إن كل شيء فيّ عادي : الأنف، العينان، الفم، الشعر، إنني أتساءل كيف يستطيع الناس التعرف إلي، وأنا عادي إلى هذه الدرجة.
إن شعري ليس مجعداً، ولا يوجد نمش في وجهي، وليس عندي شيء كبير جداً، أو صغير جداً. إنني لست سميناً ولا نحيفاً، شعري كستنائي وعيناي عسليتان. كم أود أن يكون عندي ندبة، أو أي شيء آخر يميزني عن الآخرين، خاصة، في مدرسة " كليرمون ".
هنا، في " برامفان "، أنا " دولوز الصغير " وهذا معناه : حفيد جدي. وجدي شخصية معروفة، وإذن، أنا مثله.
جدتي كانت تقول له دائماً : أنت أنيق جداً. إن جدي يرتدي، دائماً، بزة مع صديري من اللون نفسه، وربطة عنق مناسبة، إنه رائع. وأنا أحب كثيراً أن أتنزه معه، إن هذا يعطيني بعض الأهمية.
جدتي أيضاً، كانت مميزة جداً، أما أنا، فلا أعتقد إنني غير ملفت للنظر. وسوف أحاول أن أعدّل ذلك، عندما أصبح كبيراً. أود أن أصبح لائقاً وجذاباً. لقد فات الأوان لأتمنى أن أصبح نجماً : لست جيداً في الشفهي، وأغني بشكل وسط، لا أعزف على أية آلة موسيقية، غير الهارمونيكا. إن عمي " جان " هوالذي علمني العزف عليها. وعندما أخبرت أستاذ الموسيقا بذلك، لم يبد عليه أنه وجد ذلك مميزاً البتة.
وبالإضافة إلى الهارمونيكا، أصّفر، إنني أعشق التصفير، خاصة الآن، وأنا لا أستطيع الكلام.
عندما أصل إلى " برامفان " مع باص المدرسة، أركض إلى المنزل، وأصفر " دو - فا - مي "، فإذا كان جدي موجوداً، يجيبني بالطريقة ذاتها هو الآخر. وإذا كان غائباً، فهذا لايهم، أصعد إلى غرفتي. وعندما يعود أسمع صوت أقدامه على الدرج، مما يثير في نفسي شعوراً غريباً، لأنه في زمن جدتي، لم يكن يصعد إلى فوق أبداً.
إن سماع وقع أقدامه يجعلني اضطرب. إنني أشعر بالرغبة في البكاء إذا كانت حالتي سيئة كما في مثل هذه الأيام.
في الواقع، أشعر بالخجل أمام جدي، ومع ذلك، فهو مرح، ولطيف جداً، بعض الأحيان، وليس غالباً، نلعب معاً بورق اللعب.
يكون مستحيلاً ألا تحبي جدي، الجميع يحبونه.
***
هذه المرة، سأقص عليك شيئاً طريفاً :
مدرّسة الرياضيات تدعى الآنسة " بوز". إنها متوحشة، والجميع يكرهونها، ويحتقرونها. إذا رأيتها تحك رأسها، فهذا فأل سييء ! إنها تحك رأسها، دائماً، عندما تريد أن تقذف جملة لاذعة أو جارحة لواحد منا نسي كتابة واجبه، أو " يلعب دور الأحمق " على كرسيه.
حتى الأولاد الكثيرو الحركة، مثل " لودفيك " يخافون منها. إنها قادرة على جعلك أضحوكة. أو أن تجعلك تشعرين بالخجل بمجرد النظر إليك فقط.
والحالة هذه، تخيلي أنه توجد في الصف - نحن دائماً نبقى في الصف ذاته لأن مدرستنا قديمة وكبيرة جداً - توجد فتاة داخلية : إنها سمكة حمراء موضوعة في حوض بلوري. لقد قدّمناها لمدرس اللغة الفرنسية بمناسبة أعياد الميلاد، ولكنه شرح لنا أن ابنته لديها قطة قد تأكل السمكة " نيمو " إذا أخذها إلى منزله. فقررنا أن نبقيها في الصف إن السيد " دولاهي " هو الذي يشتري لها طعامها، ونحن نغير لها الماء من وقت لآخر. وفي أيام العطل، نختار بالقرعة الشخص الذي سيأخذها للإقامة عنده.
