ الضابط الذي يأمره برفع ملابسه لأعلى .. التفت إليهم بتحدي غير عابئ بتهديده واضعاً يده بجانبه كأنه أسد أحاطت به عشرات الضباع المذعورة
توقف المشهد على هذا الحال نصف دقيقة .. وكلما زاد صراخ الضابط وعدم مبالاة الشاب .. أيقن الجنود أن خطر ما سيحدث فيتراجعون أكثر نحو دروعهم مصوبين بنادقهم نحو الشاب الذي ظل واقفاً مستهتراً بهم
أطلق الضابط باتجاه الشاب رصاصتين تحت قدميه .. ولكنه لم يتحرك حركة واحدة .. لم يكف الضابط الذي جن جنونه عن الصراخ وهدده إن لم يفعل ما يأمره به سيقتله فوراً ثم أعقب تهديده برصاصتين ثم بصلية طويلة جعلت ركاب السيارة يصرخون من الخوف ثم انتهى الأمر بصلية أخرى أطول .. ولكنها هذه المرة أصابت جسد الشاب فسقط فوراً على الأرض وأصيب أحد إطارات السيارة برصاصة ومرت رصاصة من النافذة بجوار السائق كسرت النافذة الأخرى بعيداً عن رأس العقيد بسنتيمتر واحد بينما استقرت رصاصتان في مؤخرة السيارة
رفع الركاب رؤوسهم مرةً أخرى بعد انحنائهم يتفقدون أنفسهم .. باستثناء سمر التي لم تنحني فقد جمدها المشهد في مكانها .. فأخذت تنظر من نافذة السيارة نحو جسد الشاب الملقى على الأرض تمني نفسها أن الرصاص لم يصبه .. وأنه انبطح أرضاً كي يتفادى الرصاص .. ولكن بقعة الدماء التي شاهدتها بجوار جسد الشاب الملقى على الأرض جعلتها توقن أنه أُصيب فعلاً
وما أن شاهد الصبي الدماء حتى بدأ يكبر وكذلك العجوز وزوجته واختلط البكاء بصوت التكبير ومازلت سمر تتسمر في مكانها تنظر لبقعة الدماء التي بدأت تكبر أكثر وأكثر