هاهي " بوز " تأخذ مكانها على المنصة، وتجلس، بينما نحن نجمد على مقاعدنا، لأن هذه هي اللحظة التي ستختار فيها من سيكتب على السبورة. وتمر إصبعها على دفترها، وتعرف، وتقول لنفسك : هنا تجاوزت حرف النون، بعد ذلك تْراك تعود للصعود. أنت تعرف : إنها سادية.
- هذا الصباح، تقول، " دوبو " !
أوف، تصوري الصف خمساً وعشرين مرة، دون " دوبو " الذي يقف وكأنه شهيد. يأخذ الطبشورة، وتتراجع " بوز " قليلاً على المنصة، دون أن تنهض، لتفسح له المجال للمرور. استمعي جيداً : إنها تتراجع تتراجع كثيراً جداً، وتهوي رجل من أرجل الكرسي في الفراغ : فتتأرجح " بوز " وتتمسك بالمكتب، ويتبعها المكتب، وحوض السمكة أيضاً... وخلال ثانية واحدة أصبح كل شيء على الأرض، و" نيمو " معهم !
لا يمكنك تصور الانفعال الذي حدث ! لقد كدنا نموت لعدم قدرتنا على الضحك علناً. واندفع الطلاب الجالسون في الصفوف الأولى لمساعدة الآنسة " بوز " في النهوض. كانت ذراعها تؤلمها، المسكينة، ولكنها استقامت ووقفت دفعة واحدة وهي تطلب من عريفي الصف أن يعيدا المكتب إلى موقعه الأول، ومن كل واحد أن يجلس مكانه.
ومن أجل " نيمو " اضطررنا للذهاب إلى المطبخ، لإحضار وعاء مربى فارغ، لأن وعاءها كان قد انكسر فعلاً .
بعد ذلك، صفقتنا بمذاكرة كتابية، لمدة ساعة. إنها مسألة استعادة هيبة. لقد كانت هذ الحادثة أقوى من قدرتنا على التحمل بكثير، فمن حين لآخر، كان واحد منا ينفجر ضاحكاً، بشكل عصبي، دون أن يتجرأ على رفع رأسه. وحتى النهاية، تصنّعت " بوز " عدم ملاحظتها أي شيء.
لقد توقفت عن الكتابة لكِ، منذ أكثر من شهر. لم أعد أستطيع تحمل نفسي، وجدي لم يعد يستطيع تحملي. إنني أغرق نفسي في الصمت، لأنني خجل جداً من هذا الصوت المرتعش. إنك الشخص الوحيد الذي أرغب في التحدث إليه، دون أن أكون مجبراً، إذن، لو توقفت عن الكتابة لك فسوف أنتهي. وبالإضافة لذلك، إذا لم يعد صوتي إلي، فلن توافقي على الزواج مني، ولن يكون لنا أطفال. سوف أصبح بائراً، أخرس يضع نظارات، ونظارات سميكة جداً.
لم أعد أعرف ماذا علي أن أفعل،
وكذلك جدي.
وكذلك الدكتور " بالان "
وكذلك أخصائي السمع.
كلهم يدّعون أنني " لا أشكو من شيء "
إذا كنت " لا أشكو من شيء "، فهذا يعني أنني " مجنون " سوف ينتهون إلى وضعي في مصحة المجانين. إنهم يتصورون أن صمتي هذا يلائمني لسبب لا أعرفه.. ولهذا أشعر بالخجل.
بالطبع، أنا أتكلم بصوت منخفض. ولكن بمثل هذا الصوت لن تستطيعي مناقشة أو محادثة سوى شخص واحد، وهو يحاول أن يصغي إليك بانتباه، وفي مكان خالٍ من الضجة. إنني، عملياً، لا أتكلم إلا مع جدي، وأيضاً، ليس كثيراً، لأن هذا يؤلمه. إنني أتكلم أيضاً مع " جوليا " هي، على الأقل، تعتقد أن الأمر ليس خطيراً. وأصدقائي يعتقدون ذلك أيضاً، على ما أظن. ولكن، بما أنه ليس لدي أصدقاء حقيقيون، فإن زملائي في الصف، لا يعيرونني أي انتباه، والأمر سيان بالنسبة لهم لو تكلمت بصوت عال، أو منخفض، أوسكتُ.
أشعر أنني دخيل عليهم.
إنني واثق من أن جدتي كانت ستعرف ماذا تفعل، هي. لقد كانت تجد دائماً حلاً. كانت تعرف، مسبقاً، أجوبة المسائل، وكان ذلك أحياناً، بطريقة مبالغ فيها، لأنه لم يكن لديك الوقت الكافي لإيجادها بنفسك.
أنا وجدي أقل منها ثقة بأنفسنا، وهذا بطبعنا. مثلاً، نذهب إلى المقبرة. يجب أن نتذكر أخذ الورود من الحديقة، نفعل ذلك. ولكن إبريق الماء، ننساه، أغلب الأحيان، وهكذا، يجب أن نعود إلى الصنبور الموجود في الطرف الآخر، وكذلك، يلزمنا مكنسة صغيرة، لتنظيف القبر من الأوساخ، ولا نحضرها أبداً معنا، فلهذا نمسح القبر بخنشار الزهرية التي قمنا باستبدالها.
ثم نتلو صلاتين : جدي واحدة، والأخرى أنا، وإلا سوف يكون مخيفاً أن نبقى جامدين هنا، كلّ يفكر مع نفسه. بعد ذلك نذهب، ولا يعود لنا تنفسنا الطبيعي، حتى نصل أمام محل صانع الأحذية.
كل يوم تسألنا "جوليا " عما نريد أن نأكل في اليوم التالي. لا توجد لدينا أفكار أبداً.
***
حاولي يا شوكس : إنني بحاجة إليك !
حاولي أن تدخلي تاريخ حياتي، قبل الوقت الطبيعي. سوف تكونين رؤيا، وعند حدوثها، معجزة ! سوف أتكلم من جديد. إنني أفكر في هذه الجملة من الكنيسة : " قل فقط كلمة واحدة، وسوف تشفى نفسي ".
ولكن بالنسبة لي سوف تكون بالعكس : " أعطني، فقط، نفسك، وسأنطق." .
إنني أقول لك " أنتِ " يا صديقتي الصغيرة في المستقبل. يجب ألا أتوقف عن الكتابة في هذا الدفتر. إنني افضّل أن أكتب لك، أكثر من الذهاب المتكرر إلى الدكتور " بالان " مثل " كره الصوف ". ومع ذلك، فالدكتور " بالان " يهتم بي كثيراً وفي هذه الفترة، يطلب مني كتابة الجمل التي لفتت انتباهي خلال النهار، على ورقة. اليوم كتبت:
" - حزمة ضائعة
- دون حق في الإعادة، أو رسم أمانة.
- العلامات الفارقة لاشيء ".
وبدا الدكتور سعيداً جداً. بعد ذلك طلب مني أن أقص عليه ( بصوت منخفض ) قصة، مستعملاً هذه الكلمات. فقصصت عليه قصة زجاجة عادية جداً، لدرجة أنه لم تكن لها " علامات فارقة " وقد كتب عليها " دون حق في الإعادة، أو أية تعليمات أخرى ". وقد أُلقِيَتْ هذه الزجاجة في صندوق للقمامة، وكانت رائحتها عفنة جداً. وكانت تعيسة جداً لفكرة أنها ستقضي آخر أيامها في مكان القاء القمامة التي تعج بالغربان.
لم تكن تريد أن تدفن تحت الأنقاض، أو أن تتكسر إلى آلاف القطع.
هنا، ترددتُ في المتابعة وبعد ذلك كدت أن أتوقف، ولكن السيد " بالان " ابتسم لي الابتسامة الأكثر إشراقاً، وهو يقول كعادته : يا للأمر !
وتابعت عندئذ قصتي، بسبب هذه الابتسامة، إن الميزة الوحيدة التي يتمتع بها هذا الشخص هي ابتسامته.
البقية كانت سطحية : فتاة صغيرة تدعى " شوكس " تريد تزيين غرفتها بالورود، ولكنها لا تملك سوى واحدة منها، لونها زهري، وليس لديها مزهرية عنقها طويل، ورفيع لحمل الساق، فترفع غطاء صندوق القمامة في الطريق، وتجد تلك الزجاجة. لا حظي، أنها زجاجة جميلة، من الخزف الملون، صغيرة قليلاً، ودون فتحة فم واسعة. فتأخذها لمنزلها، وتنظفها، وتصبح الزجاجة لائقة، حسنة المظهر، مثل مزهرية، وتضع الفتاة وردتها فيها، والكل على منضدتها.
بدا " بالان " أكثر سعادة.
ولكني أنا، وبما أنني لست مجنوناً أبداً، فهمتُ وبالضبط ما كنت أقصه تباعاً، لأنني كنت أفكر فيك.
إنني أتحسن قليلاً.
جدي بدأ يعتاد على الوضع.
إنه إنسان له عاداته الثابتة. إنه منظم ومرتب جداً. إنه يدوّن كل ما عليه أن يفعله على ورق، ويضعه في ملفات خاصة، ثم يصنفها في ملفات أكبر، أويضعها في بعض الأحيان في حقيبته. إنه لايقول " رتّب " بل " اطو "، " هل طويت أغراضك في حقيبتك، يا نيقولا ؟ "
سابقاً، كنت أذهب لشراء الحاجيات، هنا في "برامفان ". والآن، نذهب أنا وجدي إلى " كاموت "، ونشتري كل ما نريد. إن " جوليا " هي التي تكتب القائمة. ولكن، بالإضافة لذلك، يأخذ جدي أشياء كثيرة، عن الرفوف. أحياناً، أخاف ألا نتمكن من تسديد ثمنها، فأمتنع عن شراء الشوكولا.
أما فيما يخص الثياب، فليست لديه أفكار مثل جدتي، مما يدعوني لاختيارها بنفسي. لقد وافق على شراء بنطال جينز " رانغلر " وحذاء رياضة. إنني استعملهما دائماً، حتى في الأيام الممطرة. جدتي لم تكن لتوافق على ذلك. ارغب كذلك في شراء سترة جلدية، ولكنني لا أجرؤ على طلبها من جدي، فنحن لسنا أغنياء كثيراً.
منذ حصولي على الجنيز، ازداد شبهي بالآخرين أكثر كثيراً، وشعرت بتحسن كبير، ثم إنني أركض، مثل " حمار الوحش ". إنه يّدفعني للحركة والنشاط. إنني أمثّل لنفسي. ما رأيك لو اشتغلت في السينما الصامتة ؟
للأسف، لقد أصبَحَتْ موضة قديمة، وانتهى عهدها. ولكنني أحب كثيراً رقص " الروك ". فيما بعد، سنحضر حفلات كثيرة، سوف أمرجحك، أرفعك وأمررك فوق كتفي. هوب ! لن أرقص إلا معك. هناك أولاد في صفي يتحدثون عن حفلات " بوم " راقصة، ولكنني لم أدع إليها أبداً. إن أولاد " المجمع المدرسي " هم كالفقراء في " كليرمون ".
قمت، مع جدي، بغربلة جميع الصور التي تظهر فيها جدتي، لتكبير الصورة الأجمل بينها. توجد صورها ( القبل ) و ( البعد ) : قبل مرضها، وبعده. جدي يحب صورها القديمة، أما أنا فلا. عندما كانت جدتي بصحة جيدة، لم أكن أعرف أنني أحبها إلى هذا الحد، ولا أنها تحبني لهذه الدرجة. ولكن بعد أن نحفتْ، ولم تعد تخرج، أصبحنا، نحن الاثنين، كأننا شخص واحد.
كانت تحب الاشياء التي أحبها ذاتها : مشاهدة التلفاز، الثرثرة، اللعب، الجلوس بهدوء، وأنا أصبحت أكثر حيوية. لقد تملكتني الرغبة في القيام باكتشافات، كي يتسنى لى أن أقصها عليها عند عودتي إلى المنزل. كانت تستمع إليّ، وكان هذا يسعدها. كنا نتكلم معاً عدة ساعات. وكنا متأكدين تماماً من أنها سوف تشفى، مع كل الأدوية التي كانت تتناولها.
إن الموت هو سوء حظ رهيب، ولكن الشيء الأكثر رهبة هوأن نولد ! ألستِ من رأيي ؟!
إنني أتساءل : لماذا وقعتُ على نفسي ؟ كنت أفضّل أن أكون شخصاً آخر، مثلاً " أنجلو " ! للأسف، ليس لنا الخيار !
هذه قصتي المرعبة، يا شوكس : ولدان في نفس العمر، يصابان بحادث في الوقت نفسه، أحدهما يموت، والثاني يحتضر، نرفع دماغ الميت لأنه سليم ونضعه في جمجمة الحي، لأن دماغه معطوب جداً. لنقل إنني الثاني... من أكون ؟ هو أم أنا ؟ !
لقد حدثت لي " واقعة ". لو أنك فقط تستطيعين أن تقولي رأيك بها.. إنني لا أريد، مطلقاً، التحدث عنها مع الدكتور " بالان ".
بعض الأحيان، ألعب في السقيفة، عندما لا تكون جوليا موجودة. جدتي لم تكن تحب أن أقترب منها، لأنها كانت تحب النظام، حتى تحت السقف. بالتأكيد، أعرف كل شيء هناك، عن ظهر قلب : الكتب القديمة، أدوات المطبخ القديمة، الألعاب المكسرة، والعلب والثياب البالية وقطع القماش... ولكنني لم أتجرأ أبداً، على النظر داخل الخزائن التي وضعت جدتي عليها ملصقاً كتبت عليه:
" لا تزعج ". هذه المرة، فتشتُ بداخلها، وجدت ثياباً، حتى ثوب زفاف جدتي، وكذلك علب قفازات، وأحزمة، وقبعات... واكتشفت تحت هذه الكومة علبة كرتون، كتب عليها " ماري " !
" ماري " هي والدتي. وجدت داخل العلبة أوراقاً، ودفاتر مدرسية، وبطاقات تهنئة بعيد الأم، وقميصاً صغيراً، وكذلك رزمة رسائل.
ماذا كنت تفعلين لو كنت مكاني ؟ لقد فتحت الرسائل، وحاولت قراءتها، لأنها كانت بخط غير واضح. ووجدت بين الرسائل رسالة بدت لي مهمة.
أخذتها إلى غرفتي. إنني لا أنسخها لك، بل ألخصها: كتبت أمي لجدي وجدتي أنها قابلت رجلاً، أحبها وأحبته، وأنها تنتظر مولوداً، وأنها لا تستطيع الزواج من هذا الرجل، وستقول لهما السبب، الأحد المقبل . وبعد ذلك لم يعد هناك شيء حول هذا الموضوع. كانت رسالة حزينة، حزينة جداً.
لم أكن أتصور أبداً أن أمي كانت تعيسة. لقد هزتني هذه الفكرة مع ذلك، ومنذ ذلك الحين، وأنا أود أن أعرف لماذا لم يكن أبي يريد أن يتزوج أمي إذا كان يحبها. لقد كانت جميلة، أليس كذلك ؟ أنا كنت أظن أنهما كانا ينويان الزواج يوماً ما، ولكنها توفيت قبل ذلك، وأن أبي لم يُرِد أن يتعب نفسه بولد، لأنه كان يحب أن يذهب إلى آخر العالم، مثل قائد طائرة. والحقيقة أني لم أكن اعتقد شيئاً، لأنني لم أجد الرغبة في التفكير بهذا الموضوع.
( ليست لك الرغبة في التفكير بأن والدك هو من النوع الذي يذهب، دون أن يترك عنواناً ).
كنت أقول لنفسي : أمي، على الأقل، اعتنت بي طوال حياتها، وكذلك جدتي وجدي، بينما هو لم يكن بحاجة لي.
تبّاً له :
إن الشيء الذي أدهشني في الرسالة هو أنهما كانا متحابين، هي التي كتبت ذلك. لو أن جدي وجدتي كانا يعرفان من هو والدي، لماذا لم يحدثاني عنه ؟ هل هو غير لائق ؟ هل هو دنيء ؟ هل هو أكبر سناً من جدي ؟!
اعتقد أن كل العائلة على علم بالموضوع.
سوف أحاول أن أسال العم " جان ". إنه يأتي الأحد. أما جدي، فلن أتجرأ على سؤاله أبداً.
***
لم أستطع. إنك لاتسطيعين سحب شخص، مثل العم " جان " إلى غرفتك دون أن يعلن على الملأ أنه ذاهب إلى غرفتك، تاركاً الأبواب مفتوحة.
لقد أريته طائرة الورق التي صنعتها في حصة الأشغال اليدوية. هذا كل شيء.
***
ماهو الفرق بين مكبر الصوت، ومصغِّر الصوت، وصوت جميل ؟ !
سؤال بمائة فرنك !
إنني لازلت لا أتكلم.
قلت لك، في المرة الماضية، إنني أردت معرفة شيء ما عن أبي، والآن، ليذهب عني.
أنا عندي جدي مثل أب. إنه أب ممتاز. إنه يربيني جيداً، حتى بدون جدتي.
عندي شعور بأن والدي محبوس في علبة، لو فتحناها، سينطلق منها عفريت. لدينا، في البيت، ما يكفينا من المتاعب، بعد جدتي وصوتي اللذين رحلاً !
أنت على الأقل، يا عزيزتي، سوف أختارك بنفسي، وأنت سوف تختار ينني بنفسك. إنني أكره والدي. نقطة (وكفى).
إنني لا أمتّ له بأية صلة، ولا حتى اسمه. إن اسم عائلتي هو " دولوز "، سوف تدعينني " دولوز" أنت أيضاً. ربما " ليندون - دولوز " حتى إنه اسم جميل.....
***
لا أريد أن أعرف شيئاً عنه، ولكنني أفكر بهذا دون توقف.
إنني مشاكس. عندما كانت جدتي على قيد الحياة، كنت أقل إثارة للمشاكل. كنت أتكلم " عالياً ". كان لي جد وجدة، مثل الأهل تماماً. لم أكن أفكر بالماضي.
كنت " الصغير دولوز "، ولكن " الآلة " أصابها العطب. والآن، الذهاب إلى " كليرمون " قاسٍ، ثم الباقي...
أستطيع الادعاء أن جدي بخير، ولكننا، نحن الاثنين معاً، لسنا سعيدين. إن موضوع حبالي الصوتية هوالذي يثير سخطه. في اليوم الماضي، عندما وصلت، سمعته يقول للسيدة " بويار " - " لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر، ربما يجب اتباع هذا الحل ".
بدا عليهما الضيق، لدى رؤيتي.
هل كانا يقصدانني ؟
يا صغيرتي " شوكس، ما هو لون عينيك ؟!
لو كنت أنا...
لقد أردت كتابة : " شوكس " لو كنت مكانك، لظهرت في أحلام " نيقولا دولوز " تعالي لزيارتي.
في الليل، أحلم كثيراً. إنه عالم مختلف، يسير على طريقته بشكل جيد. بعض الأحيان، أشاهد أحلامي كما لو كنت في السينما، إنني ممثل ومتفرج في آن. وفي أحيان كثيرة، أكون بداخلها سعيداً، سعيداً.. وعندما يرن جرس المنبه... يالخيبة الأمل ! يجب أن أعود إلى العيش، حياة طبيعية من جديد، قليلاً، أو كثيراً.
إنني واثق من أن جدتي كانت تحلم في أيامها الأخيرة. كانت في الجهة الأخرى من نفسها ولكنها كانت نفسها أيضاً. كانت ترى الأشياء بالمقلوب، مثلي عندما أسير ليلاً في نومي.
إنني أسير في نومي، يا شوكس. بين وقت وآخر، أنهض، وأرتدي ثيابي وأظن نفسي في مكان آخر، وأتجول في غرفتي، دون أن أصطدم بشيء. وفي إحدى المرات، كنت وحدي، في شقة " سان فلور" وكان جدي وجدتي قد ذهبا إلى السينما، فذهبت، وطرقت باب الجيران، من نفس الطابق، وأنا نائم. وعندما ظهرت السيدة أمام بابها، في قميص النوم، استيقظت ! قبلتني، فأصبت بصدمة رهيبة، ( ومنذ ذلك الوقت وأنا أتحاشى قُبَل السيدات، إنني أمد يدي). ثم أجلستني في صالونها، حتى عودة العائلة .كنت أموت خجلاً.. ( إنه لمن الصعب أن تعرف ماذا يجري في الرأس ) في الواقع، لايهمني إطلاقاً أنني أسير خلال نومي، بشرط ألا يأتي أحد ويفاجئني.
غالباً ما يسمعني جدي، فيصعد، ويوقظني وقع أقدامه على الدرج، فأسرع إلى سريري، وأتظاهر بالنوم، ولكن قلبي يدق دقاً عنيفاً، واضطرب كثيراً، فيظن أنه أخطأ، وينزل. أف !
في آخر مرة حدث ذلك، كنت ألبس حذائي، كنت أحلم بأننا ذاهبون لجمع الفطر، لا أعرف مع من. وفي الغد، تساءلت " جوليا " لماذا يوجد تراب في سريري.
فيما بعد، إذا رأيتني أسير في نومي، لا تتحركي. ولا تشعلي الضوء. وفي اليوم التالي، ستخبرينني ماذا صنعت. أحب كثيراً أن أشاهد نفسي....
أنني أتكلم كثيراً أيضاً وأنا نائم، كما يبدو. ربما أعرف أسراراً، ستقولينها لي.
لو كنت أنا، يا شوكس، سوف أكون كما في الأحلام السعيدة.
الكوابيس نادراً ما تحدث لي.
تعالي لرؤيتي عندما أنام، سوف نحلم الأحلام ذاتها نحن الأثنين. سوف نتنزه في الليل نفسه.
إنني أعرف، يا شوكس، يدي، وعيني، وجلدي.... ولكن الداخل هو أنا أيضاً. إن جلد معدتي هو نفسه جلد وجهي. إنني أمضي وقتاً طويلاً في التفكير بغرابة كوني هذا الحيوان... وأنت ؟!
تصوري حيواناً، أياً كان، ليس عليه وبر ولاريش، ولكن فقط جلد مثلنا هذا فظيع، أليس كذلك ؟ أو تصوري أن يكون جلدنا شفافاً، وأن نرى كل الآلية من خلاله.. هذا أفظع بكثير، لا ؟
يا شوكس، ماذا لو كنا قططاً ؟!
لقد ذهبت اليوم لحمل وعاء، يحتوي خياراً مخللاً، للسيدة " بويار " من عند " جوليا "، فقدمت لي شوكولا ساخنة مع الكاتو، في غرفة طعامها.
كنا نحن الاثنين معاً. لم يكن هناك ضجة. وفجأة سمعت نفسي أسألها ( بصوت منخفض، بالتأكيد ) : - يا سيدة " بويار "، من هو أبي ؟
فتحت عينيها، وقالت : - لماذا لا تسأل جدك ؟ سوف يقول لك حتماً.
وقد يواسيه أنك تود معرفته بسبب صوتك.
أنا - بسبب صوتي ؟
هي - صوتك، ليس خطيراً. ليس عندك شيء معطوب. لست محللة نفسانية، لكن ربما كان اختفاء السيدة " دولوز " قد ذكّرك باختفاء أمك، حتى لو أنك لا تتذكرها. برأيي، إنهم يحيطون ولادتك بغموض كبير، سيكون من المستحسن أن يخبرك جدك، بالضبط ماذا حدث في الماضي.
وهكذا تتجمع عندك كل العناصر لحل مشكلتك، حتى لو كان الأمر لن يسرك أو كنت لا ترغب بذلك. إن جدك يخاف فقط أن يرهق أعصابك أكثر فأكثر. هل تود معرفة ذلك ؟
أنا - كلا كنت أريد، فقط، أن أتأكد من أنك أنت أيضاً تعرفين، لكن ذلك لايهمني.
وذهبت...
لم أتصرف بشكل لائق.... لم أكمل قطعة الحلوى.
والآن، لم أعد أجرؤ على النظر إلى السيدة " يويار "وجهاً لوجه